إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

5 رؤساء و13 رئيس حكومة.. مسارات انتقالية مختلفة لثورة واحدة !

 

تونس - الصباح

الثورة التونسية أحدثت تحوّلات سياسية عميقة وأفرزت مسارات للانتقال الديمقراطي وملامح مختلفة للحكم باختلاف الحكومات والأنظمة والرؤساء، هذه نتيجة لا يمكن المجادلة بشأنها أو القفز عليها في الذكرى الرابعة عشر للثورة، ورغم أن هذه الثورة فقدت في ذهن التونسي توهّجها وإشعاعها مقارنة بالسنوات الأولى بعد إسقاط نظام بن علي، إلا أن ما أحدثته من تغييرات سياسية على مدى كل هذه السنوات شكّل واقعا جديدا وتغييرا مهما في ملامح الجمهورية من نظام إلى آخر !

خمسة رؤساء و13رئيس حكومة وثلاثة دساتير في أربعة عشر سنة هي عمر الانتقال الديمقراطي بعد الثورة، منحت الجمهورية ملامح جديدة مع كل حقبة واختلافات على مستوى طبيعة النظام والعلاقة بين السلطات الثلاث..، 13 رئيس حكومة بينهم امرأة تقلّدت المنصب لأول مرة في تاريخ البلاد وهي نجلاء بودن، دخلوا قصر الحكومة بالقصبة منذ الثورة إلى اليوم،بعض هؤلاء الرؤساء اقترن حكمه بأحداث مؤلمة مازالت إلى اليوم تلقي بظلالها السوداء على المشهد السياسي وهي بالأساس عملية اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والبعض الآخر كان دخوله إلى القصبة مفاجئا، وضربة حظ ليس إلا.. بعضهم حاول أن ينجح ولكنه فشل لأن أحزابا خذلته، والبعض الآخر كان هو من خذل وانقلب وخان ثقة من وثق به، كلهم شخصيات مختلفة عن بعضها البعض، في الأفكار والتوجهات والرؤى وفي الخبرة والتجربة لكن رغم هذا الاختلاف فإن نهاية فترة حكم أغلبهم كانت متشابهة.. خروج دون أثر !

ملف من إعداد : منية العرفاوي

وزاد تجريد منصب رئيس الحكومة من الصلاحيات التي أقرّها دستور 2014 وإعادة السلطة التنفيذية إلى رئيس الجمهورية في تهميش المنصب، بينما أصبح منصب رئيس الجمهورية وفق دستور 2022 مصدر القرار والقوة في السلطة التنفيذية بعد إعلان إجراءات 25 جويلية والذهاب بالبلاد إلى مرحلة انتقالية ثالثة بدأت اليوم تستقر مؤسساتها رغم تواصل غياب بعض المؤسسات المهمة في البناء الديمقراطي وهي أساسا المحكمة الدستورية .

مسارات الانتقال الديمقراطي..

لتحقيق الانتقال من الحالة الثورية التي انتهت بمغادرة الرئيس الراحل بن علي تونس مساء 14 جانفي 2011 إلى حالة استقرار سياسي ومؤسساتي مرّ ذلك طوال الـ 14 سنة الماضية بعدة مراحل، حيث تميزت المرحلة الأولى بالبقاء ضمن صلاحيات دستور 59 قبل تعليق العمل به بعد تشكيل حكومة الباجي قايد السبسي وبداية تلّمس الاستقرار بعودة مؤسسات الدولة لتظفر بثقة الشعب مجدّدا، واستمر هذا الوضع أثناء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي والتي أفرزت ما يسمّى بـ «الدستور الصغير» أو الدستور المؤقت الذي أرسى تنظيما مؤقتا للسلطات الثلاث مع منح ثقل السلطة ومركز الحكم للبرلمان، حيث كان المجلس التأسيسي من خلال الأحزاب التي كانت مهيمنة على القرار داخله هو المتحكّم في كل العملية السياسية وكانت الحكومة خاضعة لتوجهات وتعليمات حزب الأغلبية -حركة النهضة - مثلها مثل البرلمان، في حين كانت رئاسة الجمهورية دون أدوار تقريبا ورئيس الدولة أقرب إلى منصب شرفي لا تأثير له في صناعة القرار السياسي ..

