الشِّعرُ اليوم، ليس تدوين الكلام الشَّفاهيّ. انه عملٌ يكتب بوعيٍ كتابيّ ونقرأه بكلّ حواسنا
حوار محسن بن احمد
وصف الشاعر الدكتور المنصف الوهايبي اشعارها بكونها صاحبة «القصيدة المحيزة» أي تلك التي تضفي المكانية على الأشياء، أو تجعلها تنزل في حيز أو مكان هو مرئي ومسموع في ذات الآن. وفيها يتزاوج التعبيران الكنائي والاستعاري، " ولاغرابة ان يكون هذا التوصيف لشعرها بهذه الدقة من مبدع في حجم وقيمة شاعر القيروان الكبير المنصف الوهايبي على اعتبار انها جمعت في اشعارها بين البوح المقروء والبوح المرسوم
هي الشاعرة والرسامة افراح الجبالي التي احتفلت منذ أيام بصدور مؤلف ابداعي شعري جديد لها "مهمة لاكتشاف النهار "
في مسيرة شاعرتنا 3 مؤلفات شعرية «قوس لنهرها" و "ما تأخذينه معكِ" و"أنطولوجيا البيت" ف " مهمة لاكتشاف النهار " الذي له طابعه الخاص في مسيرة هذه المبدعة الجدية في تعاطيها مع كل ماله علاقة بالشعر على اعتبار ان صدوره جاء برعاية من الشاعر العربي الكبير " ادونيس " ضمن سلسلة "اشراقات " التي يشرف على إصدارها والتي تهتم وتقدم أصواتا شعريّة عربيّة.
في هذا اللقاء مع " الصباح "توقفت افراح الجبالي عند اللقاء مع " ادونيس " والذي افرز " مهمة لاكتشاف النهار " كما كشفت الكثير من هواجسها الإبداعية كشاعرة ورسامة تشكيلية
*أفراح الجبالي رسامة وشاعرة هل جذبتك الكلمة من اللوحة فعشقت القلم على حساب الريشة ام العكس؟
مِن مَناطقي آتي، ومِن مناطق أزُورُها، ومِن عالَم السُّؤال. الدَّهْشةُ ما تزال تُحيّرُني والمكانُ والزمان. لا أنفكّ أبحثُ وأتساءل. الصورةُ /المَشهد / اللَّوحة.. أسبَحُ داخلها، أضيع، أنسى ما المكانُ؟ إنّها تتحدثُ إليّ كثيرا وتمتصُّني باستمرار. أرسُم مِثلما أكتُب، بالاندفاع عينِه والشّغف وأنا مع كلّ مُنجز إبداعيّ أتحمّس ولا أفكّر، ولكن أحِبُّ كثيرا وبقوّة كما لو أنّني بدأتُ الرّسمَ والكتابة في الحين. غارقة داخل الصَّوتِ والصُّورة وعشراتِ التساؤلات، حيث تبدأ أمطارٌ مِن الأشياءِ في إحداثِ دهشَةٍ بَصَريّة تُقيمُ لي وَصلة مُمكنةً مع اللاَّمرئيّ، عَبر حلقاتِها المتسَلسِلة في جُغرافِيّاتِها المُتغيّرة باستمرار.
لا أتذكّرُ أيّهُما الأسبقُ، ولا مَن التي عَلّمتْ الأخرى الفنَّ التنقُّلَ في الزّمان والمكان، الشاعرة / الرسّامة، هما الشَّخص ذاته الذي يتعلّم من تقنياتِه كيف يذهب إلى المعنى ليخفيه، فالمعاني كما هو معلوم جاهزة وفي كل مكان، غير أن الجمال قليل. ومُنجزي، من المَنظوريْن، يُحيلُ على تجربةٍ تُكسِبُ العالَم خِفّتَهُ الفريدة بالنسبةِ لِي، وتُعبِّر عن فرصةٍ تبحثُ، مِن خلال مَصيَدةِ الحَواسِّ، عن انبِعاثِ الحَدسِ والقلبِ من جديد، وفي كل مرّة، أي مع كلّ عمل أنجزهُ، عن المتعة الجماليّة، بلغةٍ نهمة.
