إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

أربعينيّة عبد الجبّار العش تلمّ شمل فرسان الكلمة والنقابيّين والسياسيّين ولفيفا من المجتمع المدني

كانت جريدة الصباح الغرّاء تواكب الابداعات الفكرية والاصدارات الأدبية لفقيد الساحة الروائيّة والشّعرية عبد الجبار العش مند سنوات خلت. وتابعت الصباح باهتمام الظروف الصحية والنفسية التي مرّ بها المبدع عبد الجبار العش قبل رحيله. ومن كلمات الرّاحل في إحدى المقالات المنشورة بالجريدة بتاريخ 29 ديسمبر2023 "لن يمرّوا دمي اتحد الآن بالشّهداء، لن يمرّوا لا خيار".

احتضن المركب الثقافي محمد الجموسي بصفاقس جمعا غفيرا من محبيّ الفقيد عبد الجبار انسانا ومبدعا في مجال الرواية والشعر ملتزما بقضايا شعبه وأمته العربية وبقضايا العمال والمعطّلين والمسحوقين. لقدجاؤوا من كل المشارب الفكرية والسياسية والحقوقية والنقابية.

ترأّس أشغال الأربعينية الأساتذة عبد الواحد المكني وعبد الحميد الفهري وخالد الغريبي بحضور المندوب الجهوي للثقافة بصفاقس. وانطلقت فعاليات الأربعينية بعد الوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني الغاصب المحتلّ. افتتحت الأستاذة حميدة الشايب زوجة ورفيقة درب عبد الجبار العش باب المداخلات. كلمتها أشعلت من جديد بحقّ لوعة الفراق في قلوب الحاضرين من خلاّن الرّاحل وأصدقائه ورفاقه لا سيما منهم من عاشوا معه سنين طويلة جمعتهم فيها دروب النضال السياسي والنقابي بين السّجن والاعتقال والمطاردة من قبل نظام بن علي. وأبرز ما جاء في كلمة الأستاذة حميدة الشايب قولها:

"جبار ذاك الرضيع الذي ومنذ الدقائق الأولى من ولادته حرم من الأكسجين وكتم صوته إلاّأنه صارع الموت وحيدا في الظلام وتشبث بالحياة. كانت ولادته بلا قابلة وبلا زغاريد وبلا تهاني ولا صور. كانت ولادة جنائزية.هكذا استقبلته الحياة فلم يستوعبها فظلّ طفلا إلى حين وافاه الأجل يبحث عن الحقيقة ولم يدركها فكتب قصائد عنها:"فين الحقيقة فين نلوج عليها توة سنين" وتشكلــــــــت صورة"عروب الفالت" في محاكمة قاسية لذاته وللمجتمع وبنى لنفسه "وقائع في مدينة غريبة" ثم كتب على جبينه أنهم " لن يمروا". جلّنار كانت الأمل. كانت الأمنيات. كانت المخاوف من اليأس والبأس والصدمة والفراغ ومن أن يكتم صوته مرّة أخرى وتنتزع منه الحياة فعاش بها يزرع البهجة والحب أينما حل، فلم تكن للعائلة، بالتالي ذاك المفهوم الضيق التقليدي. عائلة جبار هي الرفاق والحبيبات،هي الزهور، هي المشرّدون، هي السلاحف والكلاب والقطط وكل الأرواح الجميلة...جبار الشاعر الذي أضاء بأشعاره عتمة أيامه ونسج بمفرداته عوالم من الأحلام فكان قلمه نافذة نطل منها على جمال العالم وعتمته وحروفه مرآة تعكس جروحه وروحه النقية...جبار لم يمت ولم يرحل من نفوسنا وكل قصيدة كتبهاهي رمز من رموز الحياة. وكلّ لحن للحب والعمال والوطن من أشعاره باق وخالد في ارواحنا أبد الدّهر".

احيلت الكلمة لفرسان الكلمة من شعراء وأدباء وأصدقاء عبد الجبار العش حيث توقفوا طويلا عند صولاته وجولاته في الشعر والرّواية. ونذكر منهم الأساتذة محمد بحر، خميس بحر، آدم فتحي،ياسين الرواتبي، ناصر الرديسي، راوية جراد، وحيد القريوي، باسم قطاطة، محمود البقلوطي، نبراس شمام ونبيل الحمروني. الأغاني الملتزمة كانت حاضرة مع مجموعة البحث الموسيقي صفّق لها جمهور الحاضرين وتفاعلوا معها أيّما تفاعل إذ عادت بهم إلى أجواء المبيتات الجامعية والمراكز الثقافية والحنين إليها.

