إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الثقافة في تونس بعد 17 ديسمبر 2010 في ميزان المثقفين والمبدعين (1/2).. حان الوقت لثورة تشريعية واجتماعية تعيد للثقافة ألقها ودورها

إعداد: محسن بن أحمد

تونس - الصباح

كانت تونس يوم 17 ديسمبر 2010 على موعد مع الشرارة الأولى لثورة انتصر فيها الشعب للحرية والتوق إلى معانقة الشمس. كبرت الأحلام لكسب رهان التجديد والتطوير على جميع المستويات، ومنها المجال الثقافي. غير أن الواقع أثبت العكس، فعمّت الفوضى هذا المجال الحيوي في مسيرة البلاد. ولا أدل على ذلك من أنه تم على امتداد 14 سنة تعيين أكثر من عشرة وزراء للثقافة دون اعتبار الوزراء بالنيابة.

لكن الأمل كبير اليوم لتجاوز الهنات والعراقيل التي همّشت دور الثقافة في بناء المجتمع التونسي والتحليق به عاليا في سماء الإبداع الجاد والمسؤول الذي يؤسس للحياة الكريمة وينمي الذائقة المعرفية للمتلقي التونسي بعيدًا عن كل مظاهر الإسفاف والسطحية والابتذال.

وذلك ما أكده أغلب من تحدثنا معهم من الكتاب والفنانين والإعلاميين والجامعيين حول وضعية الثقافة بالبلاد منذ تغيير الخارطة السياسية في البلاد إثر سقوط الديكتاتورية يوم 14 جانفي 2011، والتي مهدت لها الانتفاضة الشعبية التي انطلقت شرارتها الأولى يوم 17 ديسمبر 2010 بسيدي بوزيد وسط البلاد.

ذلك ما أكده أغلبهم، وإن لم يتردد جميعهم في تقديم رؤية نقدية موضوعية للحياة الثقافية في تونس مع محاولة جدية لتقديم الأسباب الحقيقية لتراجع المنتج الثقافي وأيضًا مقترحات عملية علها تساعد على الإقلاع ثقافيًا.

ونقدم اليوم الجزء الأول من خلاصة التصريحات التي قدمها لنا أصحابها بدون تردد وبسخاء على أن نقدم غدًا إن شاء الله الجزء الثاني والأخير.

فتحي النصري (جامعي وناقد)

عندما يلقي السياسي بظلاله على القطاعات الأخرى ومنها الثقافي.

يقتضي الحديث عن الوضع الثقافي في تونس بعد 17 ديسمبر 2010 أن نأخذ بعين الاعتبار جملة العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار جميع الأطراف المتدخلة في القطاع الثقافي من مبدعين ومنتجين وموزعين ونقاد وهيئات ومؤسسات وجمعيات ثقافية.

ومن الواضح أن الأولوية بعد 17 ديسمبر منحت للسياسي على حساب المجالات الأخرى بما فيها المجال الثقافي. وقد زادت جائحة كورونا الطين بلّة. ولكن وبعيدًا عن كل تقييم سلبي أو انتقاد مجحف قد لا يجديان نفعًا في طورنا الراهن، علينا أن نحتفظ بالمكتسبات الحاصلة ونبني عليها. ولعل من أهم هذه المكتسبات حرية التعبير وإطلاق المبادرة الفردية.

وينبغي التنويه بالدور البارز الذي تضطلع به دور الثقافة ودور الشباب والمهرجانات والجمعيات في تنشيط المشهد الثقافي وإتاحة المواد الثقافية للجمهور الواسع.

وتبقى الطاقة الإبداعية الكامنة في بلد له تاريخ ثقافي عريق يمتد على آلاف السنين الضامن الأهم لاستمرار العنصر الثقافي في الاضطلاع بدوره في بناء تونس التي نريد. فبلادنا غنية بالطاقات الإبداعية في مختلف الفنون من أدب ومسرح وسينما وفن تشكيلي وغيرها. وتونس تزخر بالطاقات. وليس أدل على ذلك من أن المنجزات الإبداعية التونسية ما زالت تلقى الإشادة والتنويه داخل تونس وخارجها. وما زالت الكفاءات التونسية محل تقدير وإعجاب. ورغم ما قد يلحظ من تراجع في مجال التعليم العام، فإن الأجيال الجديدة ما زالت تبدع وتضيف وتأتي بالجديد إبداعًا وأفكارًا. وهذا المعطى يجعلنا ننظر بعين متفائلة لمستقبل الثقافة في تونس. ولكنّه تفاؤل مشوب بالحذر. فهذه المكاسب مهددة بالتراجع إن لم تتوفر الشروط الضرورية الكفيلة بالحفاظ عليها وتعزيزها.

ولا يمكن أن يتسنّى ذلك دون أن يكون لنا مشروع ثقافي وطني يدرك أهمية الثقافة ودورها في التنمية الاقتصادية وبناء الإنسان التونسي ودون أن تكون لنا سياسة ثقافية تمنح الثقافة المنزلة التي ينبغي أن تشغلها في المجتمع. إننا في حاجة ماسة إلى أن ننتشل الثقافة من وضعها الهامشي ومن النظرة السياسية الضيقة، فالمسألة الثقافية ليست مسألة مناسبات ولا شعارات ولا هي من الكماليات، وإنما هي مسألة رؤية شاملة تثمّن المكاسب الحاصلة وتنفتح على المستقبل وتستهدف تعزيز الهوية الوطنية في عالم معقد يشهد ثورة في المعلومات والتكنولوجيا، مثلما يشهد تحولات متسارعة وتقلّبات وأخطار قد تعصف بالمجتمعات العاجزة عن تجديد ثقافتها وبناء خصوصيتها الثقافية وتهددها بالتفكك والتلاشي. فالمسألة الثقافية مسألة خطيرة. هي مسألة أن نكون أو لا نكون.

