مسيرة فنية حافلة للفنان التشكيلي حبيب بيده بدأت سنة 1977، سبقها مشوار دراسي حافل هو الآخر، كانت أبرز محطاته عام 1973 في المعهد العالي للهندسة المعمارية والتعمير بتونس، الذي كان يضم المصممين والمهندسين المعماريين وحتى المختصين في التعمير. حتى تحولت تسمية المعهد في بداية التسعينات إلى المعهد العالي للفنون الجميلة واستقل اختصاص الهندسة المعمارية بذاته.
وقد توج الفنان التشكيلي حبيب بيده سنة 1977 بجائزة رئيس الدولة، ثم ناقش السنة الموالية أطروحة دكتوراه المرحلة الثالثة في الجمالية وعلوم الفن تحت عنوان "فن وخط وزخرفة المخطوط القرآني من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر". كما ناقش أطروحة دكتوراه دولة بجامعة باريس الأولى السوربون تحت عنوان "مفهوم تقليد الطبيعة في الفن العربي الإسلامي"، لينال حبيب بيده في مراحل متقدمة شرف تدريس وتكوين أجيال متعاقبة بالمعهد العالي للفنون الجميلة سواء على مستوى النظريات أو على مستوى الممارسات. وللفنان حبيب في الوقت الراهن حضور بالمعهد كأستاذ متميز رغم تجاوز سن إحالته على التقاعد.
أما في ما يتعلق بالمسار الفني، يقول حبيب بيده لـ"الصباح" إنه كان "مساراً مغامراتياً"، حيث كانت له مشاركات في معارض جماعية بداية من عام 1977 وأول معرض شخصي في قاعة "ارتسام" (سنة 1980) التي لم يعد لها أثر في الوقت الحاضر. في نفس السنة كانت له مشاركات سواء في تونس أو خارجها، ثم توالت المعارض تقريباً في كل الأروقة بتونس على غرار رواق الفن بالمنزه السادس وقاعة الأخبار في شارع الحبيب بورقيبة ورواق يحيى. وهي أروقة -للأسف- أصبحت طي النسيان.
كان حبيب بيده من بين معاصري "المجموعة الستة" التي ضمت نخبة من الرسامين آنذاك مثل نجيب بلخوجة ولطفي الأرناؤوط والفرنسيين جوليات قرمادي وجون كلود ألان، أو مجموعة "العشرة" وغيرها التي أرادت -حسب ما أشار إليه حبيب بيده لـ"الصباح"- أن تبحث من خلال التسميات الجديدة عن التميز عبر فتح آفاق لدراسة تاريخية لما قدمه الخيال التونسي في تلك الفترة.
وحسب ما أكده حبيب بيده، فإنه ينتمي إلى الجيل الثالث الذي بدأ في الثمانينات رفقة الأمين ساسي رحمه الله ونور الدين الهاني وسمير التريكي ومنجي معتوق وغيرهم. مجموعات، حسب بيده، كانت كفيلة بأن تبين لنا من كان يتميز بحدسه وثقافته العصامية أو أولئك الفنانين المسؤولين عن تكوين تشكيليين، تكوين أجيال لم يمنع ويعطل مشاركة بيده في معارض بكل من قاعة التصوير وقاعة "مميطة" وقاعة "شيم" وغيرها من القاعات التي -للأسف- جلها لم يعد لها أثر.
حبيب بيده صاحب نصف قرن من التجارب الثرية في قطاع الفن التشكيلي على المستوى الأكاديمي والممارساتي (كما يحلو له أن ينعت الفعل التشكيلي)، إضافة إلى أنه لم يتوقف عن الإنتاج في "دار الفنون" بالبلفيدير ومتحف مدينة تونس بقصر خير الدين، باعتبار أنه يرى أن أروقة الدولة هي "مكسب للعموم وملك الشعب التونسي" -وفق ما أكده لـ"الصباح"- لأن جماهير الفضاءات الخاصة ليست كجماهير أروقة الدولة التي تتوافد من أجل الفن، وهو ما يميل إليه حبيب بيده لأنه يبحث عن تقييم إنتاجاته سواء من الزائرين أو النقاد. طبعاً، كأي منتج، الكسب المالي ضروري بالنسبة إليه، لكنه لا يحتل صدارة اهتماماته.