أما الدكتور خالد الغريبي ورئيس قسم العربية الأسبق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس فقد جاء في كلمته بالخصوص:

"عبد الجبار كان صوتا صادحا في منابر الطلبة والشغالين"

"من الصعب أن تتكلم على من غيبه الموت وهو في طوايا الذاكرة ودهاليز الزمن الخؤون يسكن متربعا على عرشه الأبدي لعله كعادته يهزأ من هذه الدنيا العاجلة...لعله يلف سيجارته ويعانق حروفه وكاسه المترع بالأحزان. في هذه الغيبة لا يسعنا إلا أن نقول له بكل الإشارات والعلامات والمحبات فقدنا فيك جبار الإنسان والفنان والمناضل الصادق كلمة وصوتا صادحا في الأعالي".

"أنت جبار كما عرفتك في السر والعلن والبهجة والألم منذ ما ينيف على أربعة عقود. أنت حكاية أخرى من حكايات هذا الزمان إن استعرت عبارة عزالدين المدني فلا أنت إلا بصخبك الصامت أو صمتك الصاخب. حكايتك في صيغة الجمع ظلت مدسوسة ببن الأسطر تأبى عليك حينا في حالة الصحو وتنصاع إليك وتغريك بالبوح وأنت تعرش في لذة الكتابة تخط ما تخط على بقايا علبة السجائر أو على ورق مهمل هو من بقاياك. كنت من أقرب الأصدقاء إليّ أنت ونورالدين بوجلبان ومحمد البقلوطي رحمهما الله . لعل هذا ماجعلك ولجلسات طوال تُسمعني مشاريع كتاباتك فألتذ بها بعد حوار يتلوه حواروهذا ما جعلك تستأنس بملاحظاتي وجعلني أكتشف ما تقرأ وما تطالع.

ما تقرأه كان مدسوسا في مكتبتك أعني في كوخك الذي شيدت في حديقة بيت العائلة. كوخ بنيته باللوح وسعف النخيل تدخله فتكتشف مغارة سحرية فيها يستقبل جبار أصدقاءه وصديقاته وفيها ما فيها من ألوان الموسيقى وفيها القوارير وفيها الكتب بأنواعها وأجناسها ولغاتها بعضها عن الكلاب أصلهم وفصلهم وسلوكهم ومن كتب عنهم. بعضها الآخر دوواين أشعار للماغوط ودرويش وسعدي يوسف ولوركا ونيرودا وناظم حكمت ووو. روايات من أحدث ما يصدر لكتاب أمريكا اللاتينية وفضلا عن أمهات الكتب لمنظري الماركسية والقومية وغيرها. كلها تغريك بتصفحها وبمعاشرة جبار القارئ الحصيف والكاتب المختلف.

عبد الجبار العش رحمه الله لم يكن مجرد أديب شاعر أو روائي. كان يحمل القلم مثل الكتاب الكبار ناظم حكمت ولوركا ومحمد شكري وحنا مينة وسعدي يوسف وسعد الله ونوس وغيرهم ليدافع عن مشروع رؤية تقدمية تعري الواقع أعني واقعه الذاتي الدرامي أولا والواقع المعيش سياسة ومجتمعا ثانيا.

عبد الجبار العش لا يُفهم إلا بربط وثيق بين نضاله مثقفا وحياته إنسانا عانى ما عانى في البحث عن هويته وعن صورته مبدعا شاعرا وروائيا. عبد الجبار كان صوتا صادحا في منابر الطلبة والشغالين.كاتب جريء باح ببعض أسراره في كتاباته. يقول في إحدى حواراته متحدّثا عن "محاكمة كلب" فالعديد من قراء الرواية لم يكونوا على يقين أن السيرة الذاتية المضمّنة في الرواية هي سيرتي فعلا، هذا التردد في الإمساك بالخيط الفاصل بين الخيال والحقيقة هو فعلا في صالح الرواية لكن لحاجة في نفسي تمنيت أن يسمع الجميع صرختي التي جسّمَتها قصة طفولتي. لقد سعدت ككاتب لكن لم أسعد تماما كإنسان يبوح ويعترف. وإني أعتقد أن غياب تقاليد البوح والاعتراف في الثقافة العربية هو الذي يدفع قراء كثُر إلى المرور حذو الصورة وتفادي النظر في وجه الحقيقة، حقيقتهم.."

