إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

استرجعها الاستقلال وأضاعها سوء التصرّف في الاستغلال.. الضيعات الفلاحية الدولية.. ثروة مهدورة تنتظر معجزة !

تونس – الصباح

أعاد الجدل الذي أثير مؤخرا حول شبهات سوء التصرّف الإداري والمالي في هنشير الشعال، ملف الضيعات الدولية الفلاحية إلى الواجهة، هذا الملف الحاضر بأشكال مختلفة في كل الحقب السياسية منذ تمكّن الدولة بعد الاستقلال من استرجاع آلاف الهكتارات من المعمّرين، ظلّ دائما يبحث عن حلول بعيدا عن شبهات الفساد والمحاباة والمحسوبية ..

حيث ما زالت إلى اليوم آلاف الهكتارات غير مستغلة بالشكل الأمثل أو مهملة أو بعيدة عن الرقابة، وحتى إسناد عدد كبير من هذه المقاسم لمستثمرين وفلاحين خواص كان طوال الوقت محلّ ارتياب، دون الحديث عن عمليات الاستيلاء دون وجه حقّ، رغم رهان بعض الحكومات في فترات معينة على ضرورة استرجاع هذه الأملاك المنهوبة، ولكن الاسترجاع لوحده لم يكن كافيا لتحقيق الاستفادة المأمولة من هذه الأملاك الفلاحية الدولية والتي كان من الممكن تحويلها إلى رافد مهم من روافد التنمية تساهم في النهوض بعديد الجهات وفي استيعاب نسبة هامة من العاطلين الشباب إذا تم ايلاء الملف الأهمية التي يستحق بوضع خطة وطنية تتحمّل فيها الدولة مسؤوليتها في توزيع واستغلال هذه الأراضي والضيعات ومراقبة التصرّف فيها في آجال محددة ووفق برنامج عمل واضح ..

ولا يمكن اليوم الحديث عن نهضة زراعية أو تنمية محلية خاصة مع تواصل موجات الجفاف الحادة ومع وجود خارطة فلاحية في أغلب الجهات دون إيجاد حلّ نهائي لهذه الضيعات التي تم استرجاع بعضها ومصادرة البعض الآخر، وهناك اليوم نماذج ناجحة يمكن الاستلهام منها مثل الضيعات العسكرية التي تعود بالنظر إلى المؤسسة العسكرية وديوان الضيعات العسكرية بالإضافة إلى الضيعات البيولوجية التابعة لمستثمرين خواص والتي شهدت في السنوات الأخيرة قفزة نوعية على مستوى جودة منتوجاتها أو الأسواق التي اقتحمتها وذلك بتوظيف إمكانيات وكفاءات تونسية في تطوير المنتوجات الزراعية البيولوجية والتي تشهد اليوم إقبالا كبيرا في كل دول العالم وخاصة في المجتمعات المرفّهة..

ما حقيقة الوضع في هذه الضيعات الدولية الفلاحية وكيف يمكن تجاوز مشاكلها وأزماتها وتحويلها من عبء على الدولة إلى رافد للتنمية؟

عادت بالاستقلال وضاعت بالاستغلال ..

بعد الاستقلال قامت الدولة التونسية باسترجاع أكثر من 300 ألف هكتار من الأراضي التي كانت تحت سيطرة المستعمرين الفرنسيين، وكان تأميم هذه الأراضي أول محفّز للذهاب إلى تجربة التعاضد من خلال التعاضديات الفلاحية التي فشلت فشلا ذريعا نتيجة الأسباب المعلومة، رغم أن التجربة في بدايتها مع أحمد بن صالح شهدت انتعاشة نسبية لقطاع الفلاحة، إلا أن نهاية التجربة كانت كارثية على مستوى مصير هذه الأراضي التي كانت تعتبر من أخصب الأراضي وأكثرها مردودية، وكذلك على المستوى السياسي بعد أن انتهى هذا الخيار الذي انتهجته الدولة إلى أزمة سياسية حادة داخل نظام بورقيبة.. وبعد ذلك تُركت أغلب هذه الأراضي للإهمال حتى كان القرار السياسي في سنة 1996 بالتفويت في هذه الأراضي التي كانت تحت إشراف وزارة الفلاحة ووزارة أملاك الدولة، والمضي في خصخصة القطاع الفلاحي بالتفويت عن طريق الكراء في هذه الأراضي لصالح مستثمرين تونسيين وأجانب بدعوى تحسين مردودية هذه العقارات الفلاحية التي تمتدّ على آلاف الهكتارات وإيجاد حلول لبطالة الشباب خاصّة، ولكن تبعات هذا القرار لم تكن وفق الأهداف والخطط المعلنة حيث تسرّبت المحاباة والتلاعب إلى أساليب التصرّف في هذه الأراضي الفلاحية والتي باتت مطمعا لبعض المحسوبين على النظام السابق كما تعلّقت ببعض عمليات التفويت شبهات فساد قوّية .

