ظلت محاولات التحديث والصعود الإقليمي في العالم لدول الضفة الجنوبية للمتوسط تلاحقها محاصرة عنيدة وإفشال مستمر لكل جهد تحديثي إلى اليوم.
عرفت كل من تونس ومصر واليابان حركة إصلاحية تحديثية متزامنة في بداية القرن التاسع عشر بفضل جهود كل من باي تونس أحمد باشا باي (1837-1757) وحاكم مصر محمد علي باشا (1805-1849) وامبراطور اليابان ميجي (1807-1912).
ورغم اختلاف السياق والظرف الإقليمي والعالمي، فإن تلك الحركة نجحت في تحويل اليابان إلى قوة صناعية واحتلالها المكانة التي جعلت منها قوة عسكرية لها طيران متقدم في الحرب العالمية الثانية ألحق هزيمة كبرى بالولايات المتحدة الأمريكية في معركة بيارل هاربور، عام 1945 أجبرت أمريكا على استعمال القنابل الذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي لفرض استسلام اليابان إلىاليوم . وبالمقابل لاتزال تونس ومصر ترزحان تحت كلكل التخلف والتبعية.
لقد كانت الحركة الإصلاحية اليابانية مركزة على إرسال بعثات إلى أوروبا لدراسة العلوم والتقنية والنسج على منوالها، في حين كانت البعثات العربية الإسلامية لكل من تونس ومصر مركّزة على دراسة الآداب والعلوم الإنسانية والتي أسفرت عن كتابات وصفت مارأته في بلاد العجم مثل كتاب رفاعة الطهطاوي " تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي كان أصغر أعضاء البعثة وإمامها. وكان أغلبهم من أبناء الميسورين، حسب المصادر التاريخية.
اليابان مثال التحديث والتصنيع
وتظهر صورة على الانترنات مشهورة في اليابان لخمسة طلبة يابانيين معروفين باسم "تشوشو الخمسة " أرسلتهم بلادهم عام 1863 لدراسة وتعلم التكنولوجيا والتقنيات الحديثة في إطار جهود الامبراطور لتحديث البلاد بعد قرون من عزلتها. وقد لعب هؤلاء الطلبة دورا رئيسيا في نقل المعرفة والعلوم والتقنية، مما ساهم في تحويل البلاد من دولة اقطاعية متخلفة إلى قوة صناعية وعلمية إلى اليوم . وقد برعوا في تنفيذ برامج انقاذ اقتصادي وتقني، وتسريع عملية التطوير الحضاري. وكان أحدهم وهو إندوكنسوكي، يلقب بباعث الاقتصاد الوطني وتنظيم العملة. أما الثاني فهو إنوي كاهورو، الذي يلقب ب"أب الدبلوماسية" الذي جعل علاقات اليابان مع محيطها الإقليمي والدولي تسير عبر الأساليب والأدوات الجديدة للقوى العظمى في أوروبا المهيمنة على العالم .أما المصلح الثالث فهو إينوي ماسورو، الذي يعرف ب"أب النقل العصري" عبر السكك الحديدية التي أعطت دفعا اقتصاديا للنشاط العام. أما الرابع من هؤلاء فهو هيتوبوروبومي" منظم الدواليب الإدارية للدولة على الطريقة العصرية. أما الخامس فهوياماوموزو" الذي برع في المجال الهندسي وفي تمكين اليابان من عدد كبير من مهندسي الإنشاءات والبناء والتعمير لازالت اليابان رائدة فيه إلى اليوم.
وعلى سبيل المقارنة بالنسبة لكثير من المؤرخين، بين الحركتين الإصلاحيتين في اليابان وتونس مع سياقاتها المحلية والعالمية ، فقد كانت الحركة التحديثية في تونس مع أحمد باشا باي مهددة منذ البداية بالفشل والترنح بسبب المحيط الإقليمي الملغوم لتونس التي كانت فيه محاطة بأطماع القوى الأوروبية المهيمنة على المنطقة وعلى الجزائر المجاورة المحتلة من طرف فرنسا منذ 1830.