ورغم أن فترة "الترويكا" والتي كان يبدو في الظاهر منها اقتسام السلطة بين الأحزاب الثلاثة "المؤتمر" و"التكتّل" و"حركة النهضة"، من خلال تعيين البرلمان للمرزوقي رئيسا، وانتخاب مصطفى بن جعفر رئيسا للبرلمان، في حين كانت الحكومة من نصيب "حركة النهضة"، إلا أن الواقع أثبت أن "الحركة" كانت محكمة سيطرتها على كل مؤسسات الدولة ولم يكن للمرزوقي ولا بن جعفر ثقل كبير في إدارة العملية السياسية ..

تلك المرحلة التي كان فيها التهافت على اقتسام الحكم والنفوذ داخل الدولة مهيمنا على بناء المؤسسات طبعت لاحقا دستور 2014 على مستوى توازن السلطات حيث ظلت السلطة التشريعية مهيمنة على التنفيذية وهو ما سيخلق بعد انتخابات 2019 أزمة كبيرة على الاستقرار الحكومي والسياسي انتهت بإعلان إجراءات 25 جويلية حيث تم تعليق العمل بالدستور في مرحلة أولى قبل إلغائه والذهاب إلى دستور جديد وضع للجمهورية ملامح وسمات جديدة وهو دستور الاستفتاء الذي يعدّ بمثابة مرحلة جديدة في مراحل الانتقال الديمقراطي الصعب والمتعثّر على أكثر من مستوى ..

دستور الاستفتاء الذي غيّر قواعد اللعبة السياسية بتغيير طبيعة النظام السياسي الذي تحوّل من نظام برلماني إلى نظام رئاسي يقود فيه رئيس الدولة السلطة التنفيذية مع حكومة تأتمر بأوامره وتنفّذ قراراته، غيّر أيضا طبيعة السلط، ففي دستور الاستفتاء أيضا تحوّلت بقية السلط إلى وظيفة، مثل الوظيفة التشريعية والوظيفة القضائية مع هيمنة واضحة للسلطة التنفيذية على مؤسسات الدولة وأجهزتها.. وفقد بذلك البرلمان قوّته كما فقد قبل ذلك تمثيلية الأحزاب داخله بعد تفعيل القانون الانتخابي الجديد الذي أتى منسجما مع الدستور الجديد وقواعده، هذا الدستور ولئن أخضع النظام إلى تغييّر عميق إلا أنه حافظ على الشكل الجمهوري لهذا الحكم، ونصّ الدستور الجديد على ضرورة احترام الحقوق والحريات، كما أقرّ الانتخابات كوسيلة للوصول إلى الحكم مع مدد معلومة ومحددة في الزمن ولكن من خلاله استطاع رئيس الجمهورية أن يسترجع صلاحياته الواسعة كما كان الأمر قبل الثورة .

13 رئيسا للحكومة !

لم يستقر منصب رئيس الحكومة بعد الثورة حتى بعد مرحلة ما بعد 25 جويلية التي كانت الأكثر حظّا في الاستقرار السياسي حيث بقي هذا المنصب غير مستقرّ بعد 3 رؤساء حكومة في ظرف أربع سنوات من عمر الجمهورية الجديدة .