بعد الثورة ورغم كل الإثباتات التي قدّمتها تقارير التفقّد والمراقبة من طرف هيئات الرقابة الرسمية حول كل تلك الشبهات، لم يتغيّر الأمر كثيرا، ورغم أن بعض وزراء أملاك الدولة حاولوا إنفاذ القانون واسترجاع ملك الدولة المنهوب من هذه الأراضي أو إيجاد تسوية لبعض الأراضي التي تم الاستيلاء عليها، ولكن رغم ذلك بقي هذا الملف متعثّرا في غياب إرادة سياسية لمعالجته ومعالجة أسبابه ووضع خطط واستراتيجيات تحوّل هذه الأراضي إلى رافد من روافد التنمية، ولعل ما وصل إليه هنشير الشعال من إهمال وسوء تصرّف ليس إلا عينة مما يجري في أغلب هذه الضيعات الفلاحية .

قرار مشتّت بين الوزارات ..

كشف وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري الأسبق عبد المنعم بلعاتي في جويلية الماضي أن الوزارة ستحتفظ ببعض الضيعات الفلاحية وستحيل ضيعات أخرى لوزارة أملاك الدولة لاستغلالها في إطار عمليات استثمارية وإعادة تثمينها، وذلك في جلسة برلمانية أجاب فيها عن أسئلة النواب، وقد أشار وزير الفلاحة آنذاك أيضا إلى أن الضيعات الفلاحية وخاصة الضيعات المسترجعة تشكل عبئا على ديوان الأراضي الدولية، كما أشار الوزير كذلك إلى أن بعض الضيعات الفلاحية في الوقت الحالي لديها مشاكل وأن وزارة الفلاحة تعمل على الاحتفاظ بالضيعات المنتجة مع تثمين الأخرى، مؤكدا أن بقية الأراضي سيتم استغلالها بشكل استثماري وذلك بالتنسيق مع بقية الوزارات مثل الاقتصاد والتشغيل أو في إطار تنموي كما هو الشأن بالنسبة للشركات الأهلية ..

غير أن هذا التوجّه الذي أعلنه وزير الفلاحة لا يمكن أن يكون الحلّ الأمثل ولا الأنفع حيث أن الأراضي المهملة والأقل مردودية بدورها يجب أن نجد لها حلولا ولا نكتفي بإحالتها لاستثمارها كعقارات أو في أمور أخرى غير فلاحية، لأن استصلاح الأراضي الزراعية هو اليوم رهان عالمي تتنافس عليه الدول لتأمين حاجياتها الزراعية، وهذه العودة للفلاحة خيار فرضته عدة ظروف عالمية مأساوية من ذلك جائحة "كوفيد" الأخيرة والحرب الأوكرانية التي كشفت هشاشة الدول التي تعتمد على غيرها في التزوّد بحاجياتها .

وضعية العمال..

من المشاكل المطروحة بقوة وفي علاقة بهذه الضيعات الفلاحية الدولية وضعية العمال، والتي تعد وضعية هشّة مع أجور دنيا كانت دائما محلّ تذمّر واستياء من طرف النقابات العمالية ومن طرف العمال أنفسهم، وهو ما انعكس سلبا على مردوديتهم وعلى إنتاجية هذه الضيعات.

حيث أنه في أفريل الماضي، احتج عمال الضيعات الفلاحية المسترجعة والتابعة لديوان الأراضي الدولية في بعض معتمديات القيروان مثل نصر الله ومنزل المهيري وذلك بعد تأخر صرف أجورهم لمدة شهرين، ويبلغ عدد هؤلاء العمال المحتجين حوالي 150 عاملا يشتغلون بضيعات سيدي سعد والمنارة وغيرها من الضيعات، ولا تتجاوز أجورهم الـ 400 دينار، ولا يتمتعون بأية حقوق مهنية، ولا بالتغطية الاجتماعية، كما تشهد الضيعات التي يشتغلون فيها والتابعة لديوان الأراضي الدولية حالة من الإهمال وغياب خطة للنهوض بها .

واحتجاج العمال نتج عنه حالة من الاحتقان والتوتر في صفوف العملة وعائلاتهم بسبب الظروف الاجتماعية الصعبة التي يعيشونها بسبب تأخر الأجور والحرمان من المنح الظرفية والموسمية والتغطية الاجتماعية.