ومقارنة مع تونس فقد نفذ الامبراطور الياباني إصلاحاته في كنف الاستقرار الداخلي والخارجي وأخرج بلاده من العصر الإقطاعي إلى العصر الحديث ، حيث أصدر عام 1889 أول دستور لليابان، بعد تونس بثلاثين سنة، وفرض إجبارية التعليم، وأنشأ مدارس عصرية وجامعات في طوكيو وكيوتو وأرسل بعثات تعليمية إلى أوروبا لتعلم العلوم الهندسية والتقنيات . كما صدرت أول صحيفة في اليابان وهي "باتافياشمبو" عام 1862، عامان بعد صدور "الرائد التونسي". كما قام بإعادة صياغة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أخذا بجوانب من النظام المعاصر الأوروبي مع الحفاظ على الأصالة والتقاليد اليابانية، مما سمح لليابان بأن تتطور ذاتيا وتدخل عصر الحداثة الفعلية وتصبح مع مطلع القرن العشرين، قوة اقتصادية وصناعية وحربية .
وفي تونس ألغى الاستعمار عند احتلاله لها عام 1881 الإجراءات الإصلاحية التي قام بها الباي أحمد باشا باي.
وفي نظر الكثير من المؤرخين والدارسين، الذين تناولوا أسباب نجاح الحركة التحديثية في اليابان، مقابل تعثرها ثم فشلها في تونس ومصر اللتين سقطتا تحت الاستعمار في نفس السنة ، فإن الحركة الإصلاحية التحديثية نجحت في اليابان بفضل تركيز الإصلاحيين اليابانيين على جانب العلوم والتقنية في بعثاتهم العلمية والطلابية إلى أوروبا، وخاصة على فرض إجبارية التعليم، الذي لم تعرفه البلدان العربية الإسلامية ومنها تونس ومصر، إلا مع حصول استقلالها. وقد طالب الباي الوطني المنصف باي الذي حكم عامي 1942 و1943 قبل أن يعزل ويقع نفيه من طرف السلطات الاستعمارية، بإقرار مجانية وإجبارية التعليم للتونسيين وهو ما تحقق فقط عند الاستقلال، بعد أن أقره وسهر على فرضه الرئيس الأول لتونس المستقلة الحبيب بورقيبة. وقد ترك الاستعمار نسبة أمية تفوق 95 بالمائة من السكان في تونس على غرار سائر البلاد العربية، رغم أن الاستعمار، في نظر آخرين، جلب معه مكونات تحديث النظام التعليمي النخبوي والفئوي في إطار مدارس "الفرانكو أراب" التي أعطت الأولوية للغة الفرنسية وهمشت العربية لغة البلاد. وهو نفس المسار التعطيلي الذي شهدته الساحة الصحفية حيث أوقفت السلطات الاستعمارية جريدة "الرائد" الوطنية باكورة الصحافة التونسية وحولتها عام 1883 إلى جريدة ناطقة بالفرنسية تنشر القرارات الإدارية، ودعمت في المقابل صدور الصحف الناطقة بالفرنسية على حساب الصحف العربية، التي لن ترى النور إلا بعد سبع سنوات من انتصاب الاستعمار مع جريدة "الحاضرة" الصادرة عام 1888 .
ومن جهة أخرى كان اليابان بعيدا جغرافيا عن الأطماع الأوروبية المباشرة والصراع الحضاري التاريخي المزمن والمتكرر بين ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية منذ قرطاج وروما، إلى تتالي الحروب الصليبية. ولكن تجربة اليابان أظهرت في هذا السياق، قدرة الإصلاح الذاتي على النجاح والنهوض بالبلاد بعيدا عن حماية أو انتداب الاستعمار الأجنبي، الذي ترك البلدان المستعمرة في العالم العربي وإفريقيا عند استقلالها، في أتعس حال سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا، رغم بعض مظاهر التطور الشكلي التي نشأت فيها حول مراكز استغلال الثروات الطبيعية والمنجمية وطرق المبادلات التجارية، كما تبينها الكثير من الدراسات التاريخية والسوسيولوجية.