أول رئيس حكومة بعد الثورة كان الوزير الأول زمن بن علي محمد الغنوشي، وكانت الحكومة الأقصر في تاريخ الجمهورية، حيث تم تعديلها بعد عشرة أيام فقط بضغط من الشارع الذي أجبره على أن يدخل تعديلات على حكومته المؤقتة في 27 جانفي 2011 بالحاق شخصيات مناضلة زمن بن علي بالحكومة مثل السياسي الراحل أحمد إبراهيم وضمت تلك الحكومة 33 وزيرا وكاتب دولة..، ولكن مرة أخرى عجزت حكومة محمد الغنوشي في نسختها المعدلة، على الصمود، ليستلم الراحل الباجي قايد السبسي منصب الوزير الأول في 7 مارس 2011 ، كانت حينها كل شوارع العاصمة تضجّ بغضب المحتجين الذين كانوا يتوجسون من عودة رجال النظام القديم ومصادرة المسار الثوري، لكن قايد السبسي عرف كيف يتعامل مع ذلك الوضع المتأجج وعرف كيف يتجاوز كل تلك الأوضاع المتشنّجة ليصل بالدولة إلى أول محطة انتخابية ديمقراطية في تاريخها في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي . ليكون حمادي الجبالي أول رئيس لحكومة ما بعد انتخابات المجلس التأسيسي التي فازت بها "حركة النهضة" آنذاك وشكلت حكومة "الترويكا" الأولى مع حزبي "التكتل" و"المؤتمر" من أجل الجمهورية. وقاد الجبالي الحكومة بـ 30 وزيرا و11 كاتب الدولة في إطار المحاصصة بين الأحزاب الثلاثة، لكن خذلته الخبرة والغرور السياسي الذي تصرّف به حزبه في وضع بدأ يتأزم بعد الانتخابات عكس ما كان متوقعا ..

في 6 فيفري 2013،هزت عملية اغتيال الشهيد شكري بلعيد البلاد، تلك الصدمة التي هزت المجتمع والدولة، واهتزت لها أيضا حكومة الجبالي التي فشلت في تنقية المناخ من العنف والفوضى، وأجبرت حمادي الجبالي على الاستقالة من الحكومة ولكن "حركة النهضة" لم تتخل عن الحكومة والتي تمثل نصيبها في الحكم والسلطة ودفعت رجلها الثاني وزير الداخلية في حكومة الجبالي، علي العريض ليقود حكومة "الترويكا" الثانية في 13 مارس 2013، حكومة ضمت 27 وزيرا و10 كتاب دولة.

حكومة العريض لم تنجح في انتزاع فتيل الاحتقان السياسي بل عمّقته وهو ما فرض حوارا وطنيا برعاية المنظمات الوطنية، هذا الحوار الوطني الذي أتى بشخصية مغمورة سياسيا هي المهدي جمعة- وزير الصناعة في حكومة العريّض- ليكون رئيسا للحكومة وتشكلت حكومته من 21 وزيرا و7 كتاب دولة، كانوا كلهم من المستقلين عن الأحزاب ولو بشكل ظاهر !

الجمهورية الثانية ..

بعد فوز "حزب نداء تونس" في الانتخابات كفل له الدستور الجديد وقتها أن يضع يده على الحكومة وهو ما حصل بالفعل بعد تعيين الحبيب الصيد رئيسا للحكومة، لكن منذ تقلّده لمنصب كأول رئيس حكومة بعد انتخابات 2014 وهو يصارع الأهواء الحزبية والانتقادات اللاذعة التي رافقت عملية تشكيله لحكومته المرتقبة. وبعد تعثّر ومشاورات مضنية تمكّن الحبيب الصيد من إعلان عن تشكيلة حكومته، حكومة ضخمة العدد تضم 42 وزيرا. واختلف الملاحظون في تسمية حكومته هل هي حكومة "ائتلاف حزبي" أم "وحدة وطنية" أم حكومة أملتها الضرورة وفرضها واقع سياسي هشّ سعى من خلالها رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي أن يكرّس سياسية التوافق مع "حركة النهضة".

الصيد الذي لم يثر ضجة حزبية ولم يواجه بالرفض من أغلب الأحزاب الممثلة في البرلمان عندما أوكل له "حزب نداء تونس" الفائز في الانتخابات التشريعية آنذاك مهمة رئاسة الحكومة رغم أنه ليس من قياداته، ولكنه آثار ضجة كبيرة عند مغادرته للحكومة عندما كشف أمام الرأي العام أن هناك من دفعه للمغادرة وإلا أنهم "باش يمرمدوه"!.

بعدها كان الموعد مع حكومة يوسف الشاهد، الذي دخل القصبة بتدبير من قايد السبسي، ليتحوّل من شخصية مغمورة دون ماض سياسي إلى شخصية تصنع الأحداث وتعيد خلط الأوراق..، شخصية استغلت وجودها على رأس الدولة لتحاول التحكّم في المشهد وصياغته وفق «طموحاتها» وأهدافها وهو الذي حكم بعقل المترشح للانتخابات الرئاسية في 2019.