إننا لا نفتقر إلى الطاقات الإبداعية، ويبقى على جميع الأطراف المتدخلة في الشأن الثقافي وعلى الدولة بصورة خاصة أن توفر الشروط التي تتيح إطلاق هذه الطاقات وتحريرها من كل المعيقات مهما كان مأتاها ومهما كان نوعها.

أنس الشابي (باحث)

لنحدد بالتدقيق أي دور نريد لوزارة الثقافة؟

لا يخلو التعامل مع الثقافة من حالين: إما أن تعتبرها الدولة خدمة تقدمها للمواطن من أجل تهذيب ذائقته الفنية وفتح الآفاق المعرفية في وجهه، لا تنتظر منها ربحًا عاجلًا لا ماديًا ولا أدبيًا، لأن نتائجها لا تظهر إلا في المستقبل، وتأملوا مليًّا جيل الاستقلال الذي تربى في دور الشعب والثقافة أيام كانت تعرض الأفلام في الساحات العمومية وينتقل الكتاب إلى أقاصي البلاد عبر المكتبات المتجولة والعروض المسرحية والموسيقية الأسبوعية. كل ذلك أفرز لنا نخبة من الكتاب والموسيقيين والباحثين وغيرهم، هم عصارة الذكاء التونسي، وهم الذين يعيش أبناء اليوم عالة عليهم.

أو أن تعتبر الدولة الثقافة سلعة كأي سلعة يحكمها سوق العرض والطلب. إذ أن الناظر فيما عليه الوضع الثقافي بعد سنة 2011 يلحظ أن هذا الملف متروك ولم يلتفت إليه الحكم الجديد ولا يحمل أي أولوية لديه. يدل على ذلك: 1) غياب الرؤية الاستراتيجية للفعل الثقافي. فقد تداول على الوزارة 12 وزيرًا بمعدل وزير في كل سنة، ففي حكومتي الفخفاخ والمشيشي خلال سنة واحدة تداول على الوزارة ثلاثة وزراء، وهو ما يدل على غياب التقدير السليم لأهمية وزارة الثقافة التي يسيرها فعليًا منذ سنة 2011 جهاز إداري عتيق ومتكلس شغله الشاغل هو المحافظة على المنافع التي تتأتى لموظفيه من المهرجانات التي بقيت حيّة بعد أن تأقلمت مع الأوضاع الجديدة الرافضة للتجديد والإبداع والمقصية لكل نفس اجتهاد.

التخفيض المتتالي لميزانية وزارة الثقافة منذ سنة 2011 لصالح وزارة الشؤون الدينية، وهو ما أثر على الفعل الثقافي. ففيما يخص الكتاب والنشر، مثلا، كانت الوزارة تقتني من كل عنوان حوالي 300 نسخة وأكثر لفائدة مكتباتها العمومية بحساب نسخة لكل مكتبة، وهو ما يغطي جانبًا من تكلفة النشر. أما اليوم، فإن الكمية سقطت سقوطًا مدويًا إلى حدود 20 نسخة في أحيان كثيرة وحتى أقل، الأمر الذي أدى إلى استفحال أزمة الكتاب بارتفاع ثمنه لغياب الدعم الحكومي وزهد القارئ فيه لتواضع إمكانياته المادية. والغريب في الأمر أن مؤسسة الترجمة التابعة للوزارة تسعر كتبها بحسب أسعار السوق وكذا مؤسسة بيت الحكمة التابعة لرئاسة الحكومة ومركز النشر الجامعي التابع لوزارة التعليم العالي وغيرها، بحيث يخرج المرء بنتيجة واحدة وهي أن حكم ما بعد 2011 لا يعتبر الثقافة من أولوياته ليخرج الكتاب أهم أداة تثقيف وحفظ للذاكرة من اهتماماته. ولا عجب إن انتشر التطرف والإرهاب بالانتقال من دعم الشأن الثقافي إلى ترويج الخطاب الديني المنفلت من أي عقال من خلال المؤسسات الرسمية وما جاورها من جمعيات خدمة لأهداف سياسية لا تخفى إلا على عمي البصر والبصيرة.

رحم الله البشير بن سلامة، أهم وزير ثقافة عرفته تونس، لأياديه البيضاء على الثقافة والمثقفين ولأنه كان حاملاً لمشروع صاغه ونفذه ولكنه افتقد الروح منذ سنة 2011.

محمد المي (باحث وإعلامي)

تهميش ممنهج للثقافة

تدهورت أحوال الثقافة وتراجعت منذ مجيء 2011 حيث وقع تهميش وزارة الثقافة بزيادة التخفيض في ميزانيتها. وكانت أول ضربة قاتلة تلقتها عندما تم حل اللجان الثقافية.

تم الاعتداء على المسرحيين في حادثة مشهورة كما تم الاعتداء على الفنانين التشكيليين فيما يعرف بحادثة العبدلية، وقد وجد السلفيون مؤازرة من وزير ثقافة الترويكا انذاك.

