هو أحد تلاميذ مهرجان الصدى للأدباء الناشئين في ثمانينات القرن الماضي. جيل حمل شعار البناء والتأسيس لعطاء شعري وسردي طموح، عاشق لكل معاني الحياة الجميلة تحت إشراف ومواكبة لرواد أفذاذ في لجان تحكيم هذا المهرجان العريق.
الحبيب المرموش.. شاعر هادئ الطباع، كثير العطاء الإبداعي على امتداد أكثر من ثلاثين سنة شعراً وسرداً وإنتاجاً إذاعياً وإشرافاً على أحد أبرز الصالونات الأدبية بالمنستير، والذي جعل منه "برلماناً" جامعاً وشاملاً لمختلف الفنون.
الحبيب المرموش من أشد المؤمنين بأن قصيدة النثر هي أصل الشعر العربي اليوم، فهو بذلك، كما جاء في هذا الحوار، اختارها عقيدته في علاقته بالشعر.
*ماذا يمكن أن نقرأ في الذاكرة عن بداية الرحلة مع الشعر؟
-تجربتي في الكتابة انطلقت منذ الصغر عندما كنت يافعاً، وكانت محاولاتي الأولى نوعاً من التنفيس والتفريغ لشحنة العاطفة الرهيفة التي تتأثر بكل ما يعترضها في الحياة. في تلك السن المبكرة كنت أحاول تسلق جدار الخوف الذي كان يعلو أمامي وأنا طفل حالم وعنيد. وعندما كنت أعجز عن اقتحام هذه العقبة وتردني صخرة سيزيف إلى القاع من جديد، ألجأ إلى الأقلام أبثها لواعج نفسي، وإلى الأوراق أخضبها بما يجيش من نفاثة صدري. دخلت بعدها معترك الكتابة وتسكعت على رصيف الأسئلة الوجودية المضنية. هاجسي الوحيد القراءة والكتابة من أجل الوصول إلى تلك الينابيع الصافية والنهل من معينها العذب الزلال. في البداية كان رفاقي أبو القاسم الشابي، نزار قباني، بدر شاكر السياب، ثم توسعت دائرة الاهتمام فصرت متأثراً بدرويش وأدونيس والماغوط وغيرهم من شعراء تلك المرحلة...
*أنت من جيل مهرجان الصدى للأدباء الناشئين الذي برز في ثمانينات القرن الماضي، ماذا قدم هذا الجيل للشعر التونسي؟
-هذا الجيل الذي نشأت معه في أحضان جريدتي "الصدى" و"الصباح" بداية الثمانينات انطلاقاً من أول مهرجان للأدباء الناشئين في تونس، وذلك في 1986 بدار الثقافة حي الزهور، والذي نلت فيه جائزتين مهمتين آنذاك، الأولى في القصة والثانية في الشعر. وكان من بين لجان التحكيم أسماء مهمة في الساحة الأدبية...
هذا الجيل قدم الكثير من المبدعين للساحة الثقافية كذلك جيل التسعينات. لا أريد أن أذكر الأسماء حتى لا أغفل عن ذكر البعض الآخر، ولكن لو عدنا إلى الإصدارات والمسابقات والجوائز المهمة التي شرفتنا في تونس وخارجها لطالعتنا أسماء بارزة من هذا الجيل الصامد والمبدع الذي ما زال يثبت وجوده رغم متغيرات المرحلة، ورغم التحولات الكبرى في مفاهيم الكتابة ومساراتها في الشعر والسرد، ورغم تداخل الأجناس الأدبية التي أصبحت تنهل من بعضها البعض في تونس والوطن العربي بصفة عامة، فإن ما ينقصنا فقط هو النقد لإبراز هذه التجارب الفاعلة وتثبيت إنجازاتها القيمة في مكانها الصحيح.
*بعد هذه الرحلة، أي قصيد يبحث عنه الحبيب المرموش؟
لقد جربت القصيدة العمودية والقصيدة الحرة وقصيدة الومضة. وكلها مثبتة في دواويني. لكن مراكبي أرست في مرافئ قصيدة النثر التي آمنت بها وتعلقت بتلابيبها، وغامرت على أرضها وتدثرت بجلبابها. وطبعا هنا أقصد قصيدة النثر التي نظرت لها سوزان برنار وأدونيس وسعدي يوسف وغيرهم. وكتبها الماغوط بامتياز، لا قصائد النثر الهجينة التي نسج على منوالها الكثير من المبتدئين دون فهم حقيقي لإيقاعها وصورها ولغتها وأبعادها الرمزية.