حيث إن الطبيعة الجغرافية لهذه الضيعات فرضت وجودها في مجتمعات محلية صغيرة، وهذه المجتمعات الصغيرة تتأثّر وبشكل مباشر بالمناخات الاجتماعية داخل الضيعات وهو ما يفرض خلق فرص تنمية حقيقة وحسن استغلال هذه الأراضي ووضع إستراتيجية ورؤية جديدة عن طريق الاستثمار وايلاء وضعية العمال ما تستحق من اهتمام وعناية .

 

الضيعات العسكرية والبيداغوجية.... نماذج ناجحة تتحدّى المستحيل !

من النماذج الناجحة في استغلال ملك الدولة الفلاحي، نجد الضيعات العسكرية التي تكفّلت بإحياء مناطق في الصحراء مثل مشروع رجيم معتوق وبرج الخضراء واليوم مشروع المحدث بولاية قبلي لإحداث منطقة لغراسة النخيل، بالإضافة إلى مساهمة هذه الضيعات في تنمية القطاع الفلاحي والتكوين المهني، وكذلك مساهمتها في إحداث نقلة نوعية على مستوى البنى التحتية ..

تضطلع إدارة الضيعات العسكرية بمهام تحقيق الحاجيات التموينية للجيش الوطني من المنتوج الفلاحي والقيام بالدراسات والبحوث وتطوير الإنتاج النباتي والحيواني وإرشاد ومتابعة نشاط وإنتاجية الضيعات الفلاحية التابعة للوحدات العسكرية وذلك على كامل تراب الجمهورية .

ويحرص القائمون على هذه الضيعات على التعاون مع الهياكل الفلاحية التابعة لوزارة الفلاحة مثل المعهد الوطني للزراعات الكبرى وغيرها من المرافق العمومية التابعة لوزارة الفلاحة .

وليس فقط الضيعات العسكرية هي النموذج الناجح، ففي القطاع الخاص هناك أيضا الضيعات البيولوجية والبيداغوجية التي يمكن استلهام تجربتها وتحويلها إلى مشاريع ذات مردودية مضمونة بالنسبة للشباب العاطل عن العمل ..

بدأت فكرة الضيعات البيداغوجية منذ سنوات في العالم ولكن بشكل متأخّر في شمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسّط رغم أهمية التجربة ووجود إقبال عالمي لافت عليها مثلها مثل الضيعات البيولوجية التي تعتمد إنتاج منتوجات زراعية لا تعتمد على الأسمدة الكيميائية وتشهد بدورها إقبالا متزايدا في الأسواق العالمية ..

وتجربة الضيعات البيداغوجية ترعاها اليوم بشكل كبير كنفدرالية المؤسسات والمواطنة التونسية "كونكت" حيث تضم مجمعا للضيعات البيداغوجية، يبلغ عددها 12 ضيعة في تونس، من بينها 6 ضيعات استكملت المرحلة الأولى من التكوين وستدخل مرحلة ثانية من الجودة، فيما تعمل ضيعات أخرى على استكمال تحضيراتها لتكون مطابقة للمعايير. والضيعة البيداغوجية لها هدف تربوي وفلاحي وحتى سياحي حيث تقوم باستقبال الزوار وتلعب أدوارا مختلفة منها الدور التربوي والتوعوي، بالإضافة إلى المنتوجات التي تنتجها ولها مكانها في الأسواق.

ورغم غياب قانون إلى اليوم ينظّم هذه الضيعات البيداغوجية إلا أنها تجد رواجا كبيرا، وهي مهمة في تطوير الوعي بأهمية الأرض والزراعة خاصة لدى الناشئة، حيث توفر هذه الضيعات فرصة للتعريف بعالم الفلاحة بطريقة بيداغوجية، إضافة إلى توفيرها لمنتوجات استهلاكية فلاحية واستقطابها للزوار من مختلف الأعمار، وباعتبار أن في العادة تكون منتوجاتها بيولوجية فإنها تجد رواجا لدى المستهلكين. ومشروع الضيعات البيداغوجية بات توجّها تراهن عليه دول كثيرة في الغرب وخاصة في الدول الأوروبية، حيث يشهد زوار هذه الضيعات في فرنسا حوالي 50 ألف زائر في السنة وأغلبهم من التلاميذ بالنظر لأهمية الدور التربوي الذي تقوم به هذه الضيعات والذي له انعكاس مهم على وعي الناشئة والتحسيس بأهمية الفلاحة كرافد من روافد النهوض بالمجتمعات .

 

تقرير دائرة المحاسبات.. بداية الحلّ !