بعد الترويكا جاء عهد الباجي قائد السبسي الذي لم يقدم شيئًا للثقافة سوى الاعتناء بصورته والتسويق لنفسه، واجتمع حوله بعض الانتهازيين ممن خدموا أنفسهم وتمتعوا بامتيازات نتيجة الدفاع عنه في التلفزات والإذاعات.

كان الحدث الوحيد الذي قدم إضافة للثقافة هو افتتاح مدينة الثقافة التي حادت عن مسارها وأصبحت توسعة لمكاتب الموظفين ولا توجد بها مكتبة إلى يوم الناس هذا، وهو أمر مخجل حقًا.

تراجعت شراءات الكتب وتعقدت أمور الصرف، حيث أصبح كل شيء يتحكم فيه ما يسمى بمراقب المصاريف. بل ما زاد الطين بلة هو بدعة الترخيص للنشاط الثقافي. كل يوم تزيد عراقيل الثقافة وتتزايد القوانين المعطلة للفعل الإبداعي، وفي تقديري الثقافة وقع تهميشها وتعيش أسوأ مراحلها.

المولدي فرّوج (شاعر)

أخطاء فادحة للمشرفين على القطاع الثقافي

شهد القطاع الثقافي مثل بقية القطاعات تدهورًا كبيرًا. فمنذ فجر الثورة عملت الحكومات على تعميم التصحر الثقافي، فبدأها علي العريض (وزير داخلية ورئيس حكومة سابق) بإصدار قانون الشؤم تحت أمر عدد 5183 لسنة 2013 مؤرخ في 18 نوفمبر 2013، يتعلق بضبط معايير وإجراءات وشروط إسناد التمويل العمومي للجمعيات وحلّ بمقتضاه اللجان الثقافية الجهوية والمحلية. وزاد المسؤولون الجهويون للثقافة الطين بلة، فلم يقرؤوا الفصل الأول من القانون سيء الذكر وفسروه على مزاجهم، وصاروا يتعاملون (خلافًا للوزارة أحيانًا) مع المهرجانات والجمعيات الثقافية على أساس أنها شركات تحمل معرفها الجبائي وتدفع الضرائب. واندثرت جمعيات كثيرة وتوقفت مهرجانات ثقافية عديدة. وقطعت الإدارات والجماعات المحلية الدعم عن الجمعيات الثقافية وحولته نزولًا عند رغبة "النهضة" (حزب حاكم سابق) إلى الجمعيات الخيرية التي توالدت بالمناسبة لتعمّر الفراغ.

وانخرطت الوزارة الأولى في مشروع قتل الثقافة فأصدرت منشورًا تحت عدد 8 بتاريخ 8 أفريل 2018 حول تنظيم اقتناء الصحف والمجلات من طرف الهياكل العمومية لفائدة إطاراتها والفضاءات المخصصة للعموم، الذي غيّر وجهة الأموال التي كانت تخصصها الإدارات لشراء كتب وصحف ودوريات، فصارت مخصصة للصحف والدوريات ولأشياء خصوصية أخرى. ولا ننسى قرار وزيرة الثقافة والمحافظة على التراث ووزير المالية مؤرخ في 29 جويلية 2015 الذي زاد في خنق الجمعيات في دور الثقافة.

على المستوى المركزي ارتكب وزراء الثقافة أخطاء قاتلة تعلقت بمعارض الكتاب والتخلي عن دعم المهرجانات الجهوية التي تعنى بالشأن الثقافي، ومنها أيضًا الاحتفاء باليوم الوطني للثقافة الذي لا يكرم فيه المبدعون بل موظفو الوزارة، وإن لم يبدعوا في أي مجال.

كذلك لا ننسى المجلات الثقافية التي انسحبت لقلة دعمها وتهرب المندوبيات الجهوية من اقتناء الكتب التي يصدرها مبدعو جهاتهم متعللين دائمًا بمراقب المصاريف. وصارت الوزارة تكتفي بدورة واحدة لاقتناء الكتب، بل ألغت بعض الدورات المخصصة للتشجيع على الإنتاج الأدبي والثقافي، وضاعت سلسلة "ذاكرة وإبداع" وغيرها.

شخصيًا لم ألاحظ عملاً مفيدًا منذ 2011 سوى البطولة الوطنية للمطالعة. وما بقي فهو كلام للاستشهار. ورغم كل هذا فأنا أتوسم خيرًا في السيدة أمينة الصرارفي لأنها كانت جريئة فتراجعت عن قرار جائر اتخذته ضدّ اتحاد الكتاب، وكم من وزير يستطيع أن يتراجع عن خطأ ارتكبه.

رحاب الصغير (مطربة)

حل اللجان الثقافية: القرار الظالم

سأتحدث عن الوضع الثقافي في تونس من خلال ثلاث فترات: فترة ما قبل 17 ديسمبر 2010، ثم فترة ما بعده، وفترة "ما بعد كورونا".

بالنسبة للفترة الأولى (ما قبل 17 ديسمبر) كان الوضع الثقافي متوازنًا إلى حد ما، رغم بعض الهنات التي اعترته. كانت الميزانية للأنشطة الثقافية متوفرة بالقدر الكافي، فكانت تتعدد التظاهرات وتتنوع الملتقيات بشكل كبير وجلي.