*الإبحار في فنين مختلفين كيف يمكن للمبدع ان يكون منصفا بينهما... ؟
الشِّعرُ اليوم ليس اللغة. أو، ليس اللّغة فقط، فاللغةُ مُتاحة للجميع.
الشِّعرُ هو شكل وجودنا على الأرض. هو تعبيرٌ عن وجود الإنسان على الأرض كما يذهب إلى ذلك هيديغر. هو ضرورة وجود. الشِّعرُ هو الطريقة التي نتأمّلُ بها وجودنا، هو نوعُ الخَيال الذي نؤسّسُ به هذا الوجود. الشِّعرُ هو الإنسان عندما ينظُر. عندما يتأمّل. عندما يُعيدُ تعريف نفسه وتعريف الأشياء من حوله. والشِّعرُ موجودٌ في التشكيل بمُختلف أنواعه من رسم ونحت وغيرهما، موجودٌ في الفلسفة، في الفِكر، في المسرح والسينما، في القراءة، في طريقة اللباس والأكل... هو حاضر دائما إن انتبه الانسان إلى ذلك أو لمْ ينتبه.
والشِّعرُ بناءٌ. والنّصُّ نَسيجٌ. الشَّاعرُ يبني نصّه. الرسّامُ يبني لوحَته أيضا. والشِّعرُ اليومَ نقرؤُهُ بكلّ حواسنا وليس بحاسة السّمْع فقط. والعمل الشعريّ أو النصّ الشعريّ اليومَ مكتوبٌ على صفحة، أي أن الشاعر صار يتعامل مع المساحة البيضاء. الرسّامُ يفعل ذلك.
الشاعر، مع هذه الفنون ينخرطُ في زمن كونيّ، حيث للتَّفاصيلِ الصغيرة التي تنمو هنا وهناك، أن تُعيد الحِوار إلى منطقة الكتابة. العالَمُ بفنونه ضوء وصوتا ولَونا ودلالةً وحركَةً وشكلا وإيحاء ، فسيفساءات قد تبدو للبعض ضَربا من المستحيل الممكن، لكنها بالنسبة لي تَمرِينٌ على قراءةِ الدّاخِلِ وتفجِيرِ مُحيطٍ ومُجاوَرة آخَرٍ ما، أو التحدُّث معه.
*"مهمّة لاكتِشاف النّهار" أحدث اصداراتك كيف تقدميه؟
"مُهمَّة لاكتِشاف النَّهار" مجموعة شعريّة لي، يقترحُها الشاعر الكبير أدونيس ضمن سلسلة يُشرف عليها ويختار نصوصها، وهي سلسلة "إشراقات" التي تقدّمُ أصواتا شعريّة عربيّة.
صمّم الغلاف الفنان أحمد معلا. صدرت المجموعة في أوت 2024 عن دار أبعاد اللبنانيّة. ويُقدّم الشاعر أدونيس كتابي قائلا:
"الشِّعرُ بوصفه حياةً وحُريَّةً وحُبًّا، هو ما تؤسِّسُ له اليوم أصواتٌ متنوّعة، نساء ورجالا في مختلف البُلدان العربيّة. وتلك هي ظاهرة فريدة في تاريخ الإبداعِ الشعريّ العربيّ.
هكذا تبدو الكتابةُ الشِّعريّة العربيّة كأنّها تجيء من أفقٍ آخر: أفق الذَّاتيَّة المُتحرِّرَة من جميع أنواع السُّلطات الكابحة، وأفق الكينونة المنفتِحة على الأعماق والأبعاد المجهولة، وعلى الأسئلةِ المُهمَّشة أو المطموسة، اجتماعيّا وثقافيّا وسياسيًّا، إضافةً إلى المكبوت نفسيّا وجسديًّا، بصَرًا وبَصيرةً ومُخيَّلة.
