إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رأي.. الطب الوراثي الاستباقي والتحكم البشري؟

 

بقلم: د.محمد العرب(*)

مع التقدم السريع في علم الجينات والتكنولوجيا الحيوية، أصبح الطب الوراثي الاستباقي فكرةً تقترب من واقع لا مفر منه. لم يعد العلاج هو الهدف الأسمى، بل الوقاية من الأمراض قبل أن تبدأ. هذا المفهوم الذي كان في الماضي ضرباً من الخيال العلمي أصبح اليوم محور بحث عالمي، ويتزايد النقاش حول مستقبل قد يتيح لنا استباق المرض بل وحتى القضاء عليه على المستوى الجيني. لكن، ماذا يعني هذا للبشرية؟ وهل نحن مستعدون لتحمل تبعات هذا التحكم الجديد في الحياة؟

تعتبر تقنية “كريسبر” CRISPR لتعديل الجينات أحد الابتكارات التي تمثل ثورة في هذا المجال. هذه التقنية تتيح للعلماء تحرير الحمض النووي البشري بشكل دقيق، ما يمكّن من تصحيح الطفرات الجينية التي تؤدي إلى أمراض وراثية قاتلة مثل التليف الكيسي ومرض هنتنغتون. تخيل مستقبلاً يمكن فيه تحرير الأجيال القادمة من عبء الأمراض الوراثية، حيث يولد الأطفال بفرصة صحية أكبر وخالٍ من الطفرات الوراثية الضارة. لكن ما هو أبعد من ذلك هو تطبيقات التقنية على أمراض شائعة غير وراثية، كأمراض القلب والسكري، والتي قد يصبح من الممكن تجنبها من خلال تعديل الجينات المسؤولة عن تلك الأمراض.

السيناريوهات التي يمكن أن تنتج عن هذا التطور ليست أقل من مذهلة. تخيل عالماً حيث يمكن للناس ليس فقط تجنب الأمراض، بل أيضاً تعزيز أجسادهم وقدراتهم العقلية. قد يصبح من الممكن تصميم جينات تجعل الأفراد أكثر مقاومة للتوتر أو التعب، مما يؤدي إلى ما يمكن تسميته بـ (الإنسان المعدل) ولكن هذا السيناريو يطرح تساؤلات أخلاقية عميقة: هل سيحصل الجميع على نفس الفرصة، أم سيصبح التعديل الجيني ميزة حصرية للأثرياء فقط؟ يمكن أن يؤدي هذا التطور إلى خلق فجوة جديدة في المجتمع بين من يستطيعون الحصول على (الجينات المثالية) ومن لا يستطيعون، ما قد يزيد من عدم المساواة في عالم يعاني بالفعل من تفاوت الفرص.

في المقابل، يتوقع بعض العلماء أن هذه التكنولوجيا قد تساعد في إطالة عمر الإنسان بشكل كبير. من خلال تعديل الجينات المرتبطة بعملية الشيخوخة، قد يمكننا تأخير التقدم في العمر، مما يمنح الأفراد حياة أطول وأكثر صحة. لكن هذا السيناريو يحمل عواقب خطيرة على الموارد والاقتصاد. تخيل كوكباً يكتظ بالبشر الذين يعيشون لعقود إضافية، ما يعني طلباً هائلاً على الموارد الطبيعية وقدرة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية على التكيف مع هذا التغير الجذري في التركيبة الديموغرافية.

قد يصل الطب الوراثي الاستباقي إلى حد تعديل جينات الأجنة في مراحل مبكرة، بحيث يمكن اختيار الصفات الوراثية للأبناء قبل ولادتهم. هذا السيناريو يضع الأهل في موقف صعب، حيث يتعين عليهم اتخاذ قرارات مؤثرة حول مستقبل أطفالهم الصحي والاجتماعي قبل أن يولدوا. قد يبدو الأمر رائعاً بالنسبة للبعض، لكن بالنسبة لآخرين، يُعد تدخلاً كبيراً في الطبيعة الإنسانية وتحوّلاً مخيفاً عن مسار التطور الطبيعي.

ويبقى السؤال الأكبر والأكثر إثارة للجدل: من الذي يجب أن يتحكم في هذه التقنيات، وكيف يمكن أن نضمن استخدامها بطريقة أخلاقية؟ هناك خطر حقيقي من أن يتم استغلال هذه التقنيات لأغراض تتجاوز مجرد العلاج، لتصل إلى تحسين البشر وفقاً لمعايير يحددها أولئك الذين يمتلكون السلطة والموارد. قد نشهد مستقبلاً حيث يتحكم البعض في الجينات البشرية كوسيلة لتحقيق السلطة أو التفوق، مما يهدد بحرمان المجتمع من التنوع الطبيعي.

بين التقدم العلمي والتحديات الأخلاقية، يبقى الطب الوراثي الاستباقي سلاحاً ذا حدين، يملك القدرة على إنهاء المرض من جذوره، لكنه قد يدفعنا إلى مواجهة غير مسبوقة مع مفهومنا عن الإنسانية.