اهتمت دائرة المحاسبات، بالضيعات الفلاحية في تقرير تفقّد مهم ومطوّل،حيث تولّت الدائرة إنجاز مهمّة تقييميّة تعلقت بإسناد التصرف في هذه الأراضي وباستغلالها وباستخلاص المعاليم المستوجبة وبالتصرّف في الأراضي المسترجعة.. والتقرير الذي نُشر في 2018 أشار إلى أن الأراضي الدولية الفلاحية تمسح قرابة 500 ألف هكتار تتكون أساسا من تصفية الأحباس والأراضي المسترجعة من المعمرين، ومع بداية التسعينات تمت هيكلة حوالي 320 ألف هكتار من هذه الأراضي اثر الاستشارة الوطنية الأولى حول الأراضي الدولية الفلاحية ..

وذكر التقرير أن الأراضي الجملية من الأراضي الفلاحية المهيكلة تبلغ حوالي 3.3 بالمائة من مجموع الأراضي للصالحة للزراعة في البلاد التونسية وهي تساهم بحوالي 12 بالمائة من المنتوج الوطني من القمح الصلب و10 بالمائة من الغلال و6 بالمائة من الألبان. كما ذكرت محكمة المحاسبات أنه وإلى حدود 2016 تم إحداث أنماط تصرّف تخصّ 195 شركة إحياء وتنمية فلاحية ناشطة تستغل حوالي 86.094 هكتارا .

وبالنسبة للأراضي المسترجعة أشار التقرير إلى أن مساحة الأراضي المسترجعة والمحالة على ديوان الأراضي الدولية تجاوزت 75.700 هكتار، وهو ما يطرح أسئلة بشأن هذه الأراضي وكيف تصرّف فيها الديوان بعد ذلك وهل تم إيجاد آليات لإعادة الاستغلال بشكل أمثل يحقق موارد، ووفق بعض المؤشرات والمعطيات، فإن ذلك لم يحدث بالشكل المطلوب في أغلب تلك الأراضي .

ومن المسائل الخطيرة التي أشار إليها تقرير دائرة المحاسبات أنه ومنذ انطلاق عمليّة إعادة الهيكلة سنة 1990 وإلى حدود سبتمبر 2017 إسناد 18.026 هكتارا منها 12.387 هكتارا خلال الفترة 2007/2016 خلافا للصيغ والإجراءات القانونيّة المعمول بها في الغرض. وبالرّغم من إسناد التصرّف في 47 ضيعة من أفضل الضيعات والمقاسم وأهمّها مردوديّة بتعليمات رئاسيّة أغلبها في شكل شركات إحياء، فقد واصلت 16 شركة فقط، منها نشاطها بشكل عادي إلى موفي سبتمبر 2017 دون أن يقوم أغلبها بتسديد ما تخلّد بذمتها من مستحقات بعنوان معينات الكراء والّتي فاقت 2 مليون دينار فضلا عن مواصلة عدد منها الانتفاع بمنح عمومية للتشجيع على الاستثمار. وهو ما يؤكّد حجم التلاعب في السنوات التي سبقت الثورة والتي تلتها ظروف وسياقات سياسية معلومة .

دائرة المحاسبات ذكرت أيضا أن 53% من الشركات الناشطة في الأراضي الفلاحية التابعة لملك الدولة والتي تم التفويت فيها عن طريق عقود كراء واستغلال لم تحترم التزاماتها التعاقديّة بما في ذلك خلاص معاليم الكراء والتي تجاوزت 40 مليون دينار..

كما ذكرت الدائرة أن إنتاجيّة 40% من شركات الإحياء تقلّ عن إنتاجيّة ضيعات الخواص المجاورة، حيث تراجعت مردوديّة المنتوجات الفلاحيّة بنسبة 35% ولم تتجاوز نسبة التشغيل بتلك الضيعات 25 بالمائة  وذلك خلال الفترة 2012/2016. كما اتضح بعد المهمة الرقابية لدائرة المحاسبات عدم استغلال تلك المقاسم الفلاحية استغلالا مباشرا أو عدم التفرغ للعمل الفلاحي وهذا شأن 29 فلاحا شابا برجيم معتوق من ولاية قبلي منتدبين في إطار العفو التشريعي العام أو في إطار برامج التشغيل منذ 2011 !

ما كشفه تقرير دائرة المحاسبات من خروقات وتجاوزات ترتقي لشبهة الفساد وسوء التصرّف الإداري والمالي هو مرآة عاكسة لوضع قد يكون أشدّ قتامة وسوادا، حيث أنه بعد هذه التقرير لم يتم متابعة الملف سواء من الحكومة أو مجلس النواب، إما من باب التقاعس أو لوجود ظروف موضوعية كجائحة "كورونا" وتغيير النظام السياسي لاحقا. واليوم الحكومة مطالبة بالعودة إلى هذا التقرير ومعالجة هذا الملف في العمق لأنه يعد من الملفات الإستراتيجية التي يمكن أن تحقق قفزة زراعية نوعية إذا ما تمت معالجته بشكل صحيح .