*ما هي أولوياتك لحظة البوح الشعري؟
-من أولويات المبدع لحظة البوح الشعري أن يكون منسجماً مع نفسه، متناغماً مع خياله ورؤاه، وأن يكون الهدف من نسخ القصيدة واضحاً في ذهنه، والفكرة متشكلة بكل أبعادها ودلالاتها الوجدانية والنفسية والاجتماعية والفلسفية لديه، وأن يتجرد الشاعر لحظة الكتابة من كل الأعشاب الطفيلية والزوائد اللغوية، ويجسد أحلامه على الورق بكثافة صوره ومعانيه حتى لا يترهل النص، ويكتفي بذاته متجلياً بأقل كلمات، وأوجز عبارات.
*من أي الأبواب تطرق باب القصيد؟ هل هو باب الحنين والذكريات؟ أم باب الطفولة؟ أم باب الحب؟ أم باب النسيان؟ أم باب الأمل؟
-أول الأبواب هو باب الطفولة. أما باقي الأبواب فهي تفتح تباعاً على محطات ومراحل مختلفة من الرحلة الحارقة، ومن الوجع والمعاناة. لا كتابة حقيقية دون حب وأمل، أما النسيان فلولاه لضجت بوجودها الكائنات. نحن نبدأ أطفالاً وننتهي أطفالاً، ونولد من رحم القصيدة ونحن نغالب الدمع، وأحياناً أخرى ونحن نبكي حتى تؤذن في أسماعنا الكلمة. ثم نفارقها، وفي دواخلنا بقايا قلوب محطمة... الطفولة صلاة وقبس من نور الحياة. أنا بدأت خربشاتي الأولى في عمر الزهور. ففي تلك المرحلة كتبت على الجدران، وعلى جذوع الأشجار، وعلى سبورة القسم كلمات مثل الحب والأمل، مثل الحلم والحنين، وغيرها من الدروع التي تحصنا بها من مخالب الخوف والتردد ومن عصا الطاعة العمياء التي جبلنا عليها في طفولتنا الجريحة.
*القصيدة رسالة مفتوحة للعالم، وأنت تكتب هل تفكر في القارئ؟
-لا أفكر في القارئ كذات قارئة، قدر تفكيري في نوع القراءة ومذاقها ومراحل تأويلها ومستويات تحليلها. فالقراءة قراءات متنوعة ومختلفة قد تتجاوروتتناغم مع النص وقد تتباين وتتقاطع. ليس دوري أن أوجه القارئ أو أقنعه بوجهة نظري ورؤاي وما أردت قوله في نصي الشعري. فالقصيدة رسالة كونية وأبدية لا تعترف بحدود أو حواجز. هي تصنع أجنحة من تلقاء نفسها، وتشكل لحماً ودماً فتكسوه ريشاً ثم تفرد جناحيها وتطير صوب العالم الشاسع. أما إذا كانت معطوبة ومهيضة الجناح، فستظل تراوح مكانها. فمهمة الشاعر منذ البدء طرح القضايا الحارقة وخوض المعارك الحقيقية من أجل كينونة الإنسان. إنه مثل الفنان التشكيلي أو الخزاف الذي بأفكاره وأصابعه يشكل أجمل الأكوان والألوان.
*أي قصيد يبحث عنه الحبيب المرموش؟
-في كل مسارات الشعر بشتى تمظهراتها واختلاف محطاتها، تشكلت الروافد البحثية لتجربتي التي انطلقت منها في مجالي التنقيب والتجريب لاستشراف ما هو أجمل وأفضل في كتاباتي.
البحث عن التنوع يعمق عملية الخلق، ويؤصلها، ويطورها، ويجعلها أكثر ثراء، وهذا ليس من باب المجازفة أو الارتماء في أتون المخاض الجاف، وإنما من باب المساءلة الصعبة لعناصر النص ومواصفاته ومعانيه، ومكاشفة الذات الخانعة للقديم بمبحث واضح وطرح جديد. إن التوغل والغوص ما أمكن في مشروع الهدم والبناء الحقيقي يجعل الشاعر يرفض كل أشكال المهادنة في ماهية الشعر على حساب روحه الخلاقة وانعتاقه من سراديب السائد والمألوف من الكتابة.