حركة إصلاحية تونسية رائدة ولكن ...
لقد كانت الحركة الإصلاحية التونسية في تلك الفترة متزامنة مع عدة إجراءات اتخذها الباي الليبرالي أحمد باشا باي الذي كان مطلعا على النهضة الصناعية في إيطاليا باعتباروالدته إيطالية وأخواله إصلاحيون إيطاليون من دعاة الجمهورية الى جانب حركة غاري بالدي.
وقام الباي احمد في هذا الغرض بإنشاء المدرسة الحربية بباردو التي دعيت باسم "مكتب المهندسين" عام 1840 وأسند رئاستها إلى الإيطالي كاليغاريس. ولكنها أغلقت عام 1869 وقد تخرج منها أقطاب الحركة الإصلاحية التحديثية وهم خير الدين التونسي والجنرال حسين والجنرال رستم. وقام الباي بإصدار أول دستور في العالم العربي والإسلامي وهو دستور عهد الأمان عام 1857إلى جانب إلغاء الرق عام 1846 وذلك قبل الدول الاوروبية وأمريكا أيضا .
وكما كان لليابان منظم إدارتها العصرية وهو إيتوهيورومو، فإن لتونس منظم ادارتها العصرية مبكرا وهو المصلح خير الدين التونسي الذي أدخل إصلاحات عصرية على الإدارة التونسية التقليدية، ونفذ ذلك خاصة حين تولي الوزارة الكبرى من 1873 إلى 1977. ولكن المؤامرات والدسائس ضده كانت على أشدها ،من القناصل الأوروبيين وخاصة قنصلي فرنسا وبريطانيا المتنافستين على احتلال تونس وقتل كل نفس إصلاحي يقوّيها عسكرية واقتصاديا . وقد تتالت المؤامرات حتى استقالة خيرالدين وانتصاب الاستعمار الفرنسي عام 1881 بعد أن سبق له احتلال الجزائر منذ 1830.
لقد كانت القوى الغربية في أوروبا متوجسة من أي تقدم علمي أو تقنى تحصل عليه تونس والدول العربية وهي التي بينها وبين القوى الأوروبية صراعات وحروب منذ قرطاج وروما ومنذ الحروب الصليبية المتتالية ضد افريقية الإسلامية. ولعل ذلك مايفسر نجاح الحركة التحديثية في كل من اليابان والصين لاحقا إلى اليوم وهما بلدان بعيدان عن مركزية أوروبا وما تسميه "مجالها الحيوي" الذي شنت من أجل حمايته، حروبا إقليمية وعالمية عدة لا تعرف فيها الرحمة ولا الشفقة، وذلك لفرض السلام الروماني "باكْسْ رُومَانَا"في ضفتي المتوسط.
وظلت محاولات التحديث والصعود الإقليمي في العالم لدول الضفة الجنوبية للمتوسط تلاحقها محاصرة عنيدة وإفشال مستمر لكل جهد تحديثي إلى اليوم. ولكن نجاح اليابان وبعدها الصين في التعويل على الذات لبناء القدرات الوطنية بالعلم والتعليم، يؤكد أن التعويل على القدرات الذاتية ممكن لإصلاح الأوضاع واللحاق بكوكبة البلدان المتقدمة دون خوف من المؤامرات والدسائس والتعطيلات المختلفة، التي تتكسر عادة على صخرة تصميم الشعوب على اكتساب مقومات القوة والمناعة والمكانة العلمية والتكنولوجيا المتطورة في المحافل الإقليمية والدولية.