منية العرفاوي

استرجعها الاستقلال وأضاعها سوء التصرّف في الاستغلال..   الضيعات الفلاحية الدولية.. ثروة مهدورة تنتظر معجزة !

تونس – الصباح

أعاد الجدل الذي أثير مؤخرا حول شبهات سوء التصرّف الإداري والمالي في هنشير الشعال، ملف الضيعات الدولية الفلاحية إلى الواجهة، هذا الملف الحاضر بأشكال مختلفة في كل الحقب السياسية منذ تمكّن الدولة بعد الاستقلال من استرجاع آلاف الهكتارات من المعمّرين، ظلّ دائما يبحث عن حلول بعيدا عن شبهات الفساد والمحاباة والمحسوبية ..

حيث ما زالت إلى اليوم آلاف الهكتارات غير مستغلة بالشكل الأمثل أو مهملة أو بعيدة عن الرقابة، وحتى إسناد عدد كبير من هذه المقاسم لمستثمرين وفلاحين خواص كان طوال الوقت محلّ ارتياب، دون الحديث عن عمليات الاستيلاء دون وجه حقّ، رغم رهان بعض الحكومات في فترات معينة على ضرورة استرجاع هذه الأملاك المنهوبة، ولكن الاسترجاع لوحده لم يكن كافيا لتحقيق الاستفادة المأمولة من هذه الأملاك الفلاحية الدولية والتي كان من الممكن تحويلها إلى رافد مهم من روافد التنمية تساهم في النهوض بعديد الجهات وفي استيعاب نسبة هامة من العاطلين الشباب إذا تم ايلاء الملف الأهمية التي يستحق بوضع خطة وطنية تتحمّل فيها الدولة مسؤوليتها في توزيع واستغلال هذه الأراضي والضيعات ومراقبة التصرّف فيها في آجال محددة ووفق برنامج عمل واضح ..

ولا يمكن اليوم الحديث عن نهضة زراعية أو تنمية محلية خاصة مع تواصل موجات الجفاف الحادة ومع وجود خارطة فلاحية في أغلب الجهات دون إيجاد حلّ نهائي لهذه الضيعات التي تم استرجاع بعضها ومصادرة البعض الآخر، وهناك اليوم نماذج ناجحة يمكن الاستلهام منها مثل الضيعات العسكرية التي تعود بالنظر إلى المؤسسة العسكرية وديوان الضيعات العسكرية بالإضافة إلى الضيعات البيولوجية التابعة لمستثمرين خواص والتي شهدت في السنوات الأخيرة قفزة نوعية على مستوى جودة منتوجاتها أو الأسواق التي اقتحمتها وذلك بتوظيف إمكانيات وكفاءات تونسية في تطوير المنتوجات الزراعية البيولوجية والتي تشهد اليوم إقبالا كبيرا في كل دول العالم وخاصة في المجتمعات المرفّهة..

ما حقيقة الوضع في هذه الضيعات الدولية الفلاحية وكيف يمكن تجاوز مشاكلها وأزماتها وتحويلها من عبء على الدولة إلى رافد للتنمية؟

عادت بالاستقلال وضاعت بالاستغلال ..

بعد الاستقلال قامت الدولة التونسية باسترجاع أكثر من 300 ألف هكتار من الأراضي التي كانت تحت سيطرة المستعمرين الفرنسيين، وكان تأميم هذه الأراضي أول محفّز للذهاب إلى تجربة التعاضد من خلال التعاضديات الفلاحية التي فشلت فشلا ذريعا نتيجة الأسباب المعلومة، رغم أن التجربة في بدايتها مع أحمد بن صالح شهدت انتعاشة نسبية لقطاع الفلاحة، إلا أن نهاية التجربة كانت كارثية على مستوى مصير هذه الأراضي التي كانت تعتبر من أخصب الأراضي وأكثرها مردودية، وكذلك على المستوى السياسي بعد أن انتهى هذا الخيار الذي انتهجته الدولة إلى أزمة سياسية حادة داخل نظام بورقيبة.. وبعد ذلك تُركت أغلب هذه الأراضي للإهمال حتى كان القرار السياسي في سنة 1996 بالتفويت في هذه الأراضي التي كانت تحت إشراف وزارة الفلاحة ووزارة أملاك الدولة، والمضي في خصخصة القطاع الفلاحي بالتفويت عن طريق الكراء في هذه الأراضي لصالح مستثمرين تونسيين وأجانب بدعوى تحسين مردودية هذه العقارات الفلاحية التي تمتدّ على آلاف الهكتارات وإيجاد حلول لبطالة الشباب خاصّة، ولكن تبعات هذا القرار لم تكن وفق الأهداف والخطط المعلنة حيث تسرّبت المحاباة والتلاعب إلى أساليب التصرّف في هذه الأراضي الفلاحية والتي باتت مطمعا لبعض المحسوبين على النظام السابق كما تعلّقت ببعض عمليات التفويت شبهات فساد قوّية .