*ما هي قراءتك لتوجه الشعراء اليوم إلى الكتابة السردية، رواية كانت أو قصة؟
-يبدو أن الشعر في السنوات الأخيرة في حالة تقهقر وانتحار، فهو يمر بأزمة خانقة نتيجة اختلاط الحابل بالنابل، مما جعله يتقلب على صفيح من نار ويفقد البوصلة. لقد تناسلت التجارب الرديئة وعم الاستسهال من قبل من يفتقدون إلى الخبرة والدربة ويتهافتون على الفراغ، دون وعي حقيقي بمعنى الكتابة الشعرية وأهدافها وخصائصها، ما جعلهم يسقطون في دوامة الابتذال، حتى أن أغلب دور النشر صارت ترفض طبع الدواوين والمجموعات الشعرية للخسائر الفادحة التي يتكبدونها من قلة المبيعات، إلا على الحساب الخاص، وهذا ما شجع هؤلاء المتطفلين على نشر دواوين رديئة جعلتهم كمن يحرث في البحر وينتظر الحصاد، وللأسف نجد العديد منهم يبجلون ويكرمون كما أنهم يمثلون تونس بصفتهم الشخصية في كثير من البلدان العربية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى فئة مهمة من الشعراء الجيدين في تونس يهجرون الشعر لهذه الأسباب وغيرها ويرتمون في أحضان السرد، قصة ورواية بالخصوص، لأننا نعيش زمن الرواية بامتياز وربما لأن أهم المسابقات في تونس وفي البلاد العربية تخصص مبالغ مالية لافتة يسيل لها لعاب الكاتب في ظل تصحر مادي طال أمده في الأجناس الأدبية الأخرى، أولها الشعر.
*المشهد الشعري اليوم في تونس. ما له وما عليه من وجهة نظرك؟
-المشهد الشعري كما قلت لك آنفاً يشبه خلطة عجيبة لا نكاد نفرز فيها الغث من السمين. وما زاد الطين بلة انسحاب فروع اتحاد الكتاب التونسيين في أغلب الولايات من هذا الحراك الشعري، على غرار ما كانت عليه من قبل من أجواء وسجالات ولقاءات شعرية مهمة في البلاد. ناهيك عن غياب مجلة الاتحاد (المسار) ومجلة الوزارة "الحياة الثقافية" (التي عادت للصدور) واندثار العديد من الملاحق الأدبية في الصحف السيارة.
*كيف تنظر إلى العلاقة القائمة بين القصيدة والنقد في مشهدنا الشعري الراهن؟
-المنجز النقدي الحقيقي يكاد يكون منعدماً وغائباً تماماً عن المشهد الثقافي والأدبي في البلاد، خاصة النقد الأكاديمي الذي كانت تزخر به المدونة الشعرية في حقبة سابقة، إلا في بعض الحالات التي تقودها المحاباة والمجاملات. أن نثابر على نحت نص جيد في هذا الزمن الصعب يعني أن نقاتل الرداءة من أجل إثبات الوجود. النص الذي لا يكتوي صاحبه بجمراته لا يكون نصاً بليغاً يستحق الخلود، ولا ينتبه إليه في ظل هذا الضباب الأدبي الكثيف.
