أرض العراق.. هي أرض الصمود والبطولات والأمجاد.. وأرض الأخوة في الوحدة والتاريخ والمصير.. وإيمانا منّا بقدرات أبناء هذه الأرض عشت دوما في تاريخها، وفي أحلامها، وفيما تتطلع إليه من سؤدد ومجد !..
وفي مرايا الصورة ؛ كنت وجدت في مدن العراق كـ : (بغداد)، و(الموصل)، و(البصرة)، و(الكوفة)، والنجف) كل ما يسمو به العقل، وما يشعرني بالفخر والاعتزاز.. فشعب العراق كما هو معروف عنه ؛ هو شعب عظيم.. وتاريخه حافل بالمآثر والحركة والإضافة .. وأنجب أعلاما وعظماء ومبدعين كبارا .. وجهود الرجال والنساء هناك ؛ كان لها أصداء وصولات وجولات في مجالي السياسة والحفاظ على (اللغة العربية)، وفي تمكين هذه اللغة من أن تتطور مع الزمن وتتلاءم مع مستجدات العصور.
وفي حكايات التاريخ يقولون : إن للعراق أفضالا على العرب، وهذا البلد تميز بنخيله وبما تواجد بين (دجلة والفرات) من طبيعة خلابة وبكثرة شعرائه.. ومثلما كان النخيل ينمو.. كان الشعر هو الآخر ينمو ويجد في غابات النخيل نهرا من الدفء.. ولذا كان للشعر تاريخا وللشعراء دور في التعبير عن أدق القضايا والهموم العربية .
وفي ظل مناخات هذه البذار انتعشت أسواق الشعر.. وتسابق الناس إلى زيارة (عاصمة الرشيد) ؛ بوصفها أرض الحب والإباء وأرض الشعر أيضا !..
وفيما حكوه عما هو رائع وجميل من مقولات : أن للعراض شعراء كثرا في جميع العصور.. وحتى في العصر الحديث ؛ الذي نعيشه.. فبغداد مدينة ولادة وفيها عاش كبار الشعراء العرب.. ومن شعرائها الأفذاذ في هذه الأيام نجد : نازك الملائكة، ولميعة عباس عمارة، وعبد الوهاب البياتي، ومحمد جواد الغبان، وبدر شاكر السيّاب وأضرابهم ..
فهؤلاء فرسان في تطوير (القصيدة الشعرية) شكلا ومضمونا، وأحدثوا هزة فكرية في الوطن العربي، وتفاعلوا مع الأجيال الجديدة بحثا عن الحبّ والنجاحات والثورة في سبيل الارتقاء بالأوطان.
والمكان مهم في (غابات النخيل) ؛ التي تمتد حوالي كيلو مترين على كل من ضفتي (شط العرب)، وازدانت بما لا يقل عن خمسة عشر مليون نخلة : هي نصف ثروة العراق من النخيل، وعلى مقربة من (أبي الخصيب) تقع (قرية جيكور)؛ وهي قرية فلاحية، وقدر لها أن تصبح لها شهرة في الأوساط الأدبية في الوطن العربي؛ لأنها أنجبت شاعرا كبيرا هو (بدر شاكر السياب)؛ الذي ولد فيها عام 1926م وعشقها إلى أن توفاه الله بها سنة 1964م.