بعد الثورة ورغم كل الإثباتات التي قدّمتها تقارير التفقّد والمراقبة من طرف هيئات الرقابة الرسمية حول كل تلك الشبهات، لم يتغيّر الأمر كثيرا، ورغم أن بعض وزراء أملاك الدولة حاولوا إنفاذ القانون واسترجاع ملك الدولة المنهوب من هذه الأراضي أو إيجاد تسوية لبعض الأراضي التي تم الاستيلاء عليها، ولكن رغم ذلك بقي هذا الملف متعثّرا في غياب إرادة سياسية لمعالجته ومعالجة أسبابه ووضع خطط واستراتيجيات تحوّل هذه الأراضي إلى رافد من روافد التنمية، ولعل ما وصل إليه هنشير الشعال من إهمال وسوء تصرّف ليس إلا عينة مما يجري في أغلب هذه الضيعات الفلاحية .

قرار مشتّت بين الوزارات ..

كشف وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري الأسبق عبد المنعم بلعاتي في جويلية الماضي أن الوزارة ستحتفظ ببعض الضيعات الفلاحية وستحيل ضيعات أخرى لوزارة أملاك الدولة لاستغلالها في إطار عمليات استثمارية وإعادة تثمينها، وذلك في جلسة برلمانية أجاب فيها عن أسئلة النواب، وقد أشار وزير الفلاحة آنذاك أيضا إلى أن الضيعات الفلاحية وخاصة الضيعات المسترجعة تشكل عبئا على ديوان الأراضي الدولية، كما أشار الوزير كذلك إلى أن بعض الضيعات الفلاحية في الوقت الحالي لديها مشاكل وأن وزارة الفلاحة تعمل على الاحتفاظ بالضيعات المنتجة مع تثمين الأخرى، مؤكدا أن بقية الأراضي سيتم استغلالها بشكل استثماري وذلك بالتنسيق مع بقية الوزارات مثل الاقتصاد والتشغيل أو في إطار تنموي كما هو الشأن بالنسبة للشركات الأهلية ..

غير أن هذا التوجّه الذي أعلنه وزير الفلاحة لا يمكن أن يكون الحلّ الأمثل ولا الأنفع حيث أن الأراضي المهملة والأقل مردودية بدورها يجب أن نجد لها حلولا ولا نكتفي بإحالتها لاستثمارها كعقارات أو في أمور أخرى غير فلاحية، لأن استصلاح الأراضي الزراعية هو اليوم رهان عالمي تتنافس عليه الدول لتأمين حاجياتها الزراعية، وهذه العودة للفلاحة خيار فرضته عدة ظروف عالمية مأساوية من ذلك جائحة "كوفيد" الأخيرة والحرب الأوكرانية التي كشفت هشاشة الدول التي تعتمد على غيرها في التزوّد بحاجياتها .

وضعية العمال..

من المشاكل المطروحة بقوة وفي علاقة بهذه الضيعات الفلاحية الدولية وضعية العمال، والتي تعد وضعية هشّة مع أجور دنيا كانت دائما محلّ تذمّر واستياء من طرف النقابات العمالية ومن طرف العمال أنفسهم، وهو ما انعكس سلبا على مردوديتهم وعلى إنتاجية هذه الضيعات.

حيث أنه في أفريل الماضي، احتج عمال الضيعات الفلاحية المسترجعة والتابعة لديوان الأراضي الدولية في بعض معتمديات القيروان مثل نصر الله ومنزل المهيري وذلك بعد تأخر صرف أجورهم لمدة شهرين، ويبلغ عدد هؤلاء العمال المحتجين حوالي 150 عاملا يشتغلون بضيعات سيدي سعد والمنارة وغيرها من الضيعات، ولا تتجاوز أجورهم الـ 400 دينار، ولا يتمتعون بأية حقوق مهنية، ولا بالتغطية الاجتماعية، كما تشهد الضيعات التي يشتغلون فيها والتابعة لديوان الأراضي الدولية حالة من الإهمال وغياب خطة للنهوض بها .

واحتجاج العمال نتج عنه حالة من الاحتقان والتوتر في صفوف العملة وعائلاتهم بسبب الظروف الاجتماعية الصعبة التي يعيشونها بسبب تأخر الأجور والحرمان من المنح الظرفية والموسمية والتغطية الاجتماعية.