ما بعد 17 ديسمبر 2010، تغير الوضع إلى الأسوأ من خلال تعدد ما يسمى بالأنماط الموسيقية الجديدة ومهرجان الأغنية التونسية الذي تم تغييبه على امتداد سنوات طويلة. وهذا التهميش للأغنية الوترية مقابل التأسيس لظواهر موسيقية غريبة على غرار "الراب" و"موسيقى الشوارع" باسم التجديد والتطوير، والوضع المتردي الذي أصبح عليه رجل الثقافة ممثلًا في المسرح أو في السينما أو فنانًا تشكيليًا أو مطربًا. ثم هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الإبداع فطفقوا ينتقدون دون دراية ودون معرفة ودون ثقافة موسيقية.

لقد تم استغلال الثقافة ما بعد 17 ديسمبر 2010 لغايات وأهداف سياسية، حيث عمت المحسوبية والمحاباة مقابل إبعاد وتهميش أهل الشأن الثقافي والإبداعي. فهؤلاء المحسوبون على الثقافة نهشوا ميزانية الوزارة لمصالحهم الضيقة وأبعدوا أهلها الحقيقيين، وحتى الذين يرضون عليهم، فإنه تتم برمجتهم بمبالغ زهيدة تكاد لا تغطي مصاريف التنقل ومستحقات العازفين. وحتى إن قدمت ملفًا فنيًا ثريًا ومتعددًا وفيه من الجديد الكثير للمندوبيات الجهوية للثقافة، فإن الاقصاء كان الرد على هذا الملف على اعتبار أن هناك من يتحكم في هذه المهرجانات، وأعني هنا الجمعيات الفنية التي لا دراية ولا معرفة ثقافية وإبداعية لكل الأعضاء فيها. حيث تتم برمجة العروض وفق المصالح الضيقة، وقد حان الوقت لوضع حد لهذه الجمعيات التي أضرت بالوضع الثقافي والموسيقى في تونس.

إن الفنان التونسي خاصة بعد جائحة "كورونا" يعاني الأمرين، وتراني أشير إلى أحد المبدعين الكبار في المجال السينمائي الذي يعاني الخصاصة رغم كل ما قدمه للفن. وحان الوقت لثورة تشريعية واجتماعية ثقافية. أقول كفى تهميشًا للمثقفين الجادين الفاعلين في مختلف مجالات الإبداع.

مراد البجاوي (روائي وإعلامي)

العمل الثقافي لم يتطور

كنت أتمنى لو أن الوضع الثقافي في بلادنا في الوقت الراهن أفضل وأرقى. وكان بالإمكان إحداث رجّة قوية قادرة على تثبيت واقع جديد، وقد تخلص المشهد من رتابته وابتذاله أحيانًا. واليوم وقد مرّت 14 سنة على ثورة 17 ديسمبر، فحريّ بنا أن نكون قد فكّرنا جدّيا في مسألة تطوير العمل الثقافي والإبداع، مما يسمح بتحقيق أرضية ملائمة ومشجعة سواء بالنسبة إلى المثقفين والمبدعين أو المستفيدين.

إنّنا مطالبون بالذهاب عمقًا إلى دراسة الإشكاليات العالقة بالمشهد الثقافي الذي لا يمكن بأية حال أن نظفر بالمبتغى ما لم توضع آفاق نقدية جديدة ترسي نظامًا ثقافيًا متطورًا ومستجيبًا للتطلعات. وفي تقديري، لقد أضعنا الكثير من الوقت لاستعادة بريق الثقافة التونسية الحقيقية. وإن تبقى هناك نوافذ أمل مفتوحة لأجل التجاوز وتأكيد استحقاق الشعب التونسي بعمل ثقافي يرتقي بالأذواق ويثبّت الهوية ويطرق إبداعيًا أبواب الفكر والأدب والفن والجمال.

ولا أحد ينكر جدارة مفكرينا وأدبائنا ومبدعينا في القطاعات جميعها بالنقش في الأرواح نقشًا جادًّا وحقيقيًا لو فكّرنا مليّا في الحلول الناجعة والكفيلة، والتي من شأنها أن تضفي على ثقافتنا ألقًا، تونس سبّاقة لإحرازه عبر العهود والتاريخ.

وأما عن الأولويات التي من شأنها أن تغيّر الواقع الثقافي وترسي تقاليد ناجعة، فإنّها تنطلق من الميزانية المخصصة لوزارة الشؤون الثقافية، والتي هي بالملموس لا تفي بالحاجة ولا تسمح بالتحليق عاليًا. وهذا مرتبط أيضًا بضرورة مراقبة التصرف العام وخاصة تلك الأموال الطائلة المرصودة للتظاهرات الكبرى والمهرجانات التي تبين لنا أنها غارقة في الارتجال وتمكين الأقلية على حساب المبدعين الحقيقيين والفاعلين بجدّ في الحياة الثقافية.

ولنا في ذلك مثال معرض تونس الدولي للكتاب الذي جعل الكُتّاب والأدباء من آخر اهتماماته إلاّ من تيسّرت له سبل الانتفاع ولو على حساب الجادّين النافعين. أضف إلى ذلك مهرجانات عديدة حادت عن اختصاصها وسقطت في متاهة الجماهيرية بتعلّة أن الجماهير صارت تحبّ غير ما تعودت عليه الأجيال السابقة، وهذا مغالطة كبرى وتبذير للمال العام. ولعلني أشير هنا إلى أكبر الإخفاقات في التسيير والتنظيم تلك التي تعلقت بالجمعيات الثقافية التي أفرغت العديد من المهرجانات من محتواها وفسحت المجال لمن لا خبرة ولا تجربة لهم للانخراط في هذه الجمعيات لأسباب نعلمها جميعًا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثقافة في تونس بعد 17 ديسمبر 2010 في ميزان المثقفين والمبدعين (1/2)..   حان الوقت لثورة تشريعية واجتماعية تعيد للثقافة ألقها ودورها