فشل يوسف الشاهد في الانتخابات ومررنا إلى مرحلة سياسية جديدة لم يظفر فيها أي حزب بأغلبية مطلقة ولا مريحة بعد انتخابات 2019 ليكون الموعد مع حكومة الحبيب الجملي أول حكومة تفشل في نيل ثقة البرلمان في ليلة سقوط مدو للحزب الفائز في الانتخابات حزب "حركة النهضة" والذي اختارت قياداته السياسية المراوغة والتهرب من المسؤولية السياسية المباشرة في الحكم من خلال اختيار شخصية مغمورة من الصف العاشر للحركة لقيادة الدولة دون أن تجازف باختيار أحد قياداتها البارزة لتولي مهمة تشكيل الحكومة. ومن أسباب إسقاط حكومة الجملي هو شخصية رئيس الحكومة في حد ذاته حيث بدت شخصية مرتبكة وغير واثقة من نفسها ومن خياراتها .

الجمهورية الجديدة ..

بعد أن فشلت حكومة الجملي في نيل ثقة البرلمان استعاد رئيس الجمهورية قيس سعيد مبادرة اختيار الشخصية الأقدر لتشكيل الحكومة الجديدة وقد كان اختيار قيس سعيد وقتها اختيارا مباغتا حيث ارتأى أن يضع ثقته في الياس الفخفاخ، القيادي في "حزب التكتل" الذي كان مختفيا من المشهد السياسي. اختار الفخفاخ أن تكون حكومته سياسية تضم أبرز القوى البرلمانية ولكن اختار منذ البداية أن يرفع «الفيتو» أمام كل من حزبي "الدستوري الحر" و"قلب تونس" وهو ما سيضطر لدفع تكلفته سياسيا بعد الهجمة البرلمانية الشرسة التي واجهتها حكومته والتي لم تتوقف إلا بإجباره على تقديم استقالته وبالتالي إسقاط حكومته .

لم ينتظر الياس الفخفاخ سحب الثقة من حكومته واختار أن يقدم استقالته ويعيد المبادرة لرئيس الجمهورية قيس سعيد..، الذي كان مضطرا للمرة الثانية في ظرف أشهر قليلة على اختيار الشخصية الأقدر لتشكيل ثالث حكومة في سنة 2020 ومثل اختياره الأول، فاجأ قيس سعيد الجميع باختياره هشام المشيشي مستشاره الأمني السابق ووزير الداخلية في حكومة الفخفاخ، لكن حكومة هذا الأخير لم تعد حكومة الرئيس بل حكومة الثلاثي البرلماني المتحالف"النهضة"، و"قلب تونس"، و"ائتلاف الكرامة"، وهذا التقارب المعلن بين المشيشي والتحالف الثلاثي أثر حتى على العلاقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة التي باتت فاترة وبادرة وتأزمت أكثر بعد رفض الرئيس التعديل الوزاري الذي اقترحه المشيشي.

بعد مضي أكثر من شهرين على إقالة حكومة هشام المشيشي ودخول البلاد في مرحلة التدابير الاستثنائية أعلن قيس سعيد على مراسم إعلان تشكيل الحكومة الجديدة التي تترأسها نجلاء بودن، وتضم 25 وزيرا وكاتبة دولة. ورغم أن نجلاء بودن التي لم يعرف لها نشاط سياسي أو حقوقي تعد أول امرأة تترأس حكومة في بلد عربي، ورغم أن صلاحيات بودن لم تكن واسعة وفق الدستور الجديد، إلا أن حضورها وتأثيرها لم يكن لافتا وربما ذلك من أسباب إقالتها ليخلفها أحمد الحشاني والذي أقيل من مهامه بعد بضعة أشهر وربما فترته كانت هي الأضعف على مستوى تسيير دواليب الدولة، وخلفه رئيس الحكومة الحالي كمال مدّوري الذي تولى مهامه منذ أشهر قليلة.