حيث إن الطبيعة الجغرافية لهذه الضيعات فرضت وجودها في مجتمعات محلية صغيرة، وهذه المجتمعات الصغيرة تتأثّر وبشكل مباشر بالمناخات الاجتماعية داخل الضيعات وهو ما يفرض خلق فرص تنمية حقيقة وحسن استغلال هذه الأراضي ووضع إستراتيجية ورؤية جديدة عن طريق الاستثمار وايلاء وضعية العمال ما تستحق من اهتمام وعناية .

 

الضيعات العسكرية والبيداغوجية.... نماذج ناجحة تتحدّى المستحيل !

من النماذج الناجحة في استغلال ملك الدولة الفلاحي، نجد الضيعات العسكرية التي تكفّلت بإحياء مناطق في الصحراء مثل مشروع رجيم معتوق وبرج الخضراء واليوم مشروع المحدث بولاية قبلي لإحداث منطقة لغراسة النخيل، بالإضافة إلى مساهمة هذه الضيعات في تنمية القطاع الفلاحي والتكوين المهني، وكذلك مساهمتها في إحداث نقلة نوعية على مستوى البنى التحتية ..

تضطلع إدارة الضيعات العسكرية بمهام تحقيق الحاجيات التموينية للجيش الوطني من المنتوج الفلاحي والقيام بالدراسات والبحوث وتطوير الإنتاج النباتي والحيواني وإرشاد ومتابعة نشاط وإنتاجية الضيعات الفلاحية التابعة للوحدات العسكرية وذلك على كامل تراب الجمهورية .

ويحرص القائمون على هذه الضيعات على التعاون مع الهياكل الفلاحية التابعة لوزارة الفلاحة مثل المعهد الوطني للزراعات الكبرى وغيرها من المرافق العمومية التابعة لوزارة الفلاحة .

وليس فقط الضيعات العسكرية هي النموذج الناجح، ففي القطاع الخاص هناك أيضا الضيعات البيولوجية والبيداغوجية التي يمكن استلهام تجربتها وتحويلها إلى مشاريع ذات مردودية مضمونة بالنسبة للشباب العاطل عن العمل ..

بدأت فكرة الضيعات البيداغوجية منذ سنوات في العالم ولكن بشكل متأخّر في شمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسّط رغم أهمية التجربة ووجود إقبال عالمي لافت عليها مثلها مثل الضيعات البيولوجية التي تعتمد إنتاج منتوجات زراعية لا تعتمد على الأسمدة الكيميائية وتشهد بدورها إقبالا متزايدا في الأسواق العالمية ..

وتجربة الضيعات البيداغوجية ترعاها اليوم بشكل كبير كنفدرالية المؤسسات والمواطنة التونسية "كونكت" حيث تضم مجمعا للضيعات البيداغوجية، يبلغ عددها 12 ضيعة في تونس، من بينها 6 ضيعات استكملت المرحلة الأولى من التكوين وستدخل مرحلة ثانية من الجودة، فيما تعمل ضيعات أخرى على استكمال تحضيراتها لتكون مطابقة للمعايير. والضيعة البيداغوجية لها هدف تربوي وفلاحي وحتى سياحي حيث تقوم باستقبال الزوار وتلعب أدوارا مختلفة منها الدور التربوي والتوعوي، بالإضافة إلى المنتوجات التي تنتجها ولها مكانها في الأسواق.

ورغم غياب قانون إلى اليوم ينظّم هذه الضيعات البيداغوجية إلا أنها تجد رواجا كبيرا، وهي مهمة في تطوير الوعي بأهمية الأرض والزراعة خاصة لدى الناشئة، حيث توفر هذه الضيعات فرصة للتعريف بعالم الفلاحة بطريقة بيداغوجية، إضافة إلى توفيرها لمنتوجات استهلاكية فلاحية واستقطابها للزوار من مختلف الأعمار، وباعتبار أن في العادة تكون منتوجاتها بيولوجية فإنها تجد رواجا لدى المستهلكين. ومشروع الضيعات البيداغوجية بات توجّها تراهن عليه دول كثيرة في الغرب وخاصة في الدول الأوروبية، حيث يشهد زوار هذه الضيعات في فرنسا حوالي 50 ألف زائر في السنة وأغلبهم من التلاميذ بالنظر لأهمية الدور التربوي الذي تقوم به هذه الضيعات والذي له انعكاس مهم على وعي الناشئة والتحسيس بأهمية الفلاحة كرافد من روافد النهوض بالمجتمعات .

 

تقرير دائرة المحاسبات.. بداية الحلّ !