هذه الرغبة في البوح هي ضرب من ضروب تمرد عبد الجبار على المحرمات الأخلاقية والسائد من الممنوعات. وعلى هذا النهج دأب معلنا عصيانه على المؤسسات البائدة وصدح بصوته الشعري في التجمّعات العمالية والطلابية مدافعا عن قيم العدالة والكرامة والحرية".

كما جاء في كلمة الدكتور والمؤرخ عبد الحمد الفهري ما يلي:

"جبّار لماذا اخترت أن تأتينا متعبا مرهقا يائسا حانقا؟ ويجيب حبّار: أتيتُ لأستعيد نفسي لنفسي وأكتب سيرتي في طورها الحاسم. جئت هذه الديار لتكون منفى اختياريا. وتجيبه الأيام: أصبتَ جبّار فقرقنة احتضنت العظماء الذين ليس من حق التاريخ نسيانهم. أليس المبدعون عظماء؟ ويعود جبّار لتدارك ويقول: لا لست منفيا فحسب بل أنا لاجئ أيضا. هنا تنهره الأيام بشدة: لا جبّار أنت اعتزلت بإرادتك فأنت معتزليٌ في الزمن الرديء، هربت من الزيف والحيف والنفاق إلى واحات ما زال روّادها يكرعون من رضاب النخيل حتى مطلع الفجر. هنا أسمع أركان حانة الجزيرة تسأل الأيام عن جبّار؟ عن قفته؟ عن درّاجته وكنشه وقلمه؟ كانت الأيّام تسمع هاتفا يهتف قادما من ضيعة آل الحضري بغابة مليتة الصغيرة: لماذا تركتنا جبّار ومضيت دون وداع، دون أن تتلوَ علينا قصيدتك الأخيرة وتشهد الأيام أن الرفاق احتضنوا جبارا بلا شرط سوى أن يقبل بالمداواة والاقلاع عن قضاء النزع الأخير من الليل يتناول المشروبات الروحية إلى حدّ هتك جسده المنهك أصلا فصار لا يسأل عن قوت وكأنه لا يجوع. هنا دقّ ناقوس الخطر وقد بلغ جبّار من العجز حدا بالغا. تلا عليّ جبار ظهيرة ذات يوم في ركن من حانتنا بعض ما كتب فقلت: أنت تعيد محاكمة كلب لا غير. فأجاب بغضب شديد: لا، في محاكمة كلب عريّت نفسي وجلّدتها، أمّا في هذه الرواية فأنا أعريهم “هم” أفضحهم أكشفهم “هم”. وتبقى “هم” مبنية للمجهول إلى أن ينشر رفاقه روايته إن أوصى بذلك…عندما انهار وصار رفاقه عاجزين على إقناعه بالمداواة مع رفضه التحول للمستشفى التجأ خليله فتحي لمراد وحبيب ليجبروه على التداوي وتحويله إلى صفاقس وتونس وسوسة لكن فات الوقت المناسب وقد نخر جسده النحيف المرض. ولعل ما أثلج صدورنا اختيار جبّار أن ينهي حياته، وروايته بفتح طريق لمصالحة مذهلة مع العائلة. نعم العِش يعود إلى العُش ليقضي أيّامه الأخيرة بين أوجاع العودة وأوجاع الفراق. جبّار لن تنساك قرقنة ولن ينسى رفاقك سهراتنا المجنونة وقد لونتها بجنوك. جبّار، لروحك ألف سلام."

دعا أحد المحامين والنّاشطين في المجتمع المدني إلى تسمية أحد شوارع مدينة صفاقس باسم المبدع عبد الجبار العش. فيما اقترح جمع من الحاضرين تنظيم ندوة فكرية جهوية وحتى وطنية يؤثثها جمع من النّقاد حول إصدارات عبد الجبار العش. ورأى آخرون ضرورة إقامة أيام شعرية وأدبية سنوية إحياء لذكرى الراحل على غرار الأيام الشعرية لمنور صمادح ومحمد البقلوطي. وارتأى البعض الآخر أن تفكر المندوبية الجهوية للثقافة بإسناد جائزة أدبية سنوية باسمه. وعلى العموم، فإنّ كل هذه الدعوات تبقى محمودة تذكر فتشكر في انتظار أن تلقى إجابة من المسؤولين في الحقل الثقافي جهويا ووطنيا وصدى لديهم. وهذا الأمر ليس بعزيز علّه يبدد ما عانته جهة صفاقس من تصحر ثقافي على مدى أكثر من عقدين.