(وبدر شاكر السياب)؛ الذي أحبه العراقيون كثيرا وأولاه نقاد كثر بدراسات عن أشعاره ؛ كان منهم: عيسى بلاطة، والدكتور عبد العزيز شرف، ود. سعد ظلام، وحسني سيد لبيب، وإيليا الحاوي.. هو أديب ينتمي إلى إحدى العائلات السنية الفلاحية كان أفرادها يحيون حياة لائقة.. والناقد عيسى بلاطة يذكر عن هذه العائلة أن أغلب أفرادها ماتوا بالطاعون أثناء انتشار في العراق عام 1831م، وأن طفولة الشاعر؛ كانت سعيدة، ثم سرعان ما تحطمت آماله بوفاة والدته في عام 1932م، وعمره وقتئذ ست سنوات..أما الناقد إيليا الحاوي فيذكر : عن (بدر) أنه أصيب بخيبات كثيرة منها : موت أمه، ووفاة (أمينة) جدته لأبيه عام 1942م، وخيباته العديدة في العشق والغرام كـ: (وفيقة) إحدى بنات عائلته وكانت صبية مدللة وذات جمال فاتن، وقد أحترق قلبه لما تزوجها غيره.. وفجع بموتها بعد نحو عشر سنين.. وبكي عليها في رثائه لها في (قصد على الشاطئ) : 1941م.. والسياب العاشق..هام ببنات كثيرات كـ: (هالة) و(لبيبة)، و(الأقحوانة)، و(ذات الغمازتين) وتغنى بهن : لكن قامت بينه وبينهن تعقيدات لا جدوى من الانتصار عليها مثلما حدث له مع (ذات الغمازتين) كما كان يسميها.. فقد أحبها ونظم فيها شعرا: لكنه ما عتمت أن صدت عنه وتزوجت ثريا عراقيا.. وقد أذكى هذا في نفسه مشاعر الحقد الطبقي.
و(بدر شاكر السياب) تردد كثيرا على مقاهي بغداد..وفيها التقى بالعديد من رجال الصحافة والأدب.. وكان فيهم : ناجي العبيدي صاحب جريدة (الإتحاد)، وهو أول من نشر شعرا لـ : (بدر)؛ حيث نشر له قصيدة (شاعر).. ويقول فيها :
غنّى ليصطاد حبيباته *** فأصطاد أسماء حبيباته
والطالب الجامعي( بدر) والذي ألتحق بـ (دار المعلمين العالية) في بغداد بعد أن أنهى دراسته الثانوية ؛ كان كثيرا ما يقرأ دواوين الشعر العربي ؛ وبخاصة دواوين (أبي تمام) والمعري والبحتري وأضرابهم..
وثلة (بدر) بشعبه وبما يحدث في بلاده وفي المنطقة العربية عامة ؛ هي صلة قوية غدتها المحبة والمشاعر والعشق.. ويحسسنا بها أحيانا بقوله : من يصلب الشاعر في بغداد؟..
وفي أطوار أخرى نشاهده متشائما عندما تقف العقبات وتتعاظم الهموم أمامه .. فهنا يعلن الثورة على الوهن والظلم.. وقد يعود بنا أيضا إلى ذكريات الطفولة والصبى؛ التي عاشها في (جيكور) فيخاطبها وكأنها ماتت ولن تولد من جديد.. يقول في حيرة وذهول :
جيكــــــــــــــــــور *** نامي في ظلام السنين ! ..
وقد تصطك عظامه يوما بالصقيع والبرد ولا يعرف دفئا لها فيخاطبها من جديد بقوله :
(جيكور) أين الخبز والمـــــــــــــــــــــــــاء *** والريح صرّ وكل الأفق أصداء؟..
(بيداء) ما في مداها ما يبين لنا *** دربا لنا وسماء الليل عمياء ! ..
كما نجد السياب في إيقاعات الفن الشعري الرائع ؛ شاعرا ماهرا في بناء القصيدة ويضيف إليها ويحذف، وقادرا على المعادلة ؛ لكي يقنع النقاد بما يجري في سياقات الصورة وقد أوضح لنا شيئا من هذا في قصيدة (المخبر) .. ويقول فيها :
في البدء كان يطيف بي شبح يقال له الضمير
أنا منه مثل اللص يسمع وقع اقدام الخفير
شبــــــــــــــــــــــــــــــــح تنفس ثم مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات .. واللص عــــــــــــــــــاد هـــــــــــــــــــــــو الخفيـــــــــــــــــــــر
في البدء لم أك في الصراع سوى أجير كالبائعات حليبهن، كما تؤجر – للبكاء
ولندب موتى يرى موتاهن – في الهند النساء قد أمعن الباكي على مضض فعاد هو البكاء
وتمضي أعوام .. ويتم فيها محاولة انقلاب فاشلة في العراق قادها رشيد عالي الكيلاني..وانتهت بسقوطه وشنق بعض مؤيديه .. وهنا يتجرأ (بدر) ليعلن بصوته الصارخ قصيدا ثوريا في رثاء (جماعة الانقلاب).