اهتمت دائرة المحاسبات، بالضيعات الفلاحية في تقرير تفقّد مهم ومطوّل،حيث تولّت الدائرة إنجاز مهمّة تقييميّة تعلقت بإسناد التصرف في هذه الأراضي وباستغلالها وباستخلاص المعاليم المستوجبة وبالتصرّف في الأراضي المسترجعة.. والتقرير الذي نُشر في 2018 أشار إلى أن الأراضي الدولية الفلاحية تمسح قرابة 500 ألف هكتار تتكون أساسا من تصفية الأحباس والأراضي المسترجعة من المعمرين، ومع بداية التسعينات تمت هيكلة حوالي 320 ألف هكتار من هذه الأراضي اثر الاستشارة الوطنية الأولى حول الأراضي الدولية الفلاحية ..

وذكر التقرير أن الأراضي الجملية من الأراضي الفلاحية المهيكلة تبلغ حوالي 3.3 بالمائة من مجموع الأراضي للصالحة للزراعة في البلاد التونسية وهي تساهم بحوالي 12 بالمائة من المنتوج الوطني من القمح الصلب و10 بالمائة من الغلال و6 بالمائة من الألبان. كما ذكرت محكمة المحاسبات أنه وإلى حدود 2016 تم إحداث أنماط تصرّف تخصّ 195 شركة إحياء وتنمية فلاحية ناشطة تستغل حوالي 86.094 هكتارا .

وبالنسبة للأراضي المسترجعة أشار التقرير إلى أن مساحة الأراضي المسترجعة والمحالة على ديوان الأراضي الدولية تجاوزت 75.700 هكتار، وهو ما يطرح أسئلة بشأن هذه الأراضي وكيف تصرّف فيها الديوان بعد ذلك وهل تم إيجاد آليات لإعادة الاستغلال بشكل أمثل يحقق موارد، ووفق بعض المؤشرات والمعطيات، فإن ذلك لم يحدث بالشكل المطلوب في أغلب تلك الأراضي .

ومن المسائل الخطيرة التي أشار إليها تقرير دائرة المحاسبات أنه ومنذ انطلاق عمليّة إعادة الهيكلة سنة 1990 وإلى حدود سبتمبر 2017 إسناد 18.026 هكتارا منها 12.387 هكتارا خلال الفترة 2007/2016 خلافا للصيغ والإجراءات القانونيّة المعمول بها في الغرض. وبالرّغم من إسناد التصرّف في 47 ضيعة من أفضل الضيعات والمقاسم وأهمّها مردوديّة بتعليمات رئاسيّة أغلبها في شكل شركات إحياء، فقد واصلت 16 شركة فقط، منها نشاطها بشكل عادي إلى موفي سبتمبر 2017 دون أن يقوم أغلبها بتسديد ما تخلّد بذمتها من مستحقات بعنوان معينات الكراء والّتي فاقت 2 مليون دينار فضلا عن مواصلة عدد منها الانتفاع بمنح عمومية للتشجيع على الاستثمار. وهو ما يؤكّد حجم التلاعب في السنوات التي سبقت الثورة والتي تلتها ظروف وسياقات سياسية معلومة .

دائرة المحاسبات ذكرت أيضا أن 53% من الشركات الناشطة في الأراضي الفلاحية التابعة لملك الدولة والتي تم التفويت فيها عن طريق عقود كراء واستغلال لم تحترم التزاماتها التعاقديّة بما في ذلك خلاص معاليم الكراء والتي تجاوزت 40 مليون دينار..

كما ذكرت الدائرة أن إنتاجيّة 40% من شركات الإحياء تقلّ عن إنتاجيّة ضيعات الخواص المجاورة، حيث تراجعت مردوديّة المنتوجات الفلاحيّة بنسبة 35% ولم تتجاوز نسبة التشغيل بتلك الضيعات 25 بالمائة  وذلك خلال الفترة 2012/2016. كما اتضح بعد المهمة الرقابية لدائرة المحاسبات عدم استغلال تلك المقاسم الفلاحية استغلالا مباشرا أو عدم التفرغ للعمل الفلاحي وهذا شأن 29 فلاحا شابا برجيم معتوق من ولاية قبلي منتدبين في إطار العفو التشريعي العام أو في إطار برامج التشغيل منذ 2011 !

ما كشفه تقرير دائرة المحاسبات من خروقات وتجاوزات ترتقي لشبهة الفساد وسوء التصرّف الإداري والمالي هو مرآة عاكسة لوضع قد يكون أشدّ قتامة وسوادا، حيث أنه بعد هذه التقرير لم يتم متابعة الملف سواء من الحكومة أو مجلس النواب، إما من باب التقاعس أو لوجود ظروف موضوعية كجائحة "كورونا" وتغيير النظام السياسي لاحقا. واليوم الحكومة مطالبة بالعودة إلى هذا التقرير ومعالجة هذا الملف في العمق لأنه يعد من الملفات الإستراتيجية التي يمكن أن تحقق قفزة زراعية نوعية إذا ما تمت معالجته بشكل صحيح .

منية العرفاوي