مصدّق الشّريف

 

 

 

 

 

 

 

أربعينيّة عبد الجبّار العش تلمّ شمل فرسان الكلمة والنقابيّين والسياسيّين ولفيفا من المجتمع المدني

كانت جريدة الصباح الغرّاء تواكب الابداعات الفكرية والاصدارات الأدبية لفقيد الساحة الروائيّة والشّعرية عبد الجبار العش مند سنوات خلت. وتابعت الصباح باهتمام الظروف الصحية والنفسية التي مرّ بها المبدع عبد الجبار العش قبل رحيله. ومن كلمات الرّاحل في إحدى المقالات المنشورة بالجريدة بتاريخ 29 ديسمبر2023 "لن يمرّوا دمي اتحد الآن بالشّهداء، لن يمرّوا لا خيار".

احتضن المركب الثقافي محمد الجموسي بصفاقس جمعا غفيرا من محبيّ الفقيد عبد الجبار انسانا ومبدعا في مجال الرواية والشعر ملتزما بقضايا شعبه وأمته العربية وبقضايا العمال والمعطّلين والمسحوقين. لقدجاؤوا من كل المشارب الفكرية والسياسية والحقوقية والنقابية.

ترأّس أشغال الأربعينية الأساتذة عبد الواحد المكني وعبد الحميد الفهري وخالد الغريبي بحضور المندوب الجهوي للثقافة بصفاقس. وانطلقت فعاليات الأربعينية بعد الوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني الغاصب المحتلّ. افتتحت الأستاذة حميدة الشايب زوجة ورفيقة درب عبد الجبار العش باب المداخلات. كلمتها أشعلت من جديد بحقّ لوعة الفراق في قلوب الحاضرين من خلاّن الرّاحل وأصدقائه ورفاقه لا سيما منهم من عاشوا معه سنين طويلة جمعتهم فيها دروب النضال السياسي والنقابي بين السّجن والاعتقال والمطاردة من قبل نظام بن علي. وأبرز ما جاء في كلمة الأستاذة حميدة الشايب قولها:

"جبار ذاك الرضيع الذي ومنذ الدقائق الأولى من ولادته حرم من الأكسجين وكتم صوته إلاّأنه صارع الموت وحيدا في الظلام وتشبث بالحياة. كانت ولادته بلا قابلة وبلا زغاريد وبلا تهاني ولا صور. كانت ولادة جنائزية.هكذا استقبلته الحياة فلم يستوعبها فظلّ طفلا إلى حين وافاه الأجل يبحث عن الحقيقة ولم يدركها فكتب قصائد عنها:"فين الحقيقة فين نلوج عليها توة سنين" وتشكلــــــــت صورة"عروب الفالت" في محاكمة قاسية لذاته وللمجتمع وبنى لنفسه "وقائع في مدينة غريبة" ثم كتب على جبينه أنهم " لن يمروا". جلّنار كانت الأمل. كانت الأمنيات. كانت المخاوف من اليأس والبأس والصدمة والفراغ ومن أن يكتم صوته مرّة أخرى وتنتزع منه الحياة فعاش بها يزرع البهجة والحب أينما حل، فلم تكن للعائلة، بالتالي ذاك المفهوم الضيق التقليدي. عائلة جبار هي الرفاق والحبيبات،هي الزهور، هي المشرّدون، هي السلاحف والكلاب والقطط وكل الأرواح الجميلة...جبار الشاعر الذي أضاء بأشعاره عتمة أيامه ونسج بمفرداته عوالم من الأحلام فكان قلمه نافذة نطل منها على جمال العالم وعتمته وحروفه مرآة تعكس جروحه وروحه النقية...جبار لم يمت ولم يرحل من نفوسنا وكل قصيدة كتبهاهي رمز من رموز الحياة. وكلّ لحن للحب والعمال والوطن من أشعاره باق وخالد في ارواحنا أبد الدّهر".

احيلت الكلمة لفرسان الكلمة من شعراء وأدباء وأصدقاء عبد الجبار العش حيث توقفوا طويلا عند صولاته وجولاته في الشعر والرّواية. ونذكر منهم الأساتذة محمد بحر، خميس بحر، آدم فتحي،ياسين الرواتبي، ناصر الرديسي، راوية جراد، وحيد القريوي، باسم قطاطة، محمود البقلوطي، نبراس شمام ونبيل الحمروني. الأغاني الملتزمة كانت حاضرة مع مجموعة البحث الموسيقي صفّق لها جمهور الحاضرين وتفاعلوا معها أيّما تفاعل إذ عادت بهم إلى أجواء المبيتات الجامعية والمراكز الثقافية والحنين إليها.