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة
ظلت محاولات التحديث والصعود الإقليمي في العالم لدول الضفة الجنوبية للمتوسط تلاحقها محاصرة عنيدة وإفشال مستمر لكل جهد تحديثي إلى اليوم.
عرفت كل من تونس ومصر واليابان حركة إصلاحية تحديثية متزامنة في بداية القرن التاسع عشر بفضل جهود كل من باي تونس أحمد باشا باي (1837-1757) وحاكم مصر محمد علي باشا (1805-1849) وامبراطور اليابان ميجي (1807-1912).
ورغم اختلاف السياق والظرف الإقليمي والعالمي، فإن تلك الحركة نجحت في تحويل اليابان إلى قوة صناعية واحتلالها المكانة التي جعلت منها قوة عسكرية لها طيران متقدم في الحرب العالمية الثانية ألحق هزيمة كبرى بالولايات المتحدة الأمريكية في معركة بيارل هاربور، عام 1945 أجبرت أمريكا على استعمال القنابل الذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي لفرض استسلام اليابان إلىاليوم . وبالمقابل لاتزال تونس ومصر ترزحان تحت كلكل التخلف والتبعية.
لقد كانت الحركة الإصلاحية اليابانية مركزة على إرسال بعثات إلى أوروبا لدراسة العلوم والتقنية والنسج على منوالها، في حين كانت البعثات العربية الإسلامية لكل من تونس ومصر مركّزة على دراسة الآداب والعلوم الإنسانية والتي أسفرت عن كتابات وصفت مارأته في بلاد العجم مثل كتاب رفاعة الطهطاوي " تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي كان أصغر أعضاء البعثة وإمامها. وكان أغلبهم من أبناء الميسورين، حسب المصادر التاريخية.
اليابان مثال التحديث والتصنيع
وتظهر صورة على الانترنات مشهورة في اليابان لخمسة طلبة يابانيين معروفين باسم "تشوشو الخمسة " أرسلتهم بلادهم عام 1863 لدراسة وتعلم التكنولوجيا والتقنيات الحديثة في إطار جهود الامبراطور لتحديث البلاد بعد قرون من عزلتها. وقد لعب هؤلاء الطلبة دورا رئيسيا في نقل المعرفة والعلوم والتقنية، مما ساهم في تحويل البلاد من دولة اقطاعية متخلفة إلى قوة صناعية وعلمية إلى اليوم . وقد برعوا في تنفيذ برامج انقاذ اقتصادي وتقني، وتسريع عملية التطوير الحضاري. وكان أحدهم وهو إندوكنسوكي، يلقب بباعث الاقتصاد الوطني وتنظيم العملة. أما الثاني فهو إنوي كاهورو، الذي يلقب ب"أب الدبلوماسية" الذي جعل علاقات اليابان مع محيطها الإقليمي والدولي تسير عبر الأساليب والأدوات الجديدة للقوى العظمى في أوروبا المهيمنة على العالم .أما المصلح الثالث فهو إينوي ماسورو، الذي يعرف ب"أب النقل العصري" عبر السكك الحديدية التي أعطت دفعا اقتصاديا للنشاط العام. أما الرابع من هؤلاء فهو هيتوبوروبومي" منظم الدواليب الإدارية للدولة على الطريقة العصرية. أما الخامس فهوياماوموزو" الذي برع في المجال الهندسي وفي تمكين اليابان من عدد كبير من مهندسي الإنشاءات والبناء والتعمير لازالت اليابان رائدة فيه إلى اليوم.
وعلى سبيل المقارنة بالنسبة لكثير من المؤرخين، بين الحركتين الإصلاحيتين في اليابان وتونس مع سياقاتها المحلية والعالمية ، فقد كانت الحركة التحديثية في تونس مع أحمد باشا باي مهددة منذ البداية بالفشل والترنح بسبب المحيط الإقليمي الملغوم لتونس التي كانت فيه محاطة بأطماع القوى الأوروبية المهيمنة على المنطقة وعلى الجزائر المجاورة المحتلة من طرف فرنسا منذ 1830.