وفي هذا ما يَتخطَّى خريطة الكتابة الشِّعريّة السَّائدة، ويرسُم خريطةً جديدة لشِعرٍ كَينُونيّ، استشرافًا لعالَمٍ عربيٍّ جديد، وجماليَّةٍ عربيّة جديدة".
*ماذا تقولين عن علاقتك بالشاعر الكبير ادونيس وهو الذي أشرف واختار نصوص هذا المؤلف؟
مفاجآت الشِّعرِ تجعلني أقرأ خبَرا صدفةً من وسائل الإعلام مفاده أن الشاعر أدونيس يطلق مشروع "إشراقات".. أي أنّه بصَدد القراءة لشعراء من كل مكان في العالم والكتبُ كانت تصدُر تباعا في نفس الوقت الذي يتلقى فيه أدونيس مخطوطات جديدة لشعراء آخرين من كل البلدان العربيّة. كان بصدد القراءة بانتظام وبصدد الاختيار والاشراف على نشرها.
آخر تواصل حينيّ مع أدونيس كان بمناسبة تهنئته بالجائزة الاسبانية المرموقة التي تحصل عليها جوان 2024. ولقد قابلتُه مرّة واحدة سنة 2014 في الدورة الثانية لملتقى الشعراء العرب بمدينة نابل حيث حضرتُ له ندوة فكرية شعريّة. لكن في سنة 2018 عندما حضر ضيفا في مدينة سوسة، مسقط رأسي، لم تحظ الأمسية بالدعاية الاعلاميّة الكافية فلم يتسن لي حضورها وأحزنني ذلك حينها.
قارئةٌ وشاعرُها الساطع في سماء بلا حدود، فقارئٌ وشاعرةٌ تُرسِل مَخطوطَها وتَنتظر شهرا. ثم آخر. حتى تكاد تنسى أنها أرسلته فعلا.
أفراح الجبالي ترسل بكتابها "مُهمّة لاكتشاف النهار". شاعري العزيز أدونيس يكتب لها: "شكرا. سأقرأ". ثم بعد القراءة يجيء الردّ بالقبول:شاعرة! هذا شرف لي كبير، ومسؤوليّة جسيمة وفرح ما بعده فرح.
*من وجهة نظرك اي سر وراء تفاعل النخب الثقافية والابداعية العربية مع ادونيس شاعرا ومنظرا؟
"يمشي في الهاوية وله قامة الريح" (أدونيس)
الشاعر والمفكر الأبرز على الخارطة العربيّة اليوم بأعماله التأسيسيّة "الثابت والمتحوّل" و "هذا هو اسمي"و"أغاني مهيار الدمشقي"وغيرها، ويعتبر رائدا في المختبر التطبيقيّ لفيزياء الحداثة في الشعر،والشعريّة ماضياً، وراهنا ومستقبلا. مع مجلّة "شعر" رفقة شعراء ونقاد أمثال أنسي الحاج ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا ونذير العظمة ومحمد الماغوط. ومازال يثير العواصف اليوم في تشريحه للعنف "المقدّس" وفي أسئلته ومواقفه السياسيّة القويّة.
*المتابع لإصداراتك – قبل الإبحار في مضامينها-- عناوينها ...ما هو المحدد لها واي دور لاثبات واقع او حقيقة في نفسية الشاعرة؟ وكيف يمكن للشعر أن يكون رؤيا وفي الوقت نفسه نقداً للبنيات الاجتماعية ولسجلها الرمزي؟
في الشعر، وفي الشعر وحده تنتفِض الصور وتباغت حتى اللغة نفسها!
يحدث أن أغطس في عمق المشهد داخل نصي أو لوحتي، دون أن أعرف وجهتي النهائية.. أو أن أسمح له/ها وحسب، فيأخذني من يدي إلى عالمي الداخليّ.. أو يحملني في فسحة مدهشة أشارك في صنعها قولا وتعبيرا.. فأفتح كُوّة ما.. أو ألقي بمجاديف فيها..