في المقابل، وبما أن حبيب بيده ناقد فني كذلك، أعرب لـ"الصباح" عن قلقه من غياب الكتابات النقدية في قطاع الفنون التشكيلية التي اقتصرت -خاصة في الثمانينات والتسعينات- على مقالات في جريدة "الصباح" و"لو تم" و"العمل" و"لا برس". والفنان حبيب بيده، إضافة إلى أنه ناشط في جل الفضاءات، له من المواضيع النقدية ما يؤلف كتاباً في هذا المجال، إيماناً منه بضرورة التمحيص والتوثيق للأعمال الفنية.
كما أن النقد بالنسبة إليه ضروري لأنه يجعل الفنان ينافس نفسه في طريق الإبداع، وفي حال غياب التقييم قد لا يتفطن التشكيلي إلى تكرار التقنيات والأفكار.
فالناقد بالنسبة لحبيب بيده "مؤسسة علمية يجب أن تحظى بمكانة مرموقة وسط المجال الفني، باعتبار أن كل الأروقة في العالم لها نقادها وتثمن العمل النقدي كما الأعمال الفنية". فالناقد يبقى مسؤولاً عن الحركة الثقافية من خلال تقييم التجارب المتنوعة.
وعزوف النقاد -حسب بيده- مرده عدم الاهتمام بهذه الوظيفة، فضلاً عن أن السوق الفنية لا تنتبه إلى المؤلفات النقدية و"تتجاهلها" وإن كانت نادرة.
كما أكد محدثنا أن هذه الممارسات ما زالت اليوم "غامضة"، ما جعل محدثنا يكتب مقالاً ذات مرة تحت عنوان "سوق الفن في تونس شبح يعمل في السرية" لأنه "يرى أن السوق غير مفهومة حتى الآن في معاملتها مع الفنان، والسوق منذ عشرين سنة أصبحت فوضوية جداً".
عكس السوق أيام مدرسة تونس في الستينات والسبعينات، حيث كانت القيم معروفة والفنانون عمار فرحات والسهيلي والساحلي بكفاحهم والعمل اليومي هو ما جعلهم ذوي صيت ذائع طيلة سنوات. هذا بالإضافة إلى أمر خطير آخر، وهو اقتحام الأعمال المزيفة التي تفاقمت في ظل غياب خبراء لتقييم الأعمال، فضلاً عن أن عملية الشراء والبيع لا تكون بطريقة واضحة.
كما لم يخف حبيب بيده مسألة أخرى، وهي اقتحام هواة قطاع الفن التشكيلي مع فرض أسعار غير متعارف عليها! وحين تتساءل، لا تجد جواباً شافياً.
موضوع آخر شائك كان قد أثاره الفنان حبيب بيده، وهو مسألة العروض خارج حدود الوطن، والتي لم تحسم حتى الآن رغم مطالبة وزارة الثقافة بإيجاد الحلول عبر تسهيل الإجراءات، رغم أن البلاد تزخر بمئات الكفاءات القادرة على الإشعاع في شتى الأروقة العالمية ورفع الراية الوطنية عالياً. ومن طرائف المشاركات خارج تونس أن حمل حبيب بيده أعماله للمشاركة في معرض أجنبي، ليفاجأ في آخر مراحل إجراءات السفر بمكتوب من "الثقافة" أرسل إلى القائمين على المعرض فيه "لا للبيع". والأدهى والأمر أنه تفطن خلال الرجوع إلى الوطن إلى أن أغلب اللوحات تحطمت نتيجة عدم الاهتمام!
في ظل كل هذه العوائق، يتمنى حبيب بيده أن يلقى قطاع الفن التشكيلي لفتة جدية من وزارة الثقافة وأن ينظم أكثر، حتى يصبح لتونس معارض دولية مثل متحف اللوفر الفرنسي وغيره من المتاحف العالمية "ونحن قادرون على ذلك إذا توفرت الإرادة".