ومقارنة مع تونس فقد نفذ الامبراطور الياباني إصلاحاته في كنف الاستقرار الداخلي والخارجي وأخرج بلاده من العصر الإقطاعي إلى العصر الحديث ، حيث أصدر عام 1889 أول دستور لليابان، بعد تونس بثلاثين سنة، وفرض إجبارية التعليم، وأنشأ مدارس عصرية وجامعات في طوكيو وكيوتو وأرسل بعثات تعليمية إلى أوروبا لتعلم العلوم الهندسية والتقنيات . كما صدرت أول صحيفة في اليابان وهي "باتافياشمبو" عام 1862، عامان بعد صدور "الرائد التونسي". كما قام بإعادة صياغة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أخذا بجوانب من النظام المعاصر الأوروبي مع الحفاظ على الأصالة والتقاليد اليابانية، مما سمح لليابان بأن تتطور ذاتيا وتدخل عصر الحداثة الفعلية وتصبح مع مطلع القرن العشرين، قوة اقتصادية وصناعية وحربية .
وفي تونس ألغى الاستعمار عند احتلاله لها عام 1881 الإجراءات الإصلاحية التي قام بها الباي أحمد باشا باي.
وفي نظر الكثير من المؤرخين والدارسين، الذين تناولوا أسباب نجاح الحركة التحديثية في اليابان، مقابل تعثرها ثم فشلها في تونس ومصر اللتين سقطتا تحت الاستعمار في نفس السنة ، فإن الحركة الإصلاحية التحديثية نجحت في اليابان بفضل تركيز الإصلاحيين اليابانيين على جانب العلوم والتقنية في بعثاتهم العلمية والطلابية إلى أوروبا، وخاصة على فرض إجبارية التعليم، الذي لم تعرفه البلدان العربية الإسلامية ومنها تونس ومصر، إلا مع حصول استقلالها. وقد طالب الباي الوطني المنصف باي الذي حكم عامي 1942 و1943 قبل أن يعزل ويقع نفيه من طرف السلطات الاستعمارية، بإقرار مجانية وإجبارية التعليم للتونسيين وهو ما تحقق فقط عند الاستقلال، بعد أن أقره وسهر على فرضه الرئيس الأول لتونس المستقلة الحبيب بورقيبة. وقد ترك الاستعمار نسبة أمية تفوق 95 بالمائة من السكان في تونس على غرار سائر البلاد العربية، رغم أن الاستعمار، في نظر آخرين، جلب معه مكونات تحديث النظام التعليمي النخبوي والفئوي في إطار مدارس "الفرانكو أراب" التي أعطت الأولوية للغة الفرنسية وهمشت العربية لغة البلاد. وهو نفس المسار التعطيلي الذي شهدته الساحة الصحفية حيث أوقفت السلطات الاستعمارية جريدة "الرائد" الوطنية باكورة الصحافة التونسية وحولتها عام 1883 إلى جريدة ناطقة بالفرنسية تنشر القرارات الإدارية، ودعمت في المقابل صدور الصحف الناطقة بالفرنسية على حساب الصحف العربية، التي لن ترى النور إلا بعد سبع سنوات من انتصاب الاستعمار مع جريدة "الحاضرة" الصادرة عام 1888 .
ومن جهة أخرى كان اليابان بعيدا جغرافيا عن الأطماع الأوروبية المباشرة والصراع الحضاري التاريخي المزمن والمتكرر بين ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية منذ قرطاج وروما، إلى تتالي الحروب الصليبية. ولكن تجربة اليابان أظهرت في هذا السياق، قدرة الإصلاح الذاتي على النجاح والنهوض بالبلاد بعيدا عن حماية أو انتداب الاستعمار الأجنبي، الذي ترك البلدان المستعمرة في العالم العربي وإفريقيا عند استقلالها، في أتعس حال سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا، رغم بعض مظاهر التطور الشكلي التي نشأت فيها حول مراكز استغلال الثروات الطبيعية والمنجمية وطرق المبادلات التجارية، كما تبينها الكثير من الدراسات التاريخية والسوسيولوجية.
