لا يشك أي متابع للمشهد الدّولي منذ أكثر من عقد و4 سنوات، أن الثورة التونسية التي انطلقت، منذ يوم 17 ديسمبر 2010، وأدّت الى سقوط نظام زين العابدين بن علي، كانت بداية كل الثورات التي هزت المنطقة، وتسببت في زلزال جيوسياسي، مازالت تداعياته ترسم تطورات على الرقعة العربية والإقليمية بصفة عامة.
لقد كان اندلاع الثورة التونسية، نقطة انطلاق لمسار سياسي طويل عاشته تونس، وانتقلت فيه البلاد من حالة سياسية ديكتاتورية إلى مسار انتقال نحو الديمقراطية، أو على الأقل هذا ما كان مطروحا لدى التيارات المشكلة للمشهد السياسي التونسي.
وبالرغم من أن الإرادة كانت متجهة نحو تكوين "مشهد ديمقراطي"، إلا أن تدخل الأجندات السياسية الدولية في المشهد السياسي التونسي، حول الانتقال الديمقراطي، إلى تجربة "ديمقراطية واجهة" التي شكلت "مشهدية ديمقراطية" مشوهة، باعتبار أن صراع هذه الأجندات الأيديولوجية والاقتصادية والجيوسياسية، تسبب في تراجع أداء مؤسسات الدولة، وحتى بداية فقدانها لسلطتها مقابل سطوة الأحزاب على مؤسساتها، وارتهان قرارها لقرار الدول الخارجية.
ولعل محاولات فرض سياسات بعض الدول، شوهد في عديد التفصيلات منها القوانين الحامية لمصالح بعض الدول، مثل تركيا وقطر التي سيطرت على تيارات الإسلام السياسي، التي هيمنت على الحكم طيلة 10 سنوات، مقابل دخول تيارات أخرى على خط المواجهة السياسية في البلاد، والتي كانت تصارع ضد المد الإسلاموي-كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر بعد سقوط الإخوان فيها- الذي عم الدول التي هزها ما سمي بـ"الربيع العربي" الذي انطلق من تونس وضرب كثيرا من البلدان العربية.
ولعل ما تسبب في هذه التدخلات والتهافت على تونس، بعد سنة 2011، محاولة كل صف من هذه الصفوف، جر تونس لمربعها، في وقت أرادت بعض الدول الغربية أن يكون المسار السياسي المتبع بعد 2011، متلائما مع مقتضيات الديمقراطية الليبرالية الغربية.
إن صراع كل هذه الأجندات، منذ سقوط نظام بن علي، أدى إلى تجربة سياسية واقتصادية مشوهة، حيث لم تكتمل كل مؤسسات البناء الديمقراطي في صيغته الليبرالية الغربية، بالرغم من الضغوطات المفروضة على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي، وتحولت الاستحقاقات الانتخابية إلى مواعيد صراع حول نفوذ الأجندات الدولية في مؤسسات الدولة، واقتسامها، حتى أن المواقف المحددة للسياسة الخارجية أضحت متضاربة بين رئاسة الجمهورية، ورئاسة البرلمان، وتحول المجلس النيابي إلى ساحة تراشق بالبيانات التي تدعم هذا الطرف أو ذاك في صراعات عديدة، كالصراع الدائر في ليبيا.
وبالمثل فإن فرض المعادلات السياسية من الخارج، وخصوصا في حالات التحول الديمقراطي، كانت في كثير من الأمثلة، غير ناجحة، وهو ما علمته لنا دروس أفغانستان والعراق، التي حاول المحافظون الجدد الذين حكموا البيت الأبيض فرضها بواسطة دبابة، فما كان إلا أن عاشت هذه الدول حالات من الفوضى، واقتسام السلطة في إطار نظام طائفي هش، ولا تحركه إلا النعرات الاثنية والطائفية اللاوطنية.
وبالمثل فإن محاولات تشكيل الثورات الملونة التي هزت بعض دول أوروبا الشرقية مثل أوكرانيا، وآسيا الوسطى، أدت إلى أنظمة سياسية مشلولة، ولم تساهم إلا في زيادة تأزيم أقاليمها، وهو ما تم فعلا في أوكرانيا منذ سنة 2014، وتواصل مع اندلاع الحرب فيها خلال فيفري سنة 2022.