*تدير منذ سنوات صالون الهادي نعمان بالمنستير. أي دور يمكن أن تقدمه هذه الصالونات للشعر والشعراء بدرجة أولى؟
-صالون الهادي نعمان للإبداع الأدبي الذي أسسته بالمركب الثقافي بالمنستير رفقة مجموعة من المبدعين في 26 أفريل 2014 ليس نادياً متخصصاً في تعليم الكتابة لهواة الأدب فقط كما يعتقد ويتوهم البعض، بل هو فضاء شامل يرتاده قرابة الأربعين عضواً أسبوعياً وبصفة دورية استمرت عشر سنوات متواصلة إلى حد الآن. وهو صالون أرتقى من رتبة الجهوي إلى الوطني باعتباره يقدم خدمات جليلة للمبدعين والمثقفين في كل ربوع هذا الوطن العزيز. وهو لا يخدم الشعراء فقط، بل يخدم الشعر والسرد والنقد والمسرح والموسيقى والفن التشكيلي، ويقوم باستضافات لكبار المبدعين وأصحاب الجوائز والكتب اللافتة ويحرص على أهمية الحوار معهم والتعرف على تجاربهم المتفردة. كما أن الصالون يهتم من خلال ورشاته باليافعين والمبتدئين من الكتاب المغمورين وهو يحتفي بإصدارات أعضائه ويتنقل معهم إلى بعض الفضاءات الثقافية الأخرى لتلاقح الأفكار. أما بالنسبة لباقي الصالونات الأخرى فلها أيضاً دورها الريادي تمارسه بأسلوبها الخاص، إذ يمكن أن نتفق معها في منهجية العمل أو نختلف. المهم أننا نتقاطع في كثير من المفاهيم. ونعمل جميعاً لصالح الإبداع والمبدعين وصالح المشهد الثقافي في البلاد.
*هل حقق هذا الصالون أحلامك الإبداعية وإلى أي مدى؟
-الصالون حقق الكثير من الأحلام المشتركة بعد أن استقطب كل هؤلاء الأعضاء ونجح في لم شملهم من أماكن عدة جهوياً ووطنياً حتى أصبحت الكتب تتهاطل علينا بغزارة من كل حدب وصوب. ومما حققناه أيضاً هذه الإصدارات الأدبية الجديدة لبعض الأعضاء وهذه الجوائز التي تحصلوا عليها في بعض الندوات والملتقيات وشرفونا بها، وهذا التطور في كتاباتهم المتنوعة. ومن المكاسب أيضاً أننا قد خصصنا جلسات متتالية للتعريف بالأدب التونسي شعراً وسرداً وعرفنا بأهم الرموز في الكتابة الأدبية في تونس، كما أننا خصصنا جلسات أخرى للأدب العربي والأدب العالمي، واستضفنا أساتذة ودكاترة في الترجمة وكنا من حين لآخر نقدم لمسات وفاء لمن رحلوا من أدبائنا الأبرار للتعريف بتجاربهم وقراءة ما تيسر من إنتاجاتهم المختلفة.
ماذا عن القادم بالنسبة لهذا الصالون؟
سنسعى هذه السنة لمزيد البذل والعطاء وطبع كتاب خاص بإنتاج أعضاء الصالون إلى جانب التفكير من جديد في بعث ملتقى وطني للإبداع الأدبي لصالون الهادي نعمان، مع الحرص على مزيد استقطاب الطلبة والتلاميذ لصقل مواهبهم وترغيبهم في القراءة والكتابة.
*انطلقت رحلتك مع إذاعة المنستير منذ بداية الثمانينات، إلى أين وصلت هذه الرحلة وآخر البرامج التي أنتجتها؟
-رحلتي مع إذاعة المنستير طويلة ومثمرة، انطلقت في صائفة 1984 واستمرت إلى الآن (2024). مسيرة 40 سنة من العطاء الثقافي المتنوع قدمت خلالها العديد من البرامج الأدبية إلى جانب المسرح والموسيقى. وقد أفدت الكثير من هذه التجربة الإعلامية على مستويات عدة، فزاد رصيدي من القراءة والبحث والاطلاع على تجارب أخرى كثيرة لم أكن لأكتشفها لولا هذه البرامج التي كنت أنتجها وأقدمها بنفسي وأهمها: "قصيدة لكل مستمع"، "حكايات من العالم"، "من القلب إلى القلب"، "بين العلم والمعرفة"، "قيثارة الليل"، "أنفاس البحر"، "معنى ومغنى"، "مشوار مع الأزهار"، وآخرها هذه السنة "كل يوم كتاب" و"نور الصباح".
*ماذا في رصيدك طوال هذه المسيرة الأدبية؟
-لي إصدارات عديدة في الشعر والقصة والرواية بلغ عددها (12) كتاباً، آخرها مجموعة قصصية بعنوان "وجهي لا يشبهني" ومجموعة شعرية بعنوان "أصوات يغويها الظلام"، إلى جانب كتابي الفائز بالجائزة الوطنية لنادي القصة بعنوان: "متسع للضياع".