ونشاط الشاعر وحراكه الثوري لم يقف عند هذا الحد.. بل أستمر طويلا ولسنوات عديدة.. وعانى فيها (بدر) شظف العيش وعصا الحاكم .. ومما يحسب لها انتماؤه في عام 1945م إلى الحزب الشيوعي..وبات في هذه المحطة قريبا من العمال والفلاحين، ومن أنشط وجهاء هذا الحزب في المنطقة العربية، وأصبحت لخطاباته السياسية والوطنية أصداء واسعة في الأندية والساحات.
ويحدث في بغداد في عام 1946 م أن يثور (بدر) من جديد على النظام السياسي القائم في بغداد، ويدعو إلى محاكمة الفاسدين فيه..وأذاع هذا الطلب في قصيدته الشهيرة : (هل كان حيا؟..) وقد اعتبرت تلك القصيدة هي أرقى قصائد الثورات في تلك الفترة.. وأولى تجارب (الشعر الحرّ) لدى بدر السياب.. ومع الأيام أصبح لصوت (بدر) مكانة عالية في قلوب العراقيين وبالخصوص على إثر مساندته للمظاهرات الشعبية وللتصورات إبان تولي نوري السعيد رئاسة الوزارة العراقية سنة 1946م.
ومن نضالاته في مرحلة الصراعات الدولية على المنطقة العربية وعلى وحدتها ؛ كان إيمانه قويا بخيارات الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الداعي إلى وحدة العرب وتكاتفهم.
وأحداث التاريخ قصت علينا مناورات حكام العالم يوم ارسوا (حلف بغداد) فالمناورات يومئذ كانت كبيرة على العالم العربي وعلى مصر وسورية والعراق تحديدا.. والعراق في ذلك الزمن أصبح معزولا عن الفكر التقدمي.. لكن (صوت السياب) في أيام هذا الحلف لم يخمد بل ظل قويا وصارخا ؛ إذ بادر (بدر) في هذه المرحلة بترجمة العديد من قصائد الشعراء التقدميين في العالم.. ويبدو لي شخصيا أن (بدرا) أخفى علينا سرا حينما لم يشأ أن يصرح بموقفه من السلطة العراقية القائمة وقتئذ!
•• فهذا.. هو (بدر شاكر السياب) الرومانسي الذي يحن إلى الريف وإلى فردوسه الضائع فيه والذي عاش في كل بيت عراقي لحنا رقيقا وثائرا .. يروى قصص البطولة وتاريخ بلاده وتاريخ البذور والجذور !.. والقائل في مشهد الانفعال النفسي.
صوتي تفجّر في قرارة نفس الثكلى : عراق
والموج يعلو بي كالمدّ يصعد كالسحابة كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق، عراق، عرقا، ليس سوى عراق !
•• وهذا هو الشاعر الجسور ؛ الذي أكد أكثر من مرة على (حرية الكلمة)، ونادى بتجنيد قوانا، وبتعبئة الطاقات الفكرية لتتنافس مع غيرها، ولتنتج ما يحقق الاكتفاء الذاتي لجميع أبناء الأمة العربية وحتى لا تعيش هذه الأمة في ضياع الأمل وانطفاء الطموح !..
•• وهذا هو الشاعر الأصيل الذي تحدث عن الفلسطينيين وعن جميلة بوحيرد؛ وخلد جراحات العرب .. وناضل من أجلهم باستماتة ودافع عن هويتهم وعلى الطبقات الفقيرة منهم !.. فليرحمه الله بقدر ما بذل وأعطى..!