منية العرفاوي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5 رؤساء و13 رئيس حكومة..   مسارات انتقالية مختلفة لثورة واحدة !

 

تونس - الصباح

الثورة التونسية أحدثت تحوّلات سياسية عميقة وأفرزت مسارات للانتقال الديمقراطي وملامح مختلفة للحكم باختلاف الحكومات والأنظمة والرؤساء، هذه نتيجة لا يمكن المجادلة بشأنها أو القفز عليها في الذكرى الرابعة عشر للثورة، ورغم أن هذه الثورة فقدت في ذهن التونسي توهّجها وإشعاعها مقارنة بالسنوات الأولى بعد إسقاط نظام بن علي، إلا أن ما أحدثته من تغييرات سياسية على مدى كل هذه السنوات شكّل واقعا جديدا وتغييرا مهما في ملامح الجمهورية من نظام إلى آخر !

خمسة رؤساء و13رئيس حكومة وثلاثة دساتير في أربعة عشر سنة هي عمر الانتقال الديمقراطي بعد الثورة، منحت الجمهورية ملامح جديدة مع كل حقبة واختلافات على مستوى طبيعة النظام والعلاقة بين السلطات الثلاث..، 13 رئيس حكومة بينهم امرأة تقلّدت المنصب لأول مرة في تاريخ البلاد وهي نجلاء بودن، دخلوا قصر الحكومة بالقصبة منذ الثورة إلى اليوم،بعض هؤلاء الرؤساء اقترن حكمه بأحداث مؤلمة مازالت إلى اليوم تلقي بظلالها السوداء على المشهد السياسي وهي بالأساس عملية اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والبعض الآخر كان دخوله إلى القصبة مفاجئا، وضربة حظ ليس إلا.. بعضهم حاول أن ينجح ولكنه فشل لأن أحزابا خذلته، والبعض الآخر كان هو من خذل وانقلب وخان ثقة من وثق به، كلهم شخصيات مختلفة عن بعضها البعض، في الأفكار والتوجهات والرؤى وفي الخبرة والتجربة لكن رغم هذا الاختلاف فإن نهاية فترة حكم أغلبهم كانت متشابهة.. خروج دون أثر !

ملف من إعداد : منية العرفاوي

وزاد تجريد منصب رئيس الحكومة من الصلاحيات التي أقرّها دستور 2014 وإعادة السلطة التنفيذية إلى رئيس الجمهورية في تهميش المنصب، بينما أصبح منصب رئيس الجمهورية وفق دستور 2022 مصدر القرار والقوة في السلطة التنفيذية بعد إعلان إجراءات 25 جويلية والذهاب بالبلاد إلى مرحلة انتقالية ثالثة بدأت اليوم تستقر مؤسساتها رغم تواصل غياب بعض المؤسسات المهمة في البناء الديمقراطي وهي أساسا المحكمة الدستورية .

مسارات الانتقال الديمقراطي..

لتحقيق الانتقال من الحالة الثورية التي انتهت بمغادرة الرئيس الراحل بن علي تونس مساء 14 جانفي 2011 إلى حالة استقرار سياسي ومؤسساتي مرّ ذلك طوال الـ 14 سنة الماضية بعدة مراحل، حيث تميزت المرحلة الأولى بالبقاء ضمن صلاحيات دستور 59 قبل تعليق العمل به بعد تشكيل حكومة الباجي قايد السبسي وبداية تلّمس الاستقرار بعودة مؤسسات الدولة لتظفر بثقة الشعب مجدّدا، واستمر هذا الوضع أثناء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي والتي أفرزت ما يسمّى بـ «الدستور الصغير» أو الدستور المؤقت الذي أرسى تنظيما مؤقتا للسلطات الثلاث مع منح ثقل السلطة ومركز الحكم للبرلمان، حيث كان المجلس التأسيسي من خلال الأحزاب التي كانت مهيمنة على القرار داخله هو المتحكّم في كل العملية السياسية وكانت الحكومة خاضعة لتوجهات وتعليمات حزب الأغلبية -حركة النهضة - مثلها مثل البرلمان، في حين كانت رئاسة الجمهورية دون أدوار تقريبا ورئيس الدولة أقرب إلى منصب شرفي لا تأثير له في صناعة القرار السياسي ..