أما الدكتور خالد الغريبي ورئيس قسم العربية الأسبق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس فقد جاء في كلمته بالخصوص:

"عبد الجبار كان صوتا صادحا في منابر الطلبة والشغالين"

"من الصعب أن تتكلم على من غيبه الموت وهو في طوايا الذاكرة ودهاليز الزمن الخؤون يسكن متربعا على عرشه الأبدي لعله كعادته يهزأ من هذه الدنيا العاجلة...لعله يلف سيجارته ويعانق حروفه وكاسه المترع بالأحزان. في هذه الغيبة لا يسعنا إلا أن نقول له بكل الإشارات والعلامات والمحبات فقدنا فيك جبار الإنسان والفنان والمناضل الصادق كلمة وصوتا صادحا في الأعالي".

"أنت جبار كما عرفتك في السر والعلن والبهجة والألم منذ ما ينيف على أربعة عقود. أنت حكاية أخرى من حكايات هذا الزمان إن استعرت عبارة عزالدين المدني فلا أنت إلا بصخبك الصامت أو صمتك الصاخب. حكايتك في صيغة الجمع ظلت مدسوسة ببن الأسطر تأبى عليك حينا في حالة الصحو وتنصاع إليك وتغريك بالبوح وأنت تعرش في لذة الكتابة تخط ما تخط على بقايا علبة السجائر أو على ورق مهمل هو من بقاياك. كنت من أقرب الأصدقاء إليّ أنت ونورالدين بوجلبان ومحمد البقلوطي رحمهما الله . لعل هذا ماجعلك ولجلسات طوال تُسمعني مشاريع كتاباتك فألتذ بها بعد حوار يتلوه حواروهذا ما جعلك تستأنس بملاحظاتي وجعلني أكتشف ما تقرأ وما تطالع.

ما تقرأه كان مدسوسا في مكتبتك أعني في كوخك الذي شيدت في حديقة بيت العائلة. كوخ بنيته باللوح وسعف النخيل تدخله فتكتشف مغارة سحرية فيها يستقبل جبار أصدقاءه وصديقاته وفيها ما فيها من ألوان الموسيقى وفيها القوارير وفيها الكتب بأنواعها وأجناسها ولغاتها بعضها عن الكلاب أصلهم وفصلهم وسلوكهم ومن كتب عنهم. بعضها الآخر دوواين أشعار للماغوط ودرويش وسعدي يوسف ولوركا ونيرودا وناظم حكمت ووو. روايات من أحدث ما يصدر لكتاب أمريكا اللاتينية وفضلا عن أمهات الكتب لمنظري الماركسية والقومية وغيرها. كلها تغريك بتصفحها وبمعاشرة جبار القارئ الحصيف والكاتب المختلف.

عبد الجبار العش رحمه الله لم يكن مجرد أديب شاعر أو روائي. كان يحمل القلم مثل الكتاب الكبار ناظم حكمت ولوركا ومحمد شكري وحنا مينة وسعدي يوسف وسعد الله ونوس وغيرهم ليدافع عن مشروع رؤية تقدمية تعري الواقع أعني واقعه الذاتي الدرامي أولا والواقع المعيش سياسة ومجتمعا ثانيا.

عبد الجبار العش لا يُفهم إلا بربط وثيق بين نضاله مثقفا وحياته إنسانا عانى ما عانى في البحث عن هويته وعن صورته مبدعا شاعرا وروائيا. عبد الجبار كان صوتا صادحا في منابر الطلبة والشغالين.كاتب جريء باح ببعض أسراره في كتاباته. يقول في إحدى حواراته متحدّثا عن "محاكمة كلب" فالعديد من قراء الرواية لم يكونوا على يقين أن السيرة الذاتية المضمّنة في الرواية هي سيرتي فعلا، هذا التردد في الإمساك بالخيط الفاصل بين الخيال والحقيقة هو فعلا في صالح الرواية لكن لحاجة في نفسي تمنيت أن يسمع الجميع صرختي التي جسّمَتها قصة طفولتي. لقد سعدت ككاتب لكن لم أسعد تماما كإنسان يبوح ويعترف. وإني أعتقد أن غياب تقاليد البوح والاعتراف في الثقافة العربية هو الذي يدفع قراء كثُر إلى المرور حذو الصورة وتفادي النظر في وجه الحقيقة، حقيقتهم.."