إعداد: محسن بن أحمد

تونس - الصباح

كانت تونس يوم 17 ديسمبر 2010 على موعد مع الشرارة الأولى لثورة انتصر فيها الشعب للحرية والتوق إلى معانقة الشمس. كبرت الأحلام لكسب رهان التجديد والتطوير على جميع المستويات، ومنها المجال الثقافي. غير أن الواقع أثبت العكس، فعمّت الفوضى هذا المجال الحيوي في مسيرة البلاد. ولا أدل على ذلك من أنه تم على امتداد 14 سنة تعيين أكثر من عشرة وزراء للثقافة دون اعتبار الوزراء بالنيابة.

لكن الأمل كبير اليوم لتجاوز الهنات والعراقيل التي همّشت دور الثقافة في بناء المجتمع التونسي والتحليق به عاليا في سماء الإبداع الجاد والمسؤول الذي يؤسس للحياة الكريمة وينمي الذائقة المعرفية للمتلقي التونسي بعيدًا عن كل مظاهر الإسفاف والسطحية والابتذال.

وذلك ما أكده أغلب من تحدثنا معهم من الكتاب والفنانين والإعلاميين والجامعيين حول وضعية الثقافة بالبلاد منذ تغيير الخارطة السياسية في البلاد إثر سقوط الديكتاتورية يوم 14 جانفي 2011، والتي مهدت لها الانتفاضة الشعبية التي انطلقت شرارتها الأولى يوم 17 ديسمبر 2010 بسيدي بوزيد وسط البلاد.

ذلك ما أكده أغلبهم، وإن لم يتردد جميعهم في تقديم رؤية نقدية موضوعية للحياة الثقافية في تونس مع محاولة جدية لتقديم الأسباب الحقيقية لتراجع المنتج الثقافي وأيضًا مقترحات عملية علها تساعد على الإقلاع ثقافيًا.

ونقدم اليوم الجزء الأول من خلاصة التصريحات التي قدمها لنا أصحابها بدون تردد وبسخاء على أن نقدم غدًا إن شاء الله الجزء الثاني والأخير.

فتحي النصري (جامعي وناقد)

عندما يلقي السياسي بظلاله على القطاعات الأخرى ومنها الثقافي.

يقتضي الحديث عن الوضع الثقافي في تونس بعد 17 ديسمبر 2010 أن نأخذ بعين الاعتبار جملة العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار جميع الأطراف المتدخلة في القطاع الثقافي من مبدعين ومنتجين وموزعين ونقاد وهيئات ومؤسسات وجمعيات ثقافية.

ومن الواضح أن الأولوية بعد 17 ديسمبر منحت للسياسي على حساب المجالات الأخرى بما فيها المجال الثقافي. وقد زادت جائحة كورونا الطين بلّة. ولكن وبعيدًا عن كل تقييم سلبي أو انتقاد مجحف قد لا يجديان نفعًا في طورنا الراهن، علينا أن نحتفظ بالمكتسبات الحاصلة ونبني عليها. ولعل من أهم هذه المكتسبات حرية التعبير وإطلاق المبادرة الفردية.

وينبغي التنويه بالدور البارز الذي تضطلع به دور الثقافة ودور الشباب والمهرجانات والجمعيات في تنشيط المشهد الثقافي وإتاحة المواد الثقافية للجمهور الواسع.

وتبقى الطاقة الإبداعية الكامنة في بلد له تاريخ ثقافي عريق يمتد على آلاف السنين الضامن الأهم لاستمرار العنصر الثقافي في الاضطلاع بدوره في بناء تونس التي نريد. فبلادنا غنية بالطاقات الإبداعية في مختلف الفنون من أدب ومسرح وسينما وفن تشكيلي وغيرها. وتونس تزخر بالطاقات. وليس أدل على ذلك من أن المنجزات الإبداعية التونسية ما زالت تلقى الإشادة والتنويه داخل تونس وخارجها. وما زالت الكفاءات التونسية محل تقدير وإعجاب. ورغم ما قد يلحظ من تراجع في مجال التعليم العام، فإن الأجيال الجديدة ما زالت تبدع وتضيف وتأتي بالجديد إبداعًا وأفكارًا. وهذا المعطى يجعلنا ننظر بعين متفائلة لمستقبل الثقافة في تونس. ولكنّه تفاؤل مشوب بالحذر. فهذه المكاسب مهددة بالتراجع إن لم تتوفر الشروط الضرورية الكفيلة بالحفاظ عليها وتعزيزها.

ولا يمكن أن يتسنّى ذلك دون أن يكون لنا مشروع ثقافي وطني يدرك أهمية الثقافة ودورها في التنمية الاقتصادية وبناء الإنسان التونسي ودون أن تكون لنا سياسة ثقافية تمنح الثقافة المنزلة التي ينبغي أن تشغلها في المجتمع. إننا في حاجة ماسة إلى أن ننتشل الثقافة من وضعها الهامشي ومن النظرة السياسية الضيقة، فالمسألة الثقافية ليست مسألة مناسبات ولا شعارات ولا هي من الكماليات، وإنما هي مسألة رؤية شاملة تثمّن المكاسب الحاصلة وتنفتح على المستقبل وتستهدف تعزيز الهوية الوطنية في عالم معقد يشهد ثورة في المعلومات والتكنولوجيا، مثلما يشهد تحولات متسارعة وتقلّبات وأخطار قد تعصف بالمجتمعات العاجزة عن تجديد ثقافتها وبناء خصوصيتها الثقافية وتهددها بالتفكك والتلاشي. فالمسألة الثقافية مسألة خطيرة. هي مسألة أن نكون أو لا نكون.