*أكاديمي وباحث في الذكاء الاصطناعي

 

رأي..   الطب الوراثي الاستباقي والتحكم البشري؟

 

بقلم: د.محمد العرب(*)

مع التقدم السريع في علم الجينات والتكنولوجيا الحيوية، أصبح الطب الوراثي الاستباقي فكرةً تقترب من واقع لا مفر منه. لم يعد العلاج هو الهدف الأسمى، بل الوقاية من الأمراض قبل أن تبدأ. هذا المفهوم الذي كان في الماضي ضرباً من الخيال العلمي أصبح اليوم محور بحث عالمي، ويتزايد النقاش حول مستقبل قد يتيح لنا استباق المرض بل وحتى القضاء عليه على المستوى الجيني. لكن، ماذا يعني هذا للبشرية؟ وهل نحن مستعدون لتحمل تبعات هذا التحكم الجديد في الحياة؟

تعتبر تقنية “كريسبر” CRISPR لتعديل الجينات أحد الابتكارات التي تمثل ثورة في هذا المجال. هذه التقنية تتيح للعلماء تحرير الحمض النووي البشري بشكل دقيق، ما يمكّن من تصحيح الطفرات الجينية التي تؤدي إلى أمراض وراثية قاتلة مثل التليف الكيسي ومرض هنتنغتون. تخيل مستقبلاً يمكن فيه تحرير الأجيال القادمة من عبء الأمراض الوراثية، حيث يولد الأطفال بفرصة صحية أكبر وخالٍ من الطفرات الوراثية الضارة. لكن ما هو أبعد من ذلك هو تطبيقات التقنية على أمراض شائعة غير وراثية، كأمراض القلب والسكري، والتي قد يصبح من الممكن تجنبها من خلال تعديل الجينات المسؤولة عن تلك الأمراض.

السيناريوهات التي يمكن أن تنتج عن هذا التطور ليست أقل من مذهلة. تخيل عالماً حيث يمكن للناس ليس فقط تجنب الأمراض، بل أيضاً تعزيز أجسادهم وقدراتهم العقلية. قد يصبح من الممكن تصميم جينات تجعل الأفراد أكثر مقاومة للتوتر أو التعب، مما يؤدي إلى ما يمكن تسميته بـ (الإنسان المعدل) ولكن هذا السيناريو يطرح تساؤلات أخلاقية عميقة: هل سيحصل الجميع على نفس الفرصة، أم سيصبح التعديل الجيني ميزة حصرية للأثرياء فقط؟ يمكن أن يؤدي هذا التطور إلى خلق فجوة جديدة في المجتمع بين من يستطيعون الحصول على (الجينات المثالية) ومن لا يستطيعون، ما قد يزيد من عدم المساواة في عالم يعاني بالفعل من تفاوت الفرص.

في المقابل، يتوقع بعض العلماء أن هذه التكنولوجيا قد تساعد في إطالة عمر الإنسان بشكل كبير. من خلال تعديل الجينات المرتبطة بعملية الشيخوخة، قد يمكننا تأخير التقدم في العمر، مما يمنح الأفراد حياة أطول وأكثر صحة. لكن هذا السيناريو يحمل عواقب خطيرة على الموارد والاقتصاد. تخيل كوكباً يكتظ بالبشر الذين يعيشون لعقود إضافية، ما يعني طلباً هائلاً على الموارد الطبيعية وقدرة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية على التكيف مع هذا التغير الجذري في التركيبة الديموغرافية.

قد يصل الطب الوراثي الاستباقي إلى حد تعديل جينات الأجنة في مراحل مبكرة، بحيث يمكن اختيار الصفات الوراثية للأبناء قبل ولادتهم. هذا السيناريو يضع الأهل في موقف صعب، حيث يتعين عليهم اتخاذ قرارات مؤثرة حول مستقبل أطفالهم الصحي والاجتماعي قبل أن يولدوا. قد يبدو الأمر رائعاً بالنسبة للبعض، لكن بالنسبة لآخرين، يُعد تدخلاً كبيراً في الطبيعة الإنسانية وتحوّلاً مخيفاً عن مسار التطور الطبيعي.

ويبقى السؤال الأكبر والأكثر إثارة للجدل: من الذي يجب أن يتحكم في هذه التقنيات، وكيف يمكن أن نضمن استخدامها بطريقة أخلاقية؟ هناك خطر حقيقي من أن يتم استغلال هذه التقنيات لأغراض تتجاوز مجرد العلاج، لتصل إلى تحسين البشر وفقاً لمعايير يحددها أولئك الذين يمتلكون السلطة والموارد. قد نشهد مستقبلاً حيث يتحكم البعض في الجينات البشرية كوسيلة لتحقيق السلطة أو التفوق، مما يهدد بحرمان المجتمع من التنوع الطبيعي.

بين التقدم العلمي والتحديات الأخلاقية، يبقى الطب الوراثي الاستباقي سلاحاً ذا حدين، يملك القدرة على إنهاء المرض من جذوره، لكنه قد يدفعنا إلى مواجهة غير مسبوقة مع مفهومنا عن الإنسانية.

*أكاديمي وباحث في الذكاء الاصطناعي