المشهد عندي لا يعرف السكون، إلا على نحوٍ جماليّ.المشهد في النص الشعريّ يخاطب أشياء العالم ويتحسّس أعماقها ويصغي إليها،فالعمل الابداعيّ عندي نوع من أنواع المحاورة الحيّة.
لا أفكر طويلا في الصواب المنطقيّ وخطوط الواقع والحدود ومدى جدوى القواعد المعمول بها، ففي الخيال كل شيء متاح وكل العناصر تنتمي، وفي الشعر قد تحدث الأشياء حتى بلا سبب، إنها تحدث وحسب. وفي اعتقادي لا يمكن تبرير كل ما له قيمة، ويندر أن تجد القصيدة فسحة للشرح، للدوافع، للرشد. تعلّمت في سنوات العزلة أن أسمح للأشياء بأن تكون.. لا أعاندها، وتلك سعادة خاصة. وهمّي الأكبر في نصوصي هو ما يخدم الوَثبة الشعريّة لما أكتُب بأكبر قدر مِن المرونة والانسيابيّة، أو كيف نعْبُر بالقول إلى الجهة الأخرى، جهة الشِّعر والشِّعريّ.. كيف نصنع أفقا آخر للكلام دون تكلّف أو تصنّع.
أحلم بعلاقة مباشرة بالمساحة! والمساحةُ عندي لُغةٌ أخرى وكما أشكل لوحاتٍ فنيّة تحاول قول العالم بطريقتي، أكتب نصّا شعريّا مشاركة العالم الحديث تصويرا وتخييلا بطريقة خالية من الابتذال وجديدة في كلّ مرة، وأحاول أن أقول العالم بشكل جماليّ مُباغت، معتبرة الشرط الجماليّ من أساسيات جميع أنواع الكتابات الإبداعيّة .
مشروعي الكتابيّ بدأ منذ كتابي الأوّل "قوس لنهرها" ثم تواصل مع كتابي الشعريّ الثاني "ما تأخذينه معكِ" والذي خصّه الشاعر الدكتور منصف الوهايبي بتقديم شعريّ على شكل قصيدة، ومع كتابي الشعريّ الثالث"أنطولوجيا البيت" الذي كتب كلمته فيه الشاعر العراقي عواد ناصر والأديب العزيز الراحل عبد المجيد يوسف.
ولا أقول أبدا أن نصا ما انتهى.. أوأنني قد وصلتُ. إن النص الشعريّ عندي يعيش ديمومةَ البدايات
*اشرت في مقدمة الكتاب انه جاء لرفع حدود الشعر ماهي هذه الحدود التي من الضروري اليوم تخطيها والاتجاهات والمدارس الشعرية العربية تتعدّد، فهل يعني ان الحداثة في الشعر بمفهومها المتعارف عليه أصبحت مهددة في وجودها؟
عدم كتابة الشّعر هو التهديد بحدّ ذاته.
الشّاعر الحديث يهدف إلى أن يكون نصُّه إبداعا بِكرا، فهو شديدُ الحرص على أن ينظر إلى الوجود مِن زاوية لم يسبق لأحد قبلَه أن نظر إليه منها، وأن يعالِج هذه الرؤيةَ الخاصّة بطريقةٍ فنيّة مُتفرّدة توحي بالمشاعر والأفكار ولا تحدّدُها ولا تُسمِّيها. وكما هو معلوم: اللُّغةُ هي المَجازُ. والمَجازُ في العربيّة هو التَّخطّي. (أن نجُوز أي أن نَعبُر) فإذا كُنّا ندَّعي المَجاز، ونحنُ نقف في حدُود "القصيدة"(التي هي حسب تعريف ابن منظور: شطر العُود إلى نصفيْن)، إذا كنّا نقف في حدودها ولم نتجاوزها، فهنالك خلَلٌ. خللٌ في علاقتنا بذواتنا وبخيَالنا وبلغتنا وفي علاقتنا بوعينا وتاريخنا وفكرنا ومشاريعنا الشّعريّة.