ورغم أن فترة "الترويكا" والتي كان يبدو في الظاهر منها اقتسام السلطة بين الأحزاب الثلاثة "المؤتمر" و"التكتّل" و"حركة النهضة"، من خلال تعيين البرلمان للمرزوقي رئيسا، وانتخاب مصطفى بن جعفر رئيسا للبرلمان، في حين كانت الحكومة من نصيب "حركة النهضة"، إلا أن الواقع أثبت أن "الحركة" كانت محكمة سيطرتها على كل مؤسسات الدولة ولم يكن للمرزوقي ولا بن جعفر ثقل كبير في إدارة العملية السياسية ..

تلك المرحلة التي كان فيها التهافت على اقتسام الحكم والنفوذ داخل الدولة مهيمنا على بناء المؤسسات طبعت لاحقا دستور 2014 على مستوى توازن السلطات حيث ظلت السلطة التشريعية مهيمنة على التنفيذية وهو ما سيخلق بعد انتخابات 2019 أزمة كبيرة على الاستقرار الحكومي والسياسي انتهت بإعلان إجراءات 25 جويلية حيث تم تعليق العمل بالدستور في مرحلة أولى قبل إلغائه والذهاب إلى دستور جديد وضع للجمهورية ملامح وسمات جديدة وهو دستور الاستفتاء الذي يعدّ بمثابة مرحلة جديدة في مراحل الانتقال الديمقراطي الصعب والمتعثّر على أكثر من مستوى ..

دستور الاستفتاء الذي غيّر قواعد اللعبة السياسية بتغيير طبيعة النظام السياسي الذي تحوّل من نظام برلماني إلى نظام رئاسي يقود فيه رئيس الدولة السلطة التنفيذية مع حكومة تأتمر بأوامره وتنفّذ قراراته، غيّر أيضا طبيعة السلط، ففي دستور الاستفتاء أيضا تحوّلت بقية السلط إلى وظيفة، مثل الوظيفة التشريعية والوظيفة القضائية مع هيمنة واضحة للسلطة التنفيذية على مؤسسات الدولة وأجهزتها.. وفقد بذلك البرلمان قوّته كما فقد قبل ذلك تمثيلية الأحزاب داخله بعد تفعيل القانون الانتخابي الجديد الذي أتى منسجما مع الدستور الجديد وقواعده، هذا الدستور ولئن أخضع النظام إلى تغييّر عميق إلا أنه حافظ على الشكل الجمهوري لهذا الحكم، ونصّ الدستور الجديد على ضرورة احترام الحقوق والحريات، كما أقرّ الانتخابات كوسيلة للوصول إلى الحكم مع مدد معلومة ومحددة في الزمن ولكن من خلاله استطاع رئيس الجمهورية أن يسترجع صلاحياته الواسعة كما كان الأمر قبل الثورة .

13 رئيسا للحكومة !

لم يستقر منصب رئيس الحكومة بعد الثورة حتى بعد مرحلة ما بعد 25 جويلية التي كانت الأكثر حظّا في الاستقرار السياسي حيث بقي هذا المنصب غير مستقرّ بعد 3 رؤساء حكومة في ظرف أربع سنوات من عمر الجمهورية الجديدة .