إننا لا نفتقر إلى الطاقات الإبداعية، ويبقى على جميع الأطراف المتدخلة في الشأن الثقافي وعلى الدولة بصورة خاصة أن توفر الشروط التي تتيح إطلاق هذه الطاقات وتحريرها من كل المعيقات مهما كان مأتاها ومهما كان نوعها.

أنس الشابي (باحث)

لنحدد بالتدقيق أي دور نريد لوزارة الثقافة؟

لا يخلو التعامل مع الثقافة من حالين: إما أن تعتبرها الدولة خدمة تقدمها للمواطن من أجل تهذيب ذائقته الفنية وفتح الآفاق المعرفية في وجهه، لا تنتظر منها ربحًا عاجلًا لا ماديًا ولا أدبيًا، لأن نتائجها لا تظهر إلا في المستقبل، وتأملوا مليًّا جيل الاستقلال الذي تربى في دور الشعب والثقافة أيام كانت تعرض الأفلام في الساحات العمومية وينتقل الكتاب إلى أقاصي البلاد عبر المكتبات المتجولة والعروض المسرحية والموسيقية الأسبوعية. كل ذلك أفرز لنا نخبة من الكتاب والموسيقيين والباحثين وغيرهم، هم عصارة الذكاء التونسي، وهم الذين يعيش أبناء اليوم عالة عليهم.

أو أن تعتبر الدولة الثقافة سلعة كأي سلعة يحكمها سوق العرض والطلب. إذ أن الناظر فيما عليه الوضع الثقافي بعد سنة 2011 يلحظ أن هذا الملف متروك ولم يلتفت إليه الحكم الجديد ولا يحمل أي أولوية لديه. يدل على ذلك: 1) غياب الرؤية الاستراتيجية للفعل الثقافي. فقد تداول على الوزارة 12 وزيرًا بمعدل وزير في كل سنة، ففي حكومتي الفخفاخ والمشيشي خلال سنة واحدة تداول على الوزارة ثلاثة وزراء، وهو ما يدل على غياب التقدير السليم لأهمية وزارة الثقافة التي يسيرها فعليًا منذ سنة 2011 جهاز إداري عتيق ومتكلس شغله الشاغل هو المحافظة على المنافع التي تتأتى لموظفيه من المهرجانات التي بقيت حيّة بعد أن تأقلمت مع الأوضاع الجديدة الرافضة للتجديد والإبداع والمقصية لكل نفس اجتهاد.

التخفيض المتتالي لميزانية وزارة الثقافة منذ سنة 2011 لصالح وزارة الشؤون الدينية، وهو ما أثر على الفعل الثقافي. ففيما يخص الكتاب والنشر، مثلا، كانت الوزارة تقتني من كل عنوان حوالي 300 نسخة وأكثر لفائدة مكتباتها العمومية بحساب نسخة لكل مكتبة، وهو ما يغطي جانبًا من تكلفة النشر. أما اليوم، فإن الكمية سقطت سقوطًا مدويًا إلى حدود 20 نسخة في أحيان كثيرة وحتى أقل، الأمر الذي أدى إلى استفحال أزمة الكتاب بارتفاع ثمنه لغياب الدعم الحكومي وزهد القارئ فيه لتواضع إمكانياته المادية. والغريب في الأمر أن مؤسسة الترجمة التابعة للوزارة تسعر كتبها بحسب أسعار السوق وكذا مؤسسة بيت الحكمة التابعة لرئاسة الحكومة ومركز النشر الجامعي التابع لوزارة التعليم العالي وغيرها، بحيث يخرج المرء بنتيجة واحدة وهي أن حكم ما بعد 2011 لا يعتبر الثقافة من أولوياته ليخرج الكتاب أهم أداة تثقيف وحفظ للذاكرة من اهتماماته. ولا عجب إن انتشر التطرف والإرهاب بالانتقال من دعم الشأن الثقافي إلى ترويج الخطاب الديني المنفلت من أي عقال من خلال المؤسسات الرسمية وما جاورها من جمعيات خدمة لأهداف سياسية لا تخفى إلا على عمي البصر والبصيرة.

رحم الله البشير بن سلامة، أهم وزير ثقافة عرفته تونس، لأياديه البيضاء على الثقافة والمثقفين ولأنه كان حاملاً لمشروع صاغه ونفذه ولكنه افتقد الروح منذ سنة 2011.

محمد المي (باحث وإعلامي)

تهميش ممنهج للثقافة

تدهورت أحوال الثقافة وتراجعت منذ مجيء 2011 حيث وقع تهميش وزارة الثقافة بزيادة التخفيض في ميزانيتها. وكانت أول ضربة قاتلة تلقتها عندما تم حل اللجان الثقافية.

تم الاعتداء على المسرحيين في حادثة مشهورة كما تم الاعتداء على الفنانين التشكيليين فيما يعرف بحادثة العبدلية، وقد وجد السلفيون مؤازرة من وزير ثقافة الترويكا انذاك.