بقلم: رشيــــــــــــــــد الذوادي
أرض العراق.. هي أرض الصمود والبطولات والأمجاد.. وأرض الأخوة في الوحدة والتاريخ والمصير.. وإيمانا منّا بقدرات أبناء هذه الأرض عشت دوما في تاريخها، وفي أحلامها، وفيما تتطلع إليه من سؤدد ومجد !..
وفي مرايا الصورة ؛ كنت وجدت في مدن العراق كـ : (بغداد)، و(الموصل)، و(البصرة)، و(الكوفة)، والنجف) كل ما يسمو به العقل، وما يشعرني بالفخر والاعتزاز.. فشعب العراق كما هو معروف عنه ؛ هو شعب عظيم.. وتاريخه حافل بالمآثر والحركة والإضافة .. وأنجب أعلاما وعظماء ومبدعين كبارا .. وجهود الرجال والنساء هناك ؛ كان لها أصداء وصولات وجولات في مجالي السياسة والحفاظ على (اللغة العربية)، وفي تمكين هذه اللغة من أن تتطور مع الزمن وتتلاءم مع مستجدات العصور.
وفي حكايات التاريخ يقولون : إن للعراق أفضالا على العرب، وهذا البلد تميز بنخيله وبما تواجد بين (دجلة والفرات) من طبيعة خلابة وبكثرة شعرائه.. ومثلما كان النخيل ينمو.. كان الشعر هو الآخر ينمو ويجد في غابات النخيل نهرا من الدفء.. ولذا كان للشعر تاريخا وللشعراء دور في التعبير عن أدق القضايا والهموم العربية .
وفي ظل مناخات هذه البذار انتعشت أسواق الشعر.. وتسابق الناس إلى زيارة (عاصمة الرشيد) ؛ بوصفها أرض الحب والإباء وأرض الشعر أيضا !..
وفيما حكوه عما هو رائع وجميل من مقولات : أن للعراض شعراء كثرا في جميع العصور.. وحتى في العصر الحديث ؛ الذي نعيشه.. فبغداد مدينة ولادة وفيها عاش كبار الشعراء العرب.. ومن شعرائها الأفذاذ في هذه الأيام نجد : نازك الملائكة، ولميعة عباس عمارة، وعبد الوهاب البياتي، ومحمد جواد الغبان، وبدر شاكر السيّاب وأضرابهم ..
فهؤلاء فرسان في تطوير (القصيدة الشعرية) شكلا ومضمونا، وأحدثوا هزة فكرية في الوطن العربي، وتفاعلوا مع الأجيال الجديدة بحثا عن الحبّ والنجاحات والثورة في سبيل الارتقاء بالأوطان.
والمكان مهم في (غابات النخيل) ؛ التي تمتد حوالي كيلو مترين على كل من ضفتي (شط العرب)، وازدانت بما لا يقل عن خمسة عشر مليون نخلة : هي نصف ثروة العراق من النخيل، وعلى مقربة من (أبي الخصيب) تقع (قرية جيكور)؛ وهي قرية فلاحية، وقدر لها أن تصبح لها شهرة في الأوساط الأدبية في الوطن العربي؛ لأنها أنجبت شاعرا كبيرا هو (بدر شاكر السياب)؛ الذي ولد فيها عام 1926م وعشقها إلى أن توفاه الله بها سنة 1964م.