أبو تمام وأبو نواس والمعري والمتنبي. شعراء كبار مهمّون اشتغلوا في حدود المَجاز، في حدود اللغة. أما في البناءِ فلم يخرجوا عن البناء القديم.
تذهب الأعمال الشعريّة الحديثة والأحدثُ في اتجاه كتابةِ العمَل الشعريّ، حيث المُشاركَةُ في الخروج مِنَ "القصيدة" إلى الشِّعر. الشِّعرُ كَثرةٌ... (ليس جَمعًا)، بينَما القَصيدةُ مُفرَة.
والشِّعرُ اليوم، ليس تدوين الكلام الشَّفاهيّ. الشِّعرُ اليوم عملٌ يكتب بوعيٍ كتابيّ. وتبقى مسألة التنظير والتسميات اجتهادا لاحقا، فالشِّعرُ أسبَقُ من التّنظير. الاتجاهاتُ والمدارس الشعريّة لا تحدَّدُ زمنَ الكتابةِ. ونحنُ نكتُب، نُحدِثُ الانتهاك والاختراق كما لا نميل إلى الاتفاق. حين نَميل إلى الاتفاق ينتفي الشِّعرُ.
الشِّعرُ اليوم، ليس تدوين الكلام الشَّفاهيّ. انه عملٌ يكتب بوعيٍ كتابيّ ونقرأه بكلّ حواسنا
حوار محسن بن احمد
وصف الشاعر الدكتور المنصف الوهايبي اشعارها بكونها صاحبة «القصيدة المحيزة» أي تلك التي تضفي المكانية على الأشياء، أو تجعلها تنزل في حيز أو مكان هو مرئي ومسموع في ذات الآن. وفيها يتزاوج التعبيران الكنائي والاستعاري، " ولاغرابة ان يكون هذا التوصيف لشعرها بهذه الدقة من مبدع في حجم وقيمة شاعر القيروان الكبير المنصف الوهايبي على اعتبار انها جمعت في اشعارها بين البوح المقروء والبوح المرسوم
هي الشاعرة والرسامة افراح الجبالي التي احتفلت منذ أيام بصدور مؤلف ابداعي شعري جديد لها "مهمة لاكتشاف النهار "
في مسيرة شاعرتنا 3 مؤلفات شعرية «قوس لنهرها" و "ما تأخذينه معكِ" و"أنطولوجيا البيت" ف " مهمة لاكتشاف النهار " الذي له طابعه الخاص في مسيرة هذه المبدعة الجدية في تعاطيها مع كل ماله علاقة بالشعر على اعتبار ان صدوره جاء برعاية من الشاعر العربي الكبير " ادونيس " ضمن سلسلة "اشراقات " التي يشرف على إصدارها والتي تهتم وتقدم أصواتا شعريّة عربيّة.
في هذا اللقاء مع " الصباح "توقفت افراح الجبالي عند اللقاء مع " ادونيس " والذي افرز " مهمة لاكتشاف النهار " كما كشفت الكثير من هواجسها الإبداعية كشاعرة ورسامة تشكيلية
*أفراح الجبالي رسامة وشاعرة هل جذبتك الكلمة من اللوحة فعشقت القلم على حساب الريشة ام العكس؟
مِن مَناطقي آتي، ومِن مناطق أزُورُها، ومِن عالَم السُّؤال. الدَّهْشةُ ما تزال تُحيّرُني والمكانُ والزمان. لا أنفكّ أبحثُ وأتساءل. الصورةُ /المَشهد / اللَّوحة.. أسبَحُ داخلها، أضيع، أنسى ما المكانُ؟ إنّها تتحدثُ إليّ كثيرا وتمتصُّني باستمرار. أرسُم مِثلما أكتُب، بالاندفاع عينِه والشّغف وأنا مع كلّ مُنجز إبداعيّ أتحمّس ولا أفكّر، ولكن أحِبُّ كثيرا وبقوّة كما لو أنّني بدأتُ الرّسمَ والكتابة في الحين. غارقة داخل الصَّوتِ والصُّورة وعشراتِ التساؤلات، حيث تبدأ أمطارٌ مِن الأشياءِ في إحداثِ دهشَةٍ بَصَريّة تُقيمُ لي وَصلة مُمكنةً مع اللاَّمرئيّ، عَبر حلقاتِها المتسَلسِلة في جُغرافِيّاتِها المُتغيّرة باستمرار.