حوار محسن بن أحمد
هو أحد تلاميذ مهرجان الصدى للأدباء الناشئين في ثمانينات القرن الماضي. جيل حمل شعار البناء والتأسيس لعطاء شعري وسردي طموح، عاشق لكل معاني الحياة الجميلة تحت إشراف ومواكبة لرواد أفذاذ في لجان تحكيم هذا المهرجان العريق.
الحبيب المرموش.. شاعر هادئ الطباع، كثير العطاء الإبداعي على امتداد أكثر من ثلاثين سنة شعراً وسرداً وإنتاجاً إذاعياً وإشرافاً على أحد أبرز الصالونات الأدبية بالمنستير، والذي جعل منه "برلماناً" جامعاً وشاملاً لمختلف الفنون.
الحبيب المرموش من أشد المؤمنين بأن قصيدة النثر هي أصل الشعر العربي اليوم، فهو بذلك، كما جاء في هذا الحوار، اختارها عقيدته في علاقته بالشعر.
*ماذا يمكن أن نقرأ في الذاكرة عن بداية الرحلة مع الشعر؟
-تجربتي في الكتابة انطلقت منذ الصغر عندما كنت يافعاً، وكانت محاولاتي الأولى نوعاً من التنفيس والتفريغ لشحنة العاطفة الرهيفة التي تتأثر بكل ما يعترضها في الحياة. في تلك السن المبكرة كنت أحاول تسلق جدار الخوف الذي كان يعلو أمامي وأنا طفل حالم وعنيد. وعندما كنت أعجز عن اقتحام هذه العقبة وتردني صخرة سيزيف إلى القاع من جديد، ألجأ إلى الأقلام أبثها لواعج نفسي، وإلى الأوراق أخضبها بما يجيش من نفاثة صدري. دخلت بعدها معترك الكتابة وتسكعت على رصيف الأسئلة الوجودية المضنية. هاجسي الوحيد القراءة والكتابة من أجل الوصول إلى تلك الينابيع الصافية والنهل من معينها العذب الزلال. في البداية كان رفاقي أبو القاسم الشابي، نزار قباني، بدر شاكر السياب، ثم توسعت دائرة الاهتمام فصرت متأثراً بدرويش وأدونيس والماغوط وغيرهم من شعراء تلك المرحلة...
*أنت من جيل مهرجان الصدى للأدباء الناشئين الذي برز في ثمانينات القرن الماضي، ماذا قدم هذا الجيل للشعر التونسي؟
-هذا الجيل الذي نشأت معه في أحضان جريدتي "الصدى" و"الصباح" بداية الثمانينات انطلاقاً من أول مهرجان للأدباء الناشئين في تونس، وذلك في 1986 بدار الثقافة حي الزهور، والذي نلت فيه جائزتين مهمتين آنذاك، الأولى في القصة والثانية في الشعر. وكان من بين لجان التحكيم أسماء مهمة في الساحة الأدبية...
هذا الجيل قدم الكثير من المبدعين للساحة الثقافية كذلك جيل التسعينات. لا أريد أن أذكر الأسماء حتى لا أغفل عن ذكر البعض الآخر، ولكن لو عدنا إلى الإصدارات والمسابقات والجوائز المهمة التي شرفتنا في تونس وخارجها لطالعتنا أسماء بارزة من هذا الجيل الصامد والمبدع الذي ما زال يثبت وجوده رغم متغيرات المرحلة، ورغم التحولات الكبرى في مفاهيم الكتابة ومساراتها في الشعر والسرد، ورغم تداخل الأجناس الأدبية التي أصبحت تنهل من بعضها البعض في تونس والوطن العربي بصفة عامة، فإن ما ينقصنا فقط هو النقد لإبراز هذه التجارب الفاعلة وتثبيت إنجازاتها القيمة في مكانها الصحيح.
*بعد هذه الرحلة، أي قصيد يبحث عنه الحبيب المرموش؟
لقد جربت القصيدة العمودية والقصيدة الحرة وقصيدة الومضة. وكلها مثبتة في دواويني. لكن مراكبي أرست في مرافئ قصيدة النثر التي آمنت بها وتعلقت بتلابيبها، وغامرت على أرضها وتدثرت بجلبابها. وطبعا هنا أقصد قصيدة النثر التي نظرت لها سوزان برنار وأدونيس وسعدي يوسف وغيرهم. وكتبها الماغوط بامتياز، لا قصائد النثر الهجينة التي نسج على منوالها الكثير من المبتدئين دون فهم حقيقي لإيقاعها وصورها ولغتها وأبعادها الرمزية.