إن هذا الفشل الذي رافق الغرب، في كل محاولات نقل الديمقراطية أو فرضها، لم يأخذ بعين الاعتبار بأن الانتقال الديمقراطي، يأتي نتيجة صراع اجتماعي يكون نتاجه انتقال ديمقراطي واقتصادي، ولابد أن يأخذ بعين الاعتبار المكونات المجتمعية لكل دولة تمر بمثل هذا التحول.
هذه التفاعلات غابت عن الحالة التونسية، فطيلة 10 سنوات انطلاقا من سنة 2011، عاشت تونس أزمات اقتصادية متلاحقة أثرت على كل الشرائح الاجتماعية، وحصرت الثروة التي يحققها الاقتصاد ضمن أقلية، كانت دائما فاعلة سياسيا، قامت بمد يديها إلى النخبة السياسية، وكونت نظاما مغلقا يتبادل فيه الطرفان حماية لصالحهم، مقابل التراجع عن ترجمة الشعارات الاقتصادية والاجتماعية التي حملتها ثورة 2010-2011 إلى أفعال حقيقية، وكانت تلك الأسباب المباشرة وراء، سقوط المشهد السياسي السابق، بعد إجراءات 25 جويلية 2021، والتي كان من أبرز ما رفعته من شعارات "تحقيق السيادة الوطنية" و"عدم تدخل الخارج في القرار الوطني"، وهو ما يتكرر دائما في عديد الخطابات لرئيس الجمهورية قيس سعيد.
إن التخل الخارجي في القرارات الوطنية لأي دولة من الدول، أدى في عديد التجارب إلى سقوط حر لمؤسسات الدولة، مقابل سيطرة مؤسسات اثنية وقبلية بقوة السلاح على جيوب جغرافية، وحولت دولا أخرى إلى حالة من الانقسام السياسي، الذي فرضته حالات الصراع الفكري والسياسي المسيطرة على الأطراف المشكلة للصراع، والتي بطبيعتها ليست لها ولاءات وطنية بقدر ما يكون ولاؤها لخدمة أجندات خارجية، وهو ما يقود هذه الدول اختصارا إلى مربع "الدول الفاشلة"، والتي قد تشكل خطرا على جيرانها، مع عدم تمكنها من فرض سيطرتها المطلقة على كل رقعتها الجغرافية، وهو ما قد يصبح مرتعا للفوضى، السياسية والأمنية، التي تنتقل سريعا ومثل النار في الهشيم إلى كل دول الإقليم، وهو ما غرقت فيه تونس طوال سنوات بسبب انتشار التنظيمات الإرهابية وتعاظمها في إقليم شمال إفريقيا والساحل والصحراء.
وحتى بعد قرارات 25 جويلية، فإن كثيرا من الدول، حاولت الدخول على خط الضغوطات والمزايدات على الشأن الداخلي التونسي، إما عبر فرض وصفات اقتصادية ومالية عليها من طرف المؤسسات المالية الدولية، مثل شروط صندوق النقد الدولي، أو باشتراط المساعدات المالية وربطها إما بشروط سياسية، أو بأجندة أمنية فرضتها التغيرات الجيوسياسية التي يمر بها العالم، والتي أنتجت أنساق هجرة من الدول التي تعيش صراعات أو مفترة للتنمية نحو دول الشمال، كدول الاتحاد الأوروبي.
ويبدو أن المزايدات والضغوطات، أخذت تتزايد مع توجهات تونس الخارجية والساعية لتنويع علاقاتها السياسية والاقتصادية مع دول أخرى، وفق ما تفرضه خريطة الصراع الدولية التي أخذت تتشكل، وانتقال مركز الثقل الجيوسياسي من الغرب نحو الشرق، وهو ما يفرض تغييرا في سلوكيات الدول، وفق مصالحها الداخلية، ومقتضيات اقتصادها، وعدم اعتمادها على طرف واحد فقط في المبادلات التجارية والاقتصادية، والاستثمارات الدولية، وكذلك عدم الذهاب في التخندق والاصطفاف مع طرف ضد الآخر في "لعبة الأمم" الجديدة، التي باتت تؤذن بتغيير "النظام العالمي الحالي" بنظام آخر، تتوق له عديد القوى الدولية على غرار الصين وروسيا ودول أمريكا اللاتينية على غرار البرازيل في نسخة الرئيس الحالي لولا داسيلفا.