هذه الرغبة في البوح هي ضرب من ضروب تمرد عبد الجبار على المحرمات الأخلاقية والسائد من الممنوعات. وعلى هذا النهج دأب معلنا عصيانه على المؤسسات البائدة وصدح بصوته الشعري في التجمّعات العمالية والطلابية مدافعا عن قيم العدالة والكرامة والحرية".

كما جاء في كلمة الدكتور والمؤرخ عبد الحمد الفهري ما يلي:

"جبّار لماذا اخترت أن تأتينا متعبا مرهقا يائسا حانقا؟ ويجيب حبّار: أتيتُ لأستعيد نفسي لنفسي وأكتب سيرتي في طورها الحاسم. جئت هذه الديار لتكون منفى اختياريا. وتجيبه الأيام: أصبتَ جبّار فقرقنة احتضنت العظماء الذين ليس من حق التاريخ نسيانهم. أليس المبدعون عظماء؟ ويعود جبّار لتدارك ويقول: لا لست منفيا فحسب بل أنا لاجئ أيضا. هنا تنهره الأيام بشدة: لا جبّار أنت اعتزلت بإرادتك فأنت معتزليٌ في الزمن الرديء، هربت من الزيف والحيف والنفاق إلى واحات ما زال روّادها يكرعون من رضاب النخيل حتى مطلع الفجر. هنا أسمع أركان حانة الجزيرة تسأل الأيام عن جبّار؟ عن قفته؟ عن درّاجته وكنشه وقلمه؟ كانت الأيّام تسمع هاتفا يهتف قادما من ضيعة آل الحضري بغابة مليتة الصغيرة: لماذا تركتنا جبّار ومضيت دون وداع، دون أن تتلوَ علينا قصيدتك الأخيرة وتشهد الأيام أن الرفاق احتضنوا جبارا بلا شرط سوى أن يقبل بالمداواة والاقلاع عن قضاء النزع الأخير من الليل يتناول المشروبات الروحية إلى حدّ هتك جسده المنهك أصلا فصار لا يسأل عن قوت وكأنه لا يجوع. هنا دقّ ناقوس الخطر وقد بلغ جبّار من العجز حدا بالغا. تلا عليّ جبار ظهيرة ذات يوم في ركن من حانتنا بعض ما كتب فقلت: أنت تعيد محاكمة كلب لا غير. فأجاب بغضب شديد: لا، في محاكمة كلب عريّت نفسي وجلّدتها، أمّا في هذه الرواية فأنا أعريهم “هم” أفضحهم أكشفهم “هم”. وتبقى “هم” مبنية للمجهول إلى أن ينشر رفاقه روايته إن أوصى بذلك…عندما انهار وصار رفاقه عاجزين على إقناعه بالمداواة مع رفضه التحول للمستشفى التجأ خليله فتحي لمراد وحبيب ليجبروه على التداوي وتحويله إلى صفاقس وتونس وسوسة لكن فات الوقت المناسب وقد نخر جسده النحيف المرض. ولعل ما أثلج صدورنا اختيار جبّار أن ينهي حياته، وروايته بفتح طريق لمصالحة مذهلة مع العائلة. نعم العِش يعود إلى العُش ليقضي أيّامه الأخيرة بين أوجاع العودة وأوجاع الفراق. جبّار لن تنساك قرقنة ولن ينسى رفاقك سهراتنا المجنونة وقد لونتها بجنوك. جبّار، لروحك ألف سلام."

دعا أحد المحامين والنّاشطين في المجتمع المدني إلى تسمية أحد شوارع مدينة صفاقس باسم المبدع عبد الجبار العش. فيما اقترح جمع من الحاضرين تنظيم ندوة فكرية جهوية وحتى وطنية يؤثثها جمع من النّقاد حول إصدارات عبد الجبار العش. ورأى آخرون ضرورة إقامة أيام شعرية وأدبية سنوية إحياء لذكرى الراحل على غرار الأيام الشعرية لمنور صمادح ومحمد البقلوطي. وارتأى البعض الآخر أن تفكر المندوبية الجهوية للثقافة بإسناد جائزة أدبية سنوية باسمه. وعلى العموم، فإنّ كل هذه الدعوات تبقى محمودة تذكر فتشكر في انتظار أن تلقى إجابة من المسؤولين في الحقل الثقافي جهويا ووطنيا وصدى لديهم. وهذا الأمر ليس بعزيز علّه يبدد ما عانته جهة صفاقس من تصحر ثقافي على مدى أكثر من عقدين.

مصدّق الشّريف