*ما هي أولوياتك لحظة البوح الشعري؟
-من أولويات المبدع لحظة البوح الشعري أن يكون منسجماً مع نفسه، متناغماً مع خياله ورؤاه، وأن يكون الهدف من نسخ القصيدة واضحاً في ذهنه، والفكرة متشكلة بكل أبعادها ودلالاتها الوجدانية والنفسية والاجتماعية والفلسفية لديه، وأن يتجرد الشاعر لحظة الكتابة من كل الأعشاب الطفيلية والزوائد اللغوية، ويجسد أحلامه على الورق بكثافة صوره ومعانيه حتى لا يترهل النص، ويكتفي بذاته متجلياً بأقل كلمات، وأوجز عبارات.
*من أي الأبواب تطرق باب القصيد؟ هل هو باب الحنين والذكريات؟ أم باب الطفولة؟ أم باب الحب؟ أم باب النسيان؟ أم باب الأمل؟
-أول الأبواب هو باب الطفولة. أما باقي الأبواب فهي تفتح تباعاً على محطات ومراحل مختلفة من الرحلة الحارقة، ومن الوجع والمعاناة. لا كتابة حقيقية دون حب وأمل، أما النسيان فلولاه لضجت بوجودها الكائنات. نحن نبدأ أطفالاً وننتهي أطفالاً، ونولد من رحم القصيدة ونحن نغالب الدمع، وأحياناً أخرى ونحن نبكي حتى تؤذن في أسماعنا الكلمة. ثم نفارقها، وفي دواخلنا بقايا قلوب محطمة... الطفولة صلاة وقبس من نور الحياة. أنا بدأت خربشاتي الأولى في عمر الزهور. ففي تلك المرحلة كتبت على الجدران، وعلى جذوع الأشجار، وعلى سبورة القسم كلمات مثل الحب والأمل، مثل الحلم والحنين، وغيرها من الدروع التي تحصنا بها من مخالب الخوف والتردد ومن عصا الطاعة العمياء التي جبلنا عليها في طفولتنا الجريحة.
*القصيدة رسالة مفتوحة للعالم، وأنت تكتب هل تفكر في القارئ؟
-لا أفكر في القارئ كذات قارئة، قدر تفكيري في نوع القراءة ومذاقها ومراحل تأويلها ومستويات تحليلها. فالقراءة قراءات متنوعة ومختلفة قد تتجاوروتتناغم مع النص وقد تتباين وتتقاطع. ليس دوري أن أوجه القارئ أو أقنعه بوجهة نظري ورؤاي وما أردت قوله في نصي الشعري. فالقصيدة رسالة كونية وأبدية لا تعترف بحدود أو حواجز. هي تصنع أجنحة من تلقاء نفسها، وتشكل لحماً ودماً فتكسوه ريشاً ثم تفرد جناحيها وتطير صوب العالم الشاسع. أما إذا كانت معطوبة ومهيضة الجناح، فستظل تراوح مكانها. فمهمة الشاعر منذ البدء طرح القضايا الحارقة وخوض المعارك الحقيقية من أجل كينونة الإنسان. إنه مثل الفنان التشكيلي أو الخزاف الذي بأفكاره وأصابعه يشكل أجمل الأكوان والألوان.
*أي قصيد يبحث عنه الحبيب المرموش؟
-في كل مسارات الشعر بشتى تمظهراتها واختلاف محطاتها، تشكلت الروافد البحثية لتجربتي التي انطلقت منها في مجالي التنقيب والتجريب لاستشراف ما هو أجمل وأفضل في كتاباتي.
البحث عن التنوع يعمق عملية الخلق، ويؤصلها، ويطورها، ويجعلها أكثر ثراء، وهذا ليس من باب المجازفة أو الارتماء في أتون المخاض الجاف، وإنما من باب المساءلة الصعبة لعناصر النص ومواصفاته ومعانيه، ومكاشفة الذات الخانعة للقديم بمبحث واضح وطرح جديد. إن التوغل والغوص ما أمكن في مشروع الهدم والبناء الحقيقي يجعل الشاعر يرفض كل أشكال المهادنة في ماهية الشعر على حساب روحه الخلاقة وانعتاقه من سراديب السائد والمألوف من الكتابة.