بقلم: نزار مقني
لا يشك أي متابع للمشهد الدّولي منذ أكثر من عقد و4 سنوات، أن الثورة التونسية التي انطلقت، منذ يوم 17 ديسمبر 2010، وأدّت الى سقوط نظام زين العابدين بن علي، كانت بداية كل الثورات التي هزت المنطقة، وتسببت في زلزال جيوسياسي، مازالت تداعياته ترسم تطورات على الرقعة العربية والإقليمية بصفة عامة.
لقد كان اندلاع الثورة التونسية، نقطة انطلاق لمسار سياسي طويل عاشته تونس، وانتقلت فيه البلاد من حالة سياسية ديكتاتورية إلى مسار انتقال نحو الديمقراطية، أو على الأقل هذا ما كان مطروحا لدى التيارات المشكلة للمشهد السياسي التونسي.
وبالرغم من أن الإرادة كانت متجهة نحو تكوين "مشهد ديمقراطي"، إلا أن تدخل الأجندات السياسية الدولية في المشهد السياسي التونسي، حول الانتقال الديمقراطي، إلى تجربة "ديمقراطية واجهة" التي شكلت "مشهدية ديمقراطية" مشوهة، باعتبار أن صراع هذه الأجندات الأيديولوجية والاقتصادية والجيوسياسية، تسبب في تراجع أداء مؤسسات الدولة، وحتى بداية فقدانها لسلطتها مقابل سطوة الأحزاب على مؤسساتها، وارتهان قرارها لقرار الدول الخارجية.
ولعل محاولات فرض سياسات بعض الدول، شوهد في عديد التفصيلات منها القوانين الحامية لمصالح بعض الدول، مثل تركيا وقطر التي سيطرت على تيارات الإسلام السياسي، التي هيمنت على الحكم طيلة 10 سنوات، مقابل دخول تيارات أخرى على خط المواجهة السياسية في البلاد، والتي كانت تصارع ضد المد الإسلاموي-كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر بعد سقوط الإخوان فيها- الذي عم الدول التي هزها ما سمي بـ"الربيع العربي" الذي انطلق من تونس وضرب كثيرا من البلدان العربية.
ولعل ما تسبب في هذه التدخلات والتهافت على تونس، بعد سنة 2011، محاولة كل صف من هذه الصفوف، جر تونس لمربعها، في وقت أرادت بعض الدول الغربية أن يكون المسار السياسي المتبع بعد 2011، متلائما مع مقتضيات الديمقراطية الليبرالية الغربية.
إن صراع كل هذه الأجندات، منذ سقوط نظام بن علي، أدى إلى تجربة سياسية واقتصادية مشوهة، حيث لم تكتمل كل مؤسسات البناء الديمقراطي في صيغته الليبرالية الغربية، بالرغم من الضغوطات المفروضة على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي، وتحولت الاستحقاقات الانتخابية إلى مواعيد صراع حول نفوذ الأجندات الدولية في مؤسسات الدولة، واقتسامها، حتى أن المواقف المحددة للسياسة الخارجية أضحت متضاربة بين رئاسة الجمهورية، ورئاسة البرلمان، وتحول المجلس النيابي إلى ساحة تراشق بالبيانات التي تدعم هذا الطرف أو ذاك في صراعات عديدة، كالصراع الدائر في ليبيا.
وبالمثل فإن فرض المعادلات السياسية من الخارج، وخصوصا في حالات التحول الديمقراطي، كانت في كثير من الأمثلة، غير ناجحة، وهو ما علمته لنا دروس أفغانستان والعراق، التي حاول المحافظون الجدد الذين حكموا البيت الأبيض فرضها بواسطة دبابة، فما كان إلا أن عاشت هذه الدول حالات من الفوضى، واقتسام السلطة في إطار نظام طائفي هش، ولا تحركه إلا النعرات الاثنية والطائفية اللاوطنية.
وبالمثل فإن محاولات تشكيل الثورات الملونة التي هزت بعض دول أوروبا الشرقية مثل أوكرانيا، وآسيا الوسطى، أدت إلى أنظمة سياسية مشلولة، ولم تساهم إلا في زيادة تأزيم أقاليمها، وهو ما تم فعلا في أوكرانيا منذ سنة 2014، وتواصل مع اندلاع الحرب فيها خلال فيفري سنة 2022.