أول رئيس حكومة بعد الثورة كان الوزير الأول زمن بن علي محمد الغنوشي، وكانت الحكومة الأقصر في تاريخ الجمهورية، حيث تم تعديلها بعد عشرة أيام فقط بضغط من الشارع الذي أجبره على أن يدخل تعديلات على حكومته المؤقتة في 27 جانفي 2011 بالحاق شخصيات مناضلة زمن بن علي بالحكومة مثل السياسي الراحل أحمد إبراهيم وضمت تلك الحكومة 33 وزيرا وكاتب دولة..، ولكن مرة أخرى عجزت حكومة محمد الغنوشي في نسختها المعدلة، على الصمود، ليستلم الراحل الباجي قايد السبسي منصب الوزير الأول في 7 مارس 2011 ، كانت حينها كل شوارع العاصمة تضجّ بغضب المحتجين الذين كانوا يتوجسون من عودة رجال النظام القديم ومصادرة المسار الثوري، لكن قايد السبسي عرف كيف يتعامل مع ذلك الوضع المتأجج وعرف كيف يتجاوز كل تلك الأوضاع المتشنّجة ليصل بالدولة إلى أول محطة انتخابية ديمقراطية في تاريخها في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي . ليكون حمادي الجبالي أول رئيس لحكومة ما بعد انتخابات المجلس التأسيسي التي فازت بها "حركة النهضة" آنذاك وشكلت حكومة "الترويكا" الأولى مع حزبي "التكتل" و"المؤتمر" من أجل الجمهورية. وقاد الجبالي الحكومة بـ 30 وزيرا و11 كاتب الدولة في إطار المحاصصة بين الأحزاب الثلاثة، لكن خذلته الخبرة والغرور السياسي الذي تصرّف به حزبه في وضع بدأ يتأزم بعد الانتخابات عكس ما كان متوقعا ..

في 6 فيفري 2013،هزت عملية اغتيال الشهيد شكري بلعيد البلاد، تلك الصدمة التي هزت المجتمع والدولة، واهتزت لها أيضا حكومة الجبالي التي فشلت في تنقية المناخ من العنف والفوضى، وأجبرت حمادي الجبالي على الاستقالة من الحكومة ولكن "حركة النهضة" لم تتخل عن الحكومة والتي تمثل نصيبها في الحكم والسلطة ودفعت رجلها الثاني وزير الداخلية في حكومة الجبالي، علي العريض ليقود حكومة "الترويكا" الثانية في 13 مارس 2013، حكومة ضمت 27 وزيرا و10 كتاب دولة.

حكومة العريض لم تنجح في انتزاع فتيل الاحتقان السياسي بل عمّقته وهو ما فرض حوارا وطنيا برعاية المنظمات الوطنية، هذا الحوار الوطني الذي أتى بشخصية مغمورة سياسيا هي المهدي جمعة- وزير الصناعة في حكومة العريّض- ليكون رئيسا للحكومة وتشكلت حكومته من 21 وزيرا و7 كتاب دولة، كانوا كلهم من المستقلين عن الأحزاب ولو بشكل ظاهر !

الجمهورية الثانية ..

بعد فوز "حزب نداء تونس" في الانتخابات كفل له الدستور الجديد وقتها أن يضع يده على الحكومة وهو ما حصل بالفعل بعد تعيين الحبيب الصيد رئيسا للحكومة، لكن منذ تقلّده لمنصب كأول رئيس حكومة بعد انتخابات 2014 وهو يصارع الأهواء الحزبية والانتقادات اللاذعة التي رافقت عملية تشكيله لحكومته المرتقبة. وبعد تعثّر ومشاورات مضنية تمكّن الحبيب الصيد من إعلان عن تشكيلة حكومته، حكومة ضخمة العدد تضم 42 وزيرا. واختلف الملاحظون في تسمية حكومته هل هي حكومة "ائتلاف حزبي" أم "وحدة وطنية" أم حكومة أملتها الضرورة وفرضها واقع سياسي هشّ سعى من خلالها رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي أن يكرّس سياسية التوافق مع "حركة النهضة".

الصيد الذي لم يثر ضجة حزبية ولم يواجه بالرفض من أغلب الأحزاب الممثلة في البرلمان عندما أوكل له "حزب نداء تونس" الفائز في الانتخابات التشريعية آنذاك مهمة رئاسة الحكومة رغم أنه ليس من قياداته، ولكنه آثار ضجة كبيرة عند مغادرته للحكومة عندما كشف أمام الرأي العام أن هناك من دفعه للمغادرة وإلا أنهم "باش يمرمدوه"!.

بعدها كان الموعد مع حكومة يوسف الشاهد، الذي دخل القصبة بتدبير من قايد السبسي، ليتحوّل من شخصية مغمورة دون ماض سياسي إلى شخصية تصنع الأحداث وتعيد خلط الأوراق..، شخصية استغلت وجودها على رأس الدولة لتحاول التحكّم في المشهد وصياغته وفق «طموحاتها» وأهدافها وهو الذي حكم بعقل المترشح للانتخابات الرئاسية في 2019.