(وبدر شاكر السياب)؛ الذي أحبه العراقيون كثيرا وأولاه نقاد كثر بدراسات عن أشعاره ؛ كان منهم: عيسى بلاطة، والدكتور عبد العزيز شرف، ود. سعد ظلام، وحسني سيد لبيب، وإيليا الحاوي.. هو أديب ينتمي إلى إحدى العائلات السنية الفلاحية كان أفرادها يحيون حياة لائقة.. والناقد عيسى بلاطة يذكر عن هذه العائلة أن أغلب أفرادها ماتوا بالطاعون أثناء انتشار في العراق عام 1831م، وأن طفولة الشاعر؛ كانت سعيدة، ثم سرعان ما تحطمت آماله بوفاة والدته في عام 1932م، وعمره وقتئذ ست سنوات..أما الناقد إيليا الحاوي فيذكر : عن (بدر) أنه أصيب بخيبات كثيرة منها : موت أمه، ووفاة (أمينة) جدته لأبيه عام 1942م، وخيباته العديدة في العشق والغرام كـ: (وفيقة) إحدى بنات عائلته وكانت صبية مدللة وذات جمال فاتن، وقد أحترق قلبه لما تزوجها غيره.. وفجع بموتها بعد نحو عشر سنين.. وبكي عليها في رثائه لها في (قصد على الشاطئ) : 1941م.. والسياب العاشق..هام ببنات كثيرات كـ: (هالة) و(لبيبة)، و(الأقحوانة)، و(ذات الغمازتين) وتغنى بهن : لكن قامت بينه وبينهن تعقيدات لا جدوى من الانتصار عليها مثلما حدث له مع (ذات الغمازتين) كما كان يسميها.. فقد أحبها ونظم فيها شعرا: لكنه ما عتمت أن صدت عنه وتزوجت ثريا عراقيا.. وقد أذكى هذا في نفسه مشاعر الحقد الطبقي.
و(بدر شاكر السياب) تردد كثيرا على مقاهي بغداد..وفيها التقى بالعديد من رجال الصحافة والأدب.. وكان فيهم : ناجي العبيدي صاحب جريدة (الإتحاد)، وهو أول من نشر شعرا لـ : (بدر)؛ حيث نشر له قصيدة (شاعر).. ويقول فيها :
غنّى ليصطاد حبيباته *** فأصطاد أسماء حبيباته
والطالب الجامعي( بدر) والذي ألتحق بـ (دار المعلمين العالية) في بغداد بعد أن أنهى دراسته الثانوية ؛ كان كثيرا ما يقرأ دواوين الشعر العربي ؛ وبخاصة دواوين (أبي تمام) والمعري والبحتري وأضرابهم..
وثلة (بدر) بشعبه وبما يحدث في بلاده وفي المنطقة العربية عامة ؛ هي صلة قوية غدتها المحبة والمشاعر والعشق.. ويحسسنا بها أحيانا بقوله : من يصلب الشاعر في بغداد؟..
وفي أطوار أخرى نشاهده متشائما عندما تقف العقبات وتتعاظم الهموم أمامه .. فهنا يعلن الثورة على الوهن والظلم.. وقد يعود بنا أيضا إلى ذكريات الطفولة والصبى؛ التي عاشها في (جيكور) فيخاطبها وكأنها ماتت ولن تولد من جديد.. يقول في حيرة وذهول :
جيكــــــــــــــــــور *** نامي في ظلام السنين ! ..
وقد تصطك عظامه يوما بالصقيع والبرد ولا يعرف دفئا لها فيخاطبها من جديد بقوله :
(جيكور) أين الخبز والمـــــــــــــــــــــــــاء *** والريح صرّ وكل الأفق أصداء؟..
(بيداء) ما في مداها ما يبين لنا *** دربا لنا وسماء الليل عمياء ! ..
كما نجد السياب في إيقاعات الفن الشعري الرائع ؛ شاعرا ماهرا في بناء القصيدة ويضيف إليها ويحذف، وقادرا على المعادلة ؛ لكي يقنع النقاد بما يجري في سياقات الصورة وقد أوضح لنا شيئا من هذا في قصيدة (المخبر) .. ويقول فيها :
في البدء كان يطيف بي شبح يقال له الضمير
أنا منه مثل اللص يسمع وقع اقدام الخفير
شبــــــــــــــــــــــــــــــــح تنفس ثم مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات .. واللص عــــــــــــــــــاد هـــــــــــــــــــــــو الخفيـــــــــــــــــــــر
في البدء لم أك في الصراع سوى أجير كالبائعات حليبهن، كما تؤجر – للبكاء
ولندب موتى يرى موتاهن – في الهند النساء قد أمعن الباكي على مضض فعاد هو البكاء
وتمضي أعوام .. ويتم فيها محاولة انقلاب فاشلة في العراق قادها رشيد عالي الكيلاني..وانتهت بسقوطه وشنق بعض مؤيديه .. وهنا يتجرأ (بدر) ليعلن بصوته الصارخ قصيدا ثوريا في رثاء (جماعة الانقلاب).