لا أتذكّرُ أيّهُما الأسبقُ، ولا مَن التي عَلّمتْ الأخرى الفنَّ التنقُّلَ في الزّمان والمكان، الشاعرة / الرسّامة، هما الشَّخص ذاته الذي يتعلّم من تقنياتِه كيف يذهب إلى المعنى ليخفيه، فالمعاني كما هو معلوم جاهزة وفي كل مكان، غير أن الجمال قليل. ومُنجزي، من المَنظوريْن، يُحيلُ على تجربةٍ تُكسِبُ العالَم خِفّتَهُ الفريدة بالنسبةِ لِي، وتُعبِّر عن فرصةٍ تبحثُ، مِن خلال مَصيَدةِ الحَواسِّ، عن انبِعاثِ الحَدسِ والقلبِ من جديد، وفي كل مرّة، أي مع كلّ عمل أنجزهُ، عن المتعة الجماليّة، بلغةٍ نهمة.
*الإبحار في فنين مختلفين كيف يمكن للمبدع ان يكون منصفا بينهما... ؟
الشِّعرُ اليوم ليس اللغة. أو، ليس اللّغة فقط، فاللغةُ مُتاحة للجميع.
الشِّعرُ هو شكل وجودنا على الأرض. هو تعبيرٌ عن وجود الإنسان على الأرض كما يذهب إلى ذلك هيديغر. هو ضرورة وجود. الشِّعرُ هو الطريقة التي نتأمّلُ بها وجودنا، هو نوعُ الخَيال الذي نؤسّسُ به هذا الوجود. الشِّعرُ هو الإنسان عندما ينظُر. عندما يتأمّل. عندما يُعيدُ تعريف نفسه وتعريف الأشياء من حوله. والشِّعرُ موجودٌ في التشكيل بمُختلف أنواعه من رسم ونحت وغيرهما، موجودٌ في الفلسفة، في الفِكر، في المسرح والسينما، في القراءة، في طريقة اللباس والأكل... هو حاضر دائما إن انتبه الانسان إلى ذلك أو لمْ ينتبه.
والشِّعرُ بناءٌ. والنّصُّ نَسيجٌ. الشَّاعرُ يبني نصّه. الرسّامُ يبني لوحَته أيضا. والشِّعرُ اليومَ نقرؤُهُ بكلّ حواسنا وليس بحاسة السّمْع فقط. والعمل الشعريّ أو النصّ الشعريّ اليومَ مكتوبٌ على صفحة، أي أن الشاعر صار يتعامل مع المساحة البيضاء. الرسّامُ يفعل ذلك.
الشاعر، مع هذه الفنون ينخرطُ في زمن كونيّ، حيث للتَّفاصيلِ الصغيرة التي تنمو هنا وهناك، أن تُعيد الحِوار إلى منطقة الكتابة. العالَمُ بفنونه ضوء وصوتا ولَونا ودلالةً وحركَةً وشكلا وإيحاء ، فسيفساءات قد تبدو للبعض ضَربا من المستحيل الممكن، لكنها بالنسبة لي تَمرِينٌ على قراءةِ الدّاخِلِ وتفجِيرِ مُحيطٍ ومُجاوَرة آخَرٍ ما، أو التحدُّث معه.