فشل يوسف الشاهد في الانتخابات ومررنا إلى مرحلة سياسية جديدة لم يظفر فيها أي حزب بأغلبية مطلقة ولا مريحة بعد انتخابات 2019 ليكون الموعد مع حكومة الحبيب الجملي أول حكومة تفشل في نيل ثقة البرلمان في ليلة سقوط مدو للحزب الفائز في الانتخابات حزب "حركة النهضة" والذي اختارت قياداته السياسية المراوغة والتهرب من المسؤولية السياسية المباشرة في الحكم من خلال اختيار شخصية مغمورة من الصف العاشر للحركة لقيادة الدولة دون أن تجازف باختيار أحد قياداتها البارزة لتولي مهمة تشكيل الحكومة. ومن أسباب إسقاط حكومة الجملي هو شخصية رئيس الحكومة في حد ذاته حيث بدت شخصية مرتبكة وغير واثقة من نفسها ومن خياراتها .

الجمهورية الجديدة ..

بعد أن فشلت حكومة الجملي في نيل ثقة البرلمان استعاد رئيس الجمهورية قيس سعيد مبادرة اختيار الشخصية الأقدر لتشكيل الحكومة الجديدة وقد كان اختيار قيس سعيد وقتها اختيارا مباغتا حيث ارتأى أن يضع ثقته في الياس الفخفاخ، القيادي في "حزب التكتل" الذي كان مختفيا من المشهد السياسي. اختار الفخفاخ أن تكون حكومته سياسية تضم أبرز القوى البرلمانية ولكن اختار منذ البداية أن يرفع «الفيتو» أمام كل من حزبي "الدستوري الحر" و"قلب تونس" وهو ما سيضطر لدفع تكلفته سياسيا بعد الهجمة البرلمانية الشرسة التي واجهتها حكومته والتي لم تتوقف إلا بإجباره على تقديم استقالته وبالتالي إسقاط حكومته .

لم ينتظر الياس الفخفاخ سحب الثقة من حكومته واختار أن يقدم استقالته ويعيد المبادرة لرئيس الجمهورية قيس سعيد..، الذي كان مضطرا للمرة الثانية في ظرف أشهر قليلة على اختيار الشخصية الأقدر لتشكيل ثالث حكومة في سنة 2020 ومثل اختياره الأول، فاجأ قيس سعيد الجميع باختياره هشام المشيشي مستشاره الأمني السابق ووزير الداخلية في حكومة الفخفاخ، لكن حكومة هذا الأخير لم تعد حكومة الرئيس بل حكومة الثلاثي البرلماني المتحالف"النهضة"، و"قلب تونس"، و"ائتلاف الكرامة"، وهذا التقارب المعلن بين المشيشي والتحالف الثلاثي أثر حتى على العلاقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة التي باتت فاترة وبادرة وتأزمت أكثر بعد رفض الرئيس التعديل الوزاري الذي اقترحه المشيشي.

بعد مضي أكثر من شهرين على إقالة حكومة هشام المشيشي ودخول البلاد في مرحلة التدابير الاستثنائية أعلن قيس سعيد على مراسم إعلان تشكيل الحكومة الجديدة التي تترأسها نجلاء بودن، وتضم 25 وزيرا وكاتبة دولة. ورغم أن نجلاء بودن التي لم يعرف لها نشاط سياسي أو حقوقي تعد أول امرأة تترأس حكومة في بلد عربي، ورغم أن صلاحيات بودن لم تكن واسعة وفق الدستور الجديد، إلا أن حضورها وتأثيرها لم يكن لافتا وربما ذلك من أسباب إقالتها ليخلفها أحمد الحشاني والذي أقيل من مهامه بعد بضعة أشهر وربما فترته كانت هي الأضعف على مستوى تسيير دواليب الدولة، وخلفه رئيس الحكومة الحالي كمال مدّوري الذي تولى مهامه منذ أشهر قليلة.

منية العرفاوي