ونشاط الشاعر وحراكه الثوري لم يقف عند هذا الحد.. بل أستمر طويلا ولسنوات عديدة.. وعانى فيها (بدر) شظف العيش وعصا الحاكم .. ومما يحسب لها انتماؤه في عام 1945م إلى الحزب الشيوعي..وبات في هذه المحطة قريبا من العمال والفلاحين، ومن أنشط وجهاء هذا الحزب في المنطقة العربية، وأصبحت لخطاباته السياسية والوطنية أصداء واسعة في الأندية والساحات.
ويحدث في بغداد في عام 1946 م أن يثور (بدر) من جديد على النظام السياسي القائم في بغداد، ويدعو إلى محاكمة الفاسدين فيه..وأذاع هذا الطلب في قصيدته الشهيرة : (هل كان حيا؟..) وقد اعتبرت تلك القصيدة هي أرقى قصائد الثورات في تلك الفترة.. وأولى تجارب (الشعر الحرّ) لدى بدر السياب.. ومع الأيام أصبح لصوت (بدر) مكانة عالية في قلوب العراقيين وبالخصوص على إثر مساندته للمظاهرات الشعبية وللتصورات إبان تولي نوري السعيد رئاسة الوزارة العراقية سنة 1946م.
ومن نضالاته في مرحلة الصراعات الدولية على المنطقة العربية وعلى وحدتها ؛ كان إيمانه قويا بخيارات الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الداعي إلى وحدة العرب وتكاتفهم.
وأحداث التاريخ قصت علينا مناورات حكام العالم يوم ارسوا (حلف بغداد) فالمناورات يومئذ كانت كبيرة على العالم العربي وعلى مصر وسورية والعراق تحديدا.. والعراق في ذلك الزمن أصبح معزولا عن الفكر التقدمي.. لكن (صوت السياب) في أيام هذا الحلف لم يخمد بل ظل قويا وصارخا ؛ إذ بادر (بدر) في هذه المرحلة بترجمة العديد من قصائد الشعراء التقدميين في العالم.. ويبدو لي شخصيا أن (بدرا) أخفى علينا سرا حينما لم يشأ أن يصرح بموقفه من السلطة العراقية القائمة وقتئذ!
•• فهذا.. هو (بدر شاكر السياب) الرومانسي الذي يحن إلى الريف وإلى فردوسه الضائع فيه والذي عاش في كل بيت عراقي لحنا رقيقا وثائرا .. يروى قصص البطولة وتاريخ بلاده وتاريخ البذور والجذور !.. والقائل في مشهد الانفعال النفسي.
صوتي تفجّر في قرارة نفس الثكلى : عراق
والموج يعلو بي كالمدّ يصعد كالسحابة كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق، عراق، عرقا، ليس سوى عراق !
•• وهذا هو الشاعر الجسور ؛ الذي أكد أكثر من مرة على (حرية الكلمة)، ونادى بتجنيد قوانا، وبتعبئة الطاقات الفكرية لتتنافس مع غيرها، ولتنتج ما يحقق الاكتفاء الذاتي لجميع أبناء الأمة العربية وحتى لا تعيش هذه الأمة في ضياع الأمل وانطفاء الطموح !..
•• وهذا هو الشاعر الأصيل الذي تحدث عن الفلسطينيين وعن جميلة بوحيرد؛ وخلد جراحات العرب .. وناضل من أجلهم باستماتة ودافع عن هويتهم وعلى الطبقات الفقيرة منهم !.. فليرحمه الله بقدر ما بذل وأعطى..!