بعد الترويكا جاء عهد الباجي قائد السبسي الذي لم يقدم شيئًا للثقافة سوى الاعتناء بصورته والتسويق لنفسه، واجتمع حوله بعض الانتهازيين ممن خدموا أنفسهم وتمتعوا بامتيازات نتيجة الدفاع عنه في التلفزات والإذاعات.

كان الحدث الوحيد الذي قدم إضافة للثقافة هو افتتاح مدينة الثقافة التي حادت عن مسارها وأصبحت توسعة لمكاتب الموظفين ولا توجد بها مكتبة إلى يوم الناس هذا، وهو أمر مخجل حقًا.

تراجعت شراءات الكتب وتعقدت أمور الصرف، حيث أصبح كل شيء يتحكم فيه ما يسمى بمراقب المصاريف. بل ما زاد الطين بلة هو بدعة الترخيص للنشاط الثقافي. كل يوم تزيد عراقيل الثقافة وتتزايد القوانين المعطلة للفعل الإبداعي، وفي تقديري الثقافة وقع تهميشها وتعيش أسوأ مراحلها.

المولدي فرّوج (شاعر)

أخطاء فادحة للمشرفين على القطاع الثقافي

شهد القطاع الثقافي مثل بقية القطاعات تدهورًا كبيرًا. فمنذ فجر الثورة عملت الحكومات على تعميم التصحر الثقافي، فبدأها علي العريض (وزير داخلية ورئيس حكومة سابق) بإصدار قانون الشؤم تحت أمر عدد 5183 لسنة 2013 مؤرخ في 18 نوفمبر 2013، يتعلق بضبط معايير وإجراءات وشروط إسناد التمويل العمومي للجمعيات وحلّ بمقتضاه اللجان الثقافية الجهوية والمحلية. وزاد المسؤولون الجهويون للثقافة الطين بلة، فلم يقرؤوا الفصل الأول من القانون سيء الذكر وفسروه على مزاجهم، وصاروا يتعاملون (خلافًا للوزارة أحيانًا) مع المهرجانات والجمعيات الثقافية على أساس أنها شركات تحمل معرفها الجبائي وتدفع الضرائب. واندثرت جمعيات كثيرة وتوقفت مهرجانات ثقافية عديدة. وقطعت الإدارات والجماعات المحلية الدعم عن الجمعيات الثقافية وحولته نزولًا عند رغبة "النهضة" (حزب حاكم سابق) إلى الجمعيات الخيرية التي توالدت بالمناسبة لتعمّر الفراغ.

وانخرطت الوزارة الأولى في مشروع قتل الثقافة فأصدرت منشورًا تحت عدد 8 بتاريخ 8 أفريل 2018 حول تنظيم اقتناء الصحف والمجلات من طرف الهياكل العمومية لفائدة إطاراتها والفضاءات المخصصة للعموم، الذي غيّر وجهة الأموال التي كانت تخصصها الإدارات لشراء كتب وصحف ودوريات، فصارت مخصصة للصحف والدوريات ولأشياء خصوصية أخرى. ولا ننسى قرار وزيرة الثقافة والمحافظة على التراث ووزير المالية مؤرخ في 29 جويلية 2015 الذي زاد في خنق الجمعيات في دور الثقافة.

على المستوى المركزي ارتكب وزراء الثقافة أخطاء قاتلة تعلقت بمعارض الكتاب والتخلي عن دعم المهرجانات الجهوية التي تعنى بالشأن الثقافي، ومنها أيضًا الاحتفاء باليوم الوطني للثقافة الذي لا يكرم فيه المبدعون بل موظفو الوزارة، وإن لم يبدعوا في أي مجال.

كذلك لا ننسى المجلات الثقافية التي انسحبت لقلة دعمها وتهرب المندوبيات الجهوية من اقتناء الكتب التي يصدرها مبدعو جهاتهم متعللين دائمًا بمراقب المصاريف. وصارت الوزارة تكتفي بدورة واحدة لاقتناء الكتب، بل ألغت بعض الدورات المخصصة للتشجيع على الإنتاج الأدبي والثقافي، وضاعت سلسلة "ذاكرة وإبداع" وغيرها.

شخصيًا لم ألاحظ عملاً مفيدًا منذ 2011 سوى البطولة الوطنية للمطالعة. وما بقي فهو كلام للاستشهار. ورغم كل هذا فأنا أتوسم خيرًا في السيدة أمينة الصرارفي لأنها كانت جريئة فتراجعت عن قرار جائر اتخذته ضدّ اتحاد الكتاب، وكم من وزير يستطيع أن يتراجع عن خطأ ارتكبه.

رحاب الصغير (مطربة)

حل اللجان الثقافية: القرار الظالم

سأتحدث عن الوضع الثقافي في تونس من خلال ثلاث فترات: فترة ما قبل 17 ديسمبر 2010، ثم فترة ما بعده، وفترة "ما بعد كورونا".

بالنسبة للفترة الأولى (ما قبل 17 ديسمبر) كان الوضع الثقافي متوازنًا إلى حد ما، رغم بعض الهنات التي اعترته. كانت الميزانية للأنشطة الثقافية متوفرة بالقدر الكافي، فكانت تتعدد التظاهرات وتتنوع الملتقيات بشكل كبير وجلي.