*ما هي قراءتك لتوجه الشعراء اليوم إلى الكتابة السردية، رواية كانت أو قصة؟
-يبدو أن الشعر في السنوات الأخيرة في حالة تقهقر وانتحار، فهو يمر بأزمة خانقة نتيجة اختلاط الحابل بالنابل، مما جعله يتقلب على صفيح من نار ويفقد البوصلة. لقد تناسلت التجارب الرديئة وعم الاستسهال من قبل من يفتقدون إلى الخبرة والدربة ويتهافتون على الفراغ، دون وعي حقيقي بمعنى الكتابة الشعرية وأهدافها وخصائصها، ما جعلهم يسقطون في دوامة الابتذال، حتى أن أغلب دور النشر صارت ترفض طبع الدواوين والمجموعات الشعرية للخسائر الفادحة التي يتكبدونها من قلة المبيعات، إلا على الحساب الخاص، وهذا ما شجع هؤلاء المتطفلين على نشر دواوين رديئة جعلتهم كمن يحرث في البحر وينتظر الحصاد، وللأسف نجد العديد منهم يبجلون ويكرمون كما أنهم يمثلون تونس بصفتهم الشخصية في كثير من البلدان العربية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى فئة مهمة من الشعراء الجيدين في تونس يهجرون الشعر لهذه الأسباب وغيرها ويرتمون في أحضان السرد، قصة ورواية بالخصوص، لأننا نعيش زمن الرواية بامتياز وربما لأن أهم المسابقات في تونس وفي البلاد العربية تخصص مبالغ مالية لافتة يسيل لها لعاب الكاتب في ظل تصحر مادي طال أمده في الأجناس الأدبية الأخرى، أولها الشعر.
*المشهد الشعري اليوم في تونس. ما له وما عليه من وجهة نظرك؟
-المشهد الشعري كما قلت لك آنفاً يشبه خلطة عجيبة لا نكاد نفرز فيها الغث من السمين. وما زاد الطين بلة انسحاب فروع اتحاد الكتاب التونسيين في أغلب الولايات من هذا الحراك الشعري، على غرار ما كانت عليه من قبل من أجواء وسجالات ولقاءات شعرية مهمة في البلاد. ناهيك عن غياب مجلة الاتحاد (المسار) ومجلة الوزارة "الحياة الثقافية" (التي عادت للصدور) واندثار العديد من الملاحق الأدبية في الصحف السيارة.
*كيف تنظر إلى العلاقة القائمة بين القصيدة والنقد في مشهدنا الشعري الراهن؟
-المنجز النقدي الحقيقي يكاد يكون منعدماً وغائباً تماماً عن المشهد الثقافي والأدبي في البلاد، خاصة النقد الأكاديمي الذي كانت تزخر به المدونة الشعرية في حقبة سابقة، إلا في بعض الحالات التي تقودها المحاباة والمجاملات. أن نثابر على نحت نص جيد في هذا الزمن الصعب يعني أن نقاتل الرداءة من أجل إثبات الوجود. النص الذي لا يكتوي صاحبه بجمراته لا يكون نصاً بليغاً يستحق الخلود، ولا ينتبه إليه في ظل هذا الضباب الأدبي الكثيف.