وليد عبد اللاوي
تونس - الصباح
مسيرة فنية حافلة للفنان التشكيلي حبيب بيده بدأت سنة 1977، سبقها مشوار دراسي حافل هو الآخر، كانت أبرز محطاته عام 1973 في المعهد العالي للهندسة المعمارية والتعمير بتونس، الذي كان يضم المصممين والمهندسين المعماريين وحتى المختصين في التعمير. حتى تحولت تسمية المعهد في بداية التسعينات إلى المعهد العالي للفنون الجميلة واستقل اختصاص الهندسة المعمارية بذاته.
وقد توج الفنان التشكيلي حبيب بيده سنة 1977 بجائزة رئيس الدولة، ثم ناقش السنة الموالية أطروحة دكتوراه المرحلة الثالثة في الجمالية وعلوم الفن تحت عنوان "فن وخط وزخرفة المخطوط القرآني من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر". كما ناقش أطروحة دكتوراه دولة بجامعة باريس الأولى السوربون تحت عنوان "مفهوم تقليد الطبيعة في الفن العربي الإسلامي"، لينال حبيب بيده في مراحل متقدمة شرف تدريس وتكوين أجيال متعاقبة بالمعهد العالي للفنون الجميلة سواء على مستوى النظريات أو على مستوى الممارسات. وللفنان حبيب في الوقت الراهن حضور بالمعهد كأستاذ متميز رغم تجاوز سن إحالته على التقاعد.
أما في ما يتعلق بالمسار الفني، يقول حبيب بيده لـ"الصباح" إنه كان "مساراً مغامراتياً"، حيث كانت له مشاركات في معارض جماعية بداية من عام 1977 وأول معرض شخصي في قاعة "ارتسام" (سنة 1980) التي لم يعد لها أثر في الوقت الحاضر. في نفس السنة كانت له مشاركات سواء في تونس أو خارجها، ثم توالت المعارض تقريباً في كل الأروقة بتونس على غرار رواق الفن بالمنزه السادس وقاعة الأخبار في شارع الحبيب بورقيبة ورواق يحيى. وهي أروقة -للأسف- أصبحت طي النسيان.
كان حبيب بيده من بين معاصري "المجموعة الستة" التي ضمت نخبة من الرسامين آنذاك مثل نجيب بلخوجة ولطفي الأرناؤوط والفرنسيين جوليات قرمادي وجون كلود ألان، أو مجموعة "العشرة" وغيرها التي أرادت -حسب ما أشار إليه حبيب بيده لـ"الصباح"- أن تبحث من خلال التسميات الجديدة عن التميز عبر فتح آفاق لدراسة تاريخية لما قدمه الخيال التونسي في تلك الفترة.
وحسب ما أكده حبيب بيده، فإنه ينتمي إلى الجيل الثالث الذي بدأ في الثمانينات رفقة الأمين ساسي رحمه الله ونور الدين الهاني وسمير التريكي ومنجي معتوق وغيرهم. مجموعات، حسب بيده، كانت كفيلة بأن تبين لنا من كان يتميز بحدسه وثقافته العصامية أو أولئك الفنانين المسؤولين عن تكوين تشكيليين، تكوين أجيال لم يمنع ويعطل مشاركة بيده في معارض بكل من قاعة التصوير وقاعة "مميطة" وقاعة "شيم" وغيرها من القاعات التي -للأسف- جلها لم يعد لها أثر.
حبيب بيده صاحب نصف قرن من التجارب الثرية في قطاع الفن التشكيلي على المستوى الأكاديمي والممارساتي (كما يحلو له أن ينعت الفعل التشكيلي)، إضافة إلى أنه لم يتوقف عن الإنتاج في "دار الفنون" بالبلفيدير ومتحف مدينة تونس بقصر خير الدين، باعتبار أنه يرى أن أروقة الدولة هي "مكسب للعموم وملك الشعب التونسي" -وفق ما أكده لـ"الصباح"- لأن جماهير الفضاءات الخاصة ليست كجماهير أروقة الدولة التي تتوافد من أجل الفن، وهو ما يميل إليه حبيب بيده لأنه يبحث عن تقييم إنتاجاته سواء من الزائرين أو النقاد. طبعاً، كأي منتج، الكسب المالي ضروري بالنسبة إليه، لكنه لا يحتل صدارة اهتماماته.