ما بعد 17 ديسمبر 2010، تغير الوضع إلى الأسوأ من خلال تعدد ما يسمى بالأنماط الموسيقية الجديدة ومهرجان الأغنية التونسية الذي تم تغييبه على امتداد سنوات طويلة. وهذا التهميش للأغنية الوترية مقابل التأسيس لظواهر موسيقية غريبة على غرار "الراب" و"موسيقى الشوارع" باسم التجديد والتطوير، والوضع المتردي الذي أصبح عليه رجل الثقافة ممثلًا في المسرح أو في السينما أو فنانًا تشكيليًا أو مطربًا. ثم هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الإبداع فطفقوا ينتقدون دون دراية ودون معرفة ودون ثقافة موسيقية.

لقد تم استغلال الثقافة ما بعد 17 ديسمبر 2010 لغايات وأهداف سياسية، حيث عمت المحسوبية والمحاباة مقابل إبعاد وتهميش أهل الشأن الثقافي والإبداعي. فهؤلاء المحسوبون على الثقافة نهشوا ميزانية الوزارة لمصالحهم الضيقة وأبعدوا أهلها الحقيقيين، وحتى الذين يرضون عليهم، فإنه تتم برمجتهم بمبالغ زهيدة تكاد لا تغطي مصاريف التنقل ومستحقات العازفين. وحتى إن قدمت ملفًا فنيًا ثريًا ومتعددًا وفيه من الجديد الكثير للمندوبيات الجهوية للثقافة، فإن الاقصاء كان الرد على هذا الملف على اعتبار أن هناك من يتحكم في هذه المهرجانات، وأعني هنا الجمعيات الفنية التي لا دراية ولا معرفة ثقافية وإبداعية لكل الأعضاء فيها. حيث تتم برمجة العروض وفق المصالح الضيقة، وقد حان الوقت لوضع حد لهذه الجمعيات التي أضرت بالوضع الثقافي والموسيقى في تونس.

إن الفنان التونسي خاصة بعد جائحة "كورونا" يعاني الأمرين، وتراني أشير إلى أحد المبدعين الكبار في المجال السينمائي الذي يعاني الخصاصة رغم كل ما قدمه للفن. وحان الوقت لثورة تشريعية واجتماعية ثقافية. أقول كفى تهميشًا للمثقفين الجادين الفاعلين في مختلف مجالات الإبداع.

مراد البجاوي (روائي وإعلامي)

العمل الثقافي لم يتطور

كنت أتمنى لو أن الوضع الثقافي في بلادنا في الوقت الراهن أفضل وأرقى. وكان بالإمكان إحداث رجّة قوية قادرة على تثبيت واقع جديد، وقد تخلص المشهد من رتابته وابتذاله أحيانًا. واليوم وقد مرّت 14 سنة على ثورة 17 ديسمبر، فحريّ بنا أن نكون قد فكّرنا جدّيا في مسألة تطوير العمل الثقافي والإبداع، مما يسمح بتحقيق أرضية ملائمة ومشجعة سواء بالنسبة إلى المثقفين والمبدعين أو المستفيدين.

إنّنا مطالبون بالذهاب عمقًا إلى دراسة الإشكاليات العالقة بالمشهد الثقافي الذي لا يمكن بأية حال أن نظفر بالمبتغى ما لم توضع آفاق نقدية جديدة ترسي نظامًا ثقافيًا متطورًا ومستجيبًا للتطلعات. وفي تقديري، لقد أضعنا الكثير من الوقت لاستعادة بريق الثقافة التونسية الحقيقية. وإن تبقى هناك نوافذ أمل مفتوحة لأجل التجاوز وتأكيد استحقاق الشعب التونسي بعمل ثقافي يرتقي بالأذواق ويثبّت الهوية ويطرق إبداعيًا أبواب الفكر والأدب والفن والجمال.

ولا أحد ينكر جدارة مفكرينا وأدبائنا ومبدعينا في القطاعات جميعها بالنقش في الأرواح نقشًا جادًّا وحقيقيًا لو فكّرنا مليّا في الحلول الناجعة والكفيلة، والتي من شأنها أن تضفي على ثقافتنا ألقًا، تونس سبّاقة لإحرازه عبر العهود والتاريخ.

وأما عن الأولويات التي من شأنها أن تغيّر الواقع الثقافي وترسي تقاليد ناجعة، فإنّها تنطلق من الميزانية المخصصة لوزارة الشؤون الثقافية، والتي هي بالملموس لا تفي بالحاجة ولا تسمح بالتحليق عاليًا. وهذا مرتبط أيضًا بضرورة مراقبة التصرف العام وخاصة تلك الأموال الطائلة المرصودة للتظاهرات الكبرى والمهرجانات التي تبين لنا أنها غارقة في الارتجال وتمكين الأقلية على حساب المبدعين الحقيقيين والفاعلين بجدّ في الحياة الثقافية.

ولنا في ذلك مثال معرض تونس الدولي للكتاب الذي جعل الكُتّاب والأدباء من آخر اهتماماته إلاّ من تيسّرت له سبل الانتفاع ولو على حساب الجادّين النافعين. أضف إلى ذلك مهرجانات عديدة حادت عن اختصاصها وسقطت في متاهة الجماهيرية بتعلّة أن الجماهير صارت تحبّ غير ما تعودت عليه الأجيال السابقة، وهذا مغالطة كبرى وتبذير للمال العام. ولعلني أشير هنا إلى أكبر الإخفاقات في التسيير والتنظيم تلك التي تعلقت بالجمعيات الثقافية التي أفرغت العديد من المهرجانات من محتواها وفسحت المجال لمن لا خبرة ولا تجربة لهم للانخراط في هذه الجمعيات لأسباب نعلمها جميعًا.