*"مهمّة لاكتِشاف النّهار" أحدث اصداراتك كيف تقدميه؟
"مُهمَّة لاكتِشاف النَّهار" مجموعة شعريّة لي، يقترحُها الشاعر الكبير أدونيس ضمن سلسلة يُشرف عليها ويختار نصوصها، وهي سلسلة "إشراقات" التي تقدّمُ أصواتا شعريّة عربيّة.
صمّم الغلاف الفنان أحمد معلا. صدرت المجموعة في أوت 2024 عن دار أبعاد اللبنانيّة. ويُقدّم الشاعر أدونيس كتابي قائلا:
"الشِّعرُ بوصفه حياةً وحُريَّةً وحُبًّا، هو ما تؤسِّسُ له اليوم أصواتٌ متنوّعة، نساء ورجالا في مختلف البُلدان العربيّة. وتلك هي ظاهرة فريدة في تاريخ الإبداعِ الشعريّ العربيّ.
هكذا تبدو الكتابةُ الشِّعريّة العربيّة كأنّها تجيء من أفقٍ آخر: أفق الذَّاتيَّة المُتحرِّرَة من جميع أنواع السُّلطات الكابحة، وأفق الكينونة المنفتِحة على الأعماق والأبعاد المجهولة، وعلى الأسئلةِ المُهمَّشة أو المطموسة، اجتماعيّا وثقافيّا وسياسيًّا، إضافةً إلى المكبوت نفسيّا وجسديًّا، بصَرًا وبَصيرةً ومُخيَّلة.
وفي هذا ما يَتخطَّى خريطة الكتابة الشِّعريّة السَّائدة، ويرسُم خريطةً جديدة لشِعرٍ كَينُونيّ، استشرافًا لعالَمٍ عربيٍّ جديد، وجماليَّةٍ عربيّة جديدة".
*ماذا تقولين عن علاقتك بالشاعر الكبير ادونيس وهو الذي أشرف واختار نصوص هذا المؤلف؟
مفاجآت الشِّعرِ تجعلني أقرأ خبَرا صدفةً من وسائل الإعلام مفاده أن الشاعر أدونيس يطلق مشروع "إشراقات".. أي أنّه بصَدد القراءة لشعراء من كل مكان في العالم والكتبُ كانت تصدُر تباعا في نفس الوقت الذي يتلقى فيه أدونيس مخطوطات جديدة لشعراء آخرين من كل البلدان العربيّة. كان بصدد القراءة بانتظام وبصدد الاختيار والاشراف على نشرها.
آخر تواصل حينيّ مع أدونيس كان بمناسبة تهنئته بالجائزة الاسبانية المرموقة التي تحصل عليها جوان 2024. ولقد قابلتُه مرّة واحدة سنة 2014 في الدورة الثانية لملتقى الشعراء العرب بمدينة نابل حيث حضرتُ له ندوة فكرية شعريّة. لكن في سنة 2018 عندما حضر ضيفا في مدينة سوسة، مسقط رأسي، لم تحظ الأمسية بالدعاية الاعلاميّة الكافية فلم يتسن لي حضورها وأحزنني ذلك حينها.
قارئةٌ وشاعرُها الساطع في سماء بلا حدود، فقارئٌ وشاعرةٌ تُرسِل مَخطوطَها وتَنتظر شهرا. ثم آخر. حتى تكاد تنسى أنها أرسلته فعلا.
أفراح الجبالي ترسل بكتابها "مُهمّة لاكتشاف النهار". شاعري العزيز أدونيس يكتب لها: "شكرا. سأقرأ". ثم بعد القراءة يجيء الردّ بالقبول:شاعرة! هذا شرف لي كبير، ومسؤوليّة جسيمة وفرح ما بعده فرح.