في المقابل، وبما أن حبيب بيده ناقد فني كذلك، أعرب لـ"الصباح" عن قلقه من غياب الكتابات النقدية في قطاع الفنون التشكيلية التي اقتصرت -خاصة في الثمانينات والتسعينات- على مقالات في جريدة "الصباح" و"لو تم" و"العمل" و"لا برس". والفنان حبيب بيده، إضافة إلى أنه ناشط في جل الفضاءات، له من المواضيع النقدية ما يؤلف كتاباً في هذا المجال، إيماناً منه بضرورة التمحيص والتوثيق للأعمال الفنية.
كما أن النقد بالنسبة إليه ضروري لأنه يجعل الفنان ينافس نفسه في طريق الإبداع، وفي حال غياب التقييم قد لا يتفطن التشكيلي إلى تكرار التقنيات والأفكار.
فالناقد بالنسبة لحبيب بيده "مؤسسة علمية يجب أن تحظى بمكانة مرموقة وسط المجال الفني، باعتبار أن كل الأروقة في العالم لها نقادها وتثمن العمل النقدي كما الأعمال الفنية". فالناقد يبقى مسؤولاً عن الحركة الثقافية من خلال تقييم التجارب المتنوعة.
وعزوف النقاد -حسب بيده- مرده عدم الاهتمام بهذه الوظيفة، فضلاً عن أن السوق الفنية لا تنتبه إلى المؤلفات النقدية و"تتجاهلها" وإن كانت نادرة.
كما أكد محدثنا أن هذه الممارسات ما زالت اليوم "غامضة"، ما جعل محدثنا يكتب مقالاً ذات مرة تحت عنوان "سوق الفن في تونس شبح يعمل في السرية" لأنه "يرى أن السوق غير مفهومة حتى الآن في معاملتها مع الفنان، والسوق منذ عشرين سنة أصبحت فوضوية جداً".
عكس السوق أيام مدرسة تونس في الستينات والسبعينات، حيث كانت القيم معروفة والفنانون عمار فرحات والسهيلي والساحلي بكفاحهم والعمل اليومي هو ما جعلهم ذوي صيت ذائع طيلة سنوات. هذا بالإضافة إلى أمر خطير آخر، وهو اقتحام الأعمال المزيفة التي تفاقمت في ظل غياب خبراء لتقييم الأعمال، فضلاً عن أن عملية الشراء والبيع لا تكون بطريقة واضحة.
كما لم يخف حبيب بيده مسألة أخرى، وهي اقتحام هواة قطاع الفن التشكيلي مع فرض أسعار غير متعارف عليها! وحين تتساءل، لا تجد جواباً شافياً.
موضوع آخر شائك كان قد أثاره الفنان حبيب بيده، وهو مسألة العروض خارج حدود الوطن، والتي لم تحسم حتى الآن رغم مطالبة وزارة الثقافة بإيجاد الحلول عبر تسهيل الإجراءات، رغم أن البلاد تزخر بمئات الكفاءات القادرة على الإشعاع في شتى الأروقة العالمية ورفع الراية الوطنية عالياً. ومن طرائف المشاركات خارج تونس أن حمل حبيب بيده أعماله للمشاركة في معرض أجنبي، ليفاجأ في آخر مراحل إجراءات السفر بمكتوب من "الثقافة" أرسل إلى القائمين على المعرض فيه "لا للبيع". والأدهى والأمر أنه تفطن خلال الرجوع إلى الوطن إلى أن أغلب اللوحات تحطمت نتيجة عدم الاهتمام!
في ظل كل هذه العوائق، يتمنى حبيب بيده أن يلقى قطاع الفن التشكيلي لفتة جدية من وزارة الثقافة وأن ينظم أكثر، حتى يصبح لتونس معارض دولية مثل متحف اللوفر الفرنسي وغيره من المتاحف العالمية "ونحن قادرون على ذلك إذا توفرت الإرادة".