حركة إصلاحية تونسية رائدة ولكن ...
لقد كانت الحركة الإصلاحية التونسية في تلك الفترة متزامنة مع عدة إجراءات اتخذها الباي الليبرالي أحمد باشا باي الذي كان مطلعا على النهضة الصناعية في إيطاليا باعتباروالدته إيطالية وأخواله إصلاحيون إيطاليون من دعاة الجمهورية الى جانب حركة غاري بالدي.
وقام الباي احمد في هذا الغرض بإنشاء المدرسة الحربية بباردو التي دعيت باسم "مكتب المهندسين" عام 1840 وأسند رئاستها إلى الإيطالي كاليغاريس. ولكنها أغلقت عام 1869 وقد تخرج منها أقطاب الحركة الإصلاحية التحديثية وهم خير الدين التونسي والجنرال حسين والجنرال رستم. وقام الباي بإصدار أول دستور في العالم العربي والإسلامي وهو دستور عهد الأمان عام 1857إلى جانب إلغاء الرق عام 1846 وذلك قبل الدول الاوروبية وأمريكا أيضا .
وكما كان لليابان منظم إدارتها العصرية وهو إيتوهيورومو، فإن لتونس منظم ادارتها العصرية مبكرا وهو المصلح خير الدين التونسي الذي أدخل إصلاحات عصرية على الإدارة التونسية التقليدية، ونفذ ذلك خاصة حين تولي الوزارة الكبرى من 1873 إلى 1977. ولكن المؤامرات والدسائس ضده كانت على أشدها ،من القناصل الأوروبيين وخاصة قنصلي فرنسا وبريطانيا المتنافستين على احتلال تونس وقتل كل نفس إصلاحي يقوّيها عسكرية واقتصاديا . وقد تتالت المؤامرات حتى استقالة خيرالدين وانتصاب الاستعمار الفرنسي عام 1881 بعد أن سبق له احتلال الجزائر منذ 1830.
لقد كانت القوى الغربية في أوروبا متوجسة من أي تقدم علمي أو تقنى تحصل عليه تونس والدول العربية وهي التي بينها وبين القوى الأوروبية صراعات وحروب منذ قرطاج وروما ومنذ الحروب الصليبية المتتالية ضد افريقية الإسلامية. ولعل ذلك مايفسر نجاح الحركة التحديثية في كل من اليابان والصين لاحقا إلى اليوم وهما بلدان بعيدان عن مركزية أوروبا وما تسميه "مجالها الحيوي" الذي شنت من أجل حمايته، حروبا إقليمية وعالمية عدة لا تعرف فيها الرحمة ولا الشفقة، وذلك لفرض السلام الروماني "باكْسْ رُومَانَا"في ضفتي المتوسط.
وظلت محاولات التحديث والصعود الإقليمي في العالم لدول الضفة الجنوبية للمتوسط تلاحقها محاصرة عنيدة وإفشال مستمر لكل جهد تحديثي إلى اليوم. ولكن نجاح اليابان وبعدها الصين في التعويل على الذات لبناء القدرات الوطنية بالعلم والتعليم، يؤكد أن التعويل على القدرات الذاتية ممكن لإصلاح الأوضاع واللحاق بكوكبة البلدان المتقدمة دون خوف من المؤامرات والدسائس والتعطيلات المختلفة، التي تتكسر عادة على صخرة تصميم الشعوب على اكتساب مقومات القوة والمناعة والمكانة العلمية والتكنولوجيا المتطورة في المحافل الإقليمية والدولية.