*من وجهة نظرك اي سر وراء تفاعل النخب الثقافية والابداعية العربية مع ادونيس شاعرا ومنظرا؟
"يمشي في الهاوية وله قامة الريح" (أدونيس)
الشاعر والمفكر الأبرز على الخارطة العربيّة اليوم بأعماله التأسيسيّة "الثابت والمتحوّل" و "هذا هو اسمي"و"أغاني مهيار الدمشقي"وغيرها، ويعتبر رائدا في المختبر التطبيقيّ لفيزياء الحداثة في الشعر،والشعريّة ماضياً، وراهنا ومستقبلا. مع مجلّة "شعر" رفقة شعراء ونقاد أمثال أنسي الحاج ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا ونذير العظمة ومحمد الماغوط. ومازال يثير العواصف اليوم في تشريحه للعنف "المقدّس" وفي أسئلته ومواقفه السياسيّة القويّة.
*المتابع لإصداراتك – قبل الإبحار في مضامينها-- عناوينها ...ما هو المحدد لها واي دور لاثبات واقع او حقيقة في نفسية الشاعرة؟ وكيف يمكن للشعر أن يكون رؤيا وفي الوقت نفسه نقداً للبنيات الاجتماعية ولسجلها الرمزي؟
في الشعر، وفي الشعر وحده تنتفِض الصور وتباغت حتى اللغة نفسها!
يحدث أن أغطس في عمق المشهد داخل نصي أو لوحتي، دون أن أعرف وجهتي النهائية.. أو أن أسمح له/ها وحسب، فيأخذني من يدي إلى عالمي الداخليّ.. أو يحملني في فسحة مدهشة أشارك في صنعها قولا وتعبيرا.. فأفتح كُوّة ما.. أو ألقي بمجاديف فيها..
المشهد عندي لا يعرف السكون، إلا على نحوٍ جماليّ.المشهد في النص الشعريّ يخاطب أشياء العالم ويتحسّس أعماقها ويصغي إليها،فالعمل الابداعيّ عندي نوع من أنواع المحاورة الحيّة.
لا أفكر طويلا في الصواب المنطقيّ وخطوط الواقع والحدود ومدى جدوى القواعد المعمول بها، ففي الخيال كل شيء متاح وكل العناصر تنتمي، وفي الشعر قد تحدث الأشياء حتى بلا سبب، إنها تحدث وحسب. وفي اعتقادي لا يمكن تبرير كل ما له قيمة، ويندر أن تجد القصيدة فسحة للشرح، للدوافع، للرشد. تعلّمت في سنوات العزلة أن أسمح للأشياء بأن تكون.. لا أعاندها، وتلك سعادة خاصة. وهمّي الأكبر في نصوصي هو ما يخدم الوَثبة الشعريّة لما أكتُب بأكبر قدر مِن المرونة والانسيابيّة، أو كيف نعْبُر بالقول إلى الجهة الأخرى، جهة الشِّعر والشِّعريّ.. كيف نصنع أفقا آخر للكلام دون تكلّف أو تصنّع.
أحلم بعلاقة مباشرة بالمساحة! والمساحةُ عندي لُغةٌ أخرى وكما أشكل لوحاتٍ فنيّة تحاول قول العالم بطريقتي، أكتب نصّا شعريّا مشاركة العالم الحديث تصويرا وتخييلا بطريقة خالية من الابتذال وجديدة في كلّ مرة، وأحاول أن أقول العالم بشكل جماليّ مُباغت، معتبرة الشرط الجماليّ من أساسيات جميع أنواع الكتابات الإبداعيّة .
مشروعي الكتابيّ بدأ منذ كتابي الأوّل "قوس لنهرها" ثم تواصل مع كتابي الشعريّ الثاني "ما تأخذينه معكِ" والذي خصّه الشاعر الدكتور منصف الوهايبي بتقديم شعريّ على شكل قصيدة، ومع كتابي الشعريّ الثالث"أنطولوجيا البيت" الذي كتب كلمته فيه الشاعر العراقي عواد ناصر والأديب