إن هذا الفشل الذي رافق الغرب، في كل محاولات نقل الديمقراطية أو فرضها، لم يأخذ بعين الاعتبار بأن الانتقال الديمقراطي، يأتي نتيجة صراع اجتماعي يكون نتاجه انتقال ديمقراطي واقتصادي، ولابد أن يأخذ بعين الاعتبار المكونات المجتمعية لكل دولة تمر بمثل هذا التحول.
هذه التفاعلات غابت عن الحالة التونسية، فطيلة 10 سنوات انطلاقا من سنة 2011، عاشت تونس أزمات اقتصادية متلاحقة أثرت على كل الشرائح الاجتماعية، وحصرت الثروة التي يحققها الاقتصاد ضمن أقلية، كانت دائما فاعلة سياسيا، قامت بمد يديها إلى النخبة السياسية، وكونت نظاما مغلقا يتبادل فيه الطرفان حماية لصالحهم، مقابل التراجع عن ترجمة الشعارات الاقتصادية والاجتماعية التي حملتها ثورة 2010-2011 إلى أفعال حقيقية، وكانت تلك الأسباب المباشرة وراء، سقوط المشهد السياسي السابق، بعد إجراءات 25 جويلية 2021، والتي كان من أبرز ما رفعته من شعارات "تحقيق السيادة الوطنية" و"عدم تدخل الخارج في القرار الوطني"، وهو ما يتكرر دائما في عديد الخطابات لرئيس الجمهورية قيس سعيد.
إن التخل الخارجي في القرارات الوطنية لأي دولة من الدول، أدى في عديد التجارب إلى سقوط حر لمؤسسات الدولة، مقابل سيطرة مؤسسات اثنية وقبلية بقوة السلاح على جيوب جغرافية، وحولت دولا أخرى إلى حالة من الانقسام السياسي، الذي فرضته حالات الصراع الفكري والسياسي المسيطرة على الأطراف المشكلة للصراع، والتي بطبيعتها ليست لها ولاءات وطنية بقدر ما يكون ولاؤها لخدمة أجندات خارجية، وهو ما يقود هذه الدول اختصارا إلى مربع "الدول الفاشلة"، والتي قد تشكل خطرا على جيرانها، مع عدم تمكنها من فرض سيطرتها المطلقة على كل رقعتها الجغرافية، وهو ما قد يصبح مرتعا للفوضى، السياسية والأمنية، التي تنتقل سريعا ومثل النار في الهشيم إلى كل دول الإقليم، وهو ما غرقت فيه تونس طوال سنوات بسبب انتشار التنظيمات الإرهابية وتعاظمها في إقليم شمال إفريقيا والساحل والصحراء.
وحتى بعد قرارات 25 جويلية، فإن كثيرا من الدول، حاولت الدخول على خط الضغوطات والمزايدات على الشأن الداخلي التونسي، إما عبر فرض وصفات اقتصادية ومالية عليها من طرف المؤسسات المالية الدولية، مثل شروط صندوق النقد الدولي، أو باشتراط المساعدات المالية وربطها إما بشروط سياسية، أو بأجندة أمنية فرضتها التغيرات الجيوسياسية التي يمر بها العالم، والتي أنتجت أنساق هجرة من الدول التي تعيش صراعات أو مفترة للتنمية نحو دول الشمال، كدول الاتحاد الأوروبي.
ويبدو أن المزايدات والضغوطات، أخذت تتزايد مع توجهات تونس الخارجية والساعية لتنويع علاقاتها السياسية والاقتصادية مع دول أخرى، وفق ما تفرضه خريطة الصراع الدولية التي أخذت تتشكل، وانتقال مركز الثقل الجيوسياسي من الغرب نحو الشرق، وهو ما يفرض تغييرا في سلوكيات الدول، وفق مصالحها الداخلية، ومقتضيات اقتصادها، وعدم اعتمادها على طرف واحد فقط في المبادلات التجارية والاقتصادية، والاستثمارات الدولية، وكذلك عدم الذهاب في التخندق والاصطفاف مع طرف ضد الآخر في "لعبة الأمم" الجديدة، التي باتت تؤذن بتغيير "النظام العالمي الحالي" بنظام آخر، تتوق له عديد القوى الدولية على غرار الصين وروسيا ودول أمريكا اللاتينية على غرار البرازيل في نسخة الرئيس الحالي لولا داسيلفا.