*تدير منذ سنوات صالون الهادي نعمان بالمنستير. أي دور يمكن أن تقدمه هذه الصالونات للشعر والشعراء بدرجة أولى؟
-صالون الهادي نعمان للإبداع الأدبي الذي أسسته بالمركب الثقافي بالمنستير رفقة مجموعة من المبدعين في 26 أفريل 2014 ليس نادياً متخصصاً في تعليم الكتابة لهواة الأدب فقط كما يعتقد ويتوهم البعض، بل هو فضاء شامل يرتاده قرابة الأربعين عضواً أسبوعياً وبصفة دورية استمرت عشر سنوات متواصلة إلى حد الآن. وهو صالون أرتقى من رتبة الجهوي إلى الوطني باعتباره يقدم خدمات جليلة للمبدعين والمثقفين في كل ربوع هذا الوطن العزيز. وهو لا يخدم الشعراء فقط، بل يخدم الشعر والسرد والنقد والمسرح والموسيقى والفن التشكيلي، ويقوم باستضافات لكبار المبدعين وأصحاب الجوائز والكتب اللافتة ويحرص على أهمية الحوار معهم والتعرف على تجاربهم المتفردة. كما أن الصالون يهتم من خلال ورشاته باليافعين والمبتدئين من الكتاب المغمورين وهو يحتفي بإصدارات أعضائه ويتنقل معهم إلى بعض الفضاءات الثقافية الأخرى لتلاقح الأفكار. أما بالنسبة لباقي الصالونات الأخرى فلها أيضاً دورها الريادي تمارسه بأسلوبها الخاص، إذ يمكن أن نتفق معها في منهجية العمل أو نختلف. المهم أننا نتقاطع في كثير من المفاهيم. ونعمل جميعاً لصالح الإبداع والمبدعين وصالح المشهد الثقافي في البلاد.
*هل حقق هذا الصالون أحلامك الإبداعية وإلى أي مدى؟
-الصالون حقق الكثير من الأحلام المشتركة بعد أن استقطب كل هؤلاء الأعضاء ونجح في لم شملهم من أماكن عدة جهوياً ووطنياً حتى أصبحت الكتب تتهاطل علينا بغزارة من كل حدب وصوب. ومما حققناه أيضاً هذه الإصدارات الأدبية الجديدة لبعض الأعضاء وهذه الجوائز التي تحصلوا عليها في بعض الندوات والملتقيات وشرفونا بها، وهذا التطور في كتاباتهم المتنوعة. ومن المكاسب أيضاً أننا قد خصصنا جلسات متتالية للتعريف بالأدب التونسي شعراً وسرداً وعرفنا بأهم الرموز في الكتابة الأدبية في تونس، كما أننا خصصنا جلسات أخرى للأدب العربي والأدب العالمي، واستضفنا أساتذة ودكاترة في الترجمة وكنا من حين لآخر نقدم لمسات وفاء لمن رحلوا من أدبائنا الأبرار للتعريف بتجاربهم وقراءة ما تيسر من إنتاجاتهم المختلفة.
ماذا عن القادم بالنسبة لهذا الصالون؟
سنسعى هذه السنة لمزيد البذل والعطاء وطبع كتاب خاص بإنتاج أعضاء الصالون إلى جانب التفكير من جديد في بعث ملتقى وطني للإبداع الأدبي لصالون الهادي نعمان، مع الحرص على مزيد استقطاب الطلبة والتلاميذ لصقل مواهبهم وترغيبهم في القراءة والكتابة.
*انطلقت رحلتك مع إذاعة المنستير منذ بداية الثمانينات، إلى أين وصلت هذه الرحلة وآخر البرامج التي أنتجتها؟
-رحلتي مع إذاعة المنستير طويلة ومثمرة، انطلقت في صائفة 1984 واستمرت إلى الآن (2024). مسيرة 40 سنة من العطاء الثقافي المتنوع قدمت خلالها العديد من البرامج الأدبية إلى جانب المسرح والموسيقى. وقد أفدت الكثير من هذه التجربة الإعلامية على مستويات عدة، فزاد رصيدي من القراءة والبحث والاطلاع على تجارب أخرى كثيرة لم أكن لأكتشفها لولا هذه البرامج التي كنت أنتجها وأقدمها بنفسي وأهمها: "قصيدة لكل مستمع"، "حكايات من العالم"، "من القلب إلى القلب"، "بين العلم والمعرفة"، "قيثارة الليل"، "أنفاس البحر"، "معنى ومغنى"، "مشوار مع الأزهار"، وآخرها هذه السنة "كل يوم كتاب" و"نور الصباح".
*ماذا في رصيدك طوال هذه المسيرة الأدبية؟
-لي إصدارات عديدة في الشعر والقصة والرواية بلغ عددها (12) كتاباً، آخرها مجموعة قصصية بعنوان "وجهي لا يشبهني" ومجموعة شعرية بعنوان "أصوات يغويها الظلام"، إلى جانب كتابي الفائز بالجائزة الوطنية لنادي القصة بعنوان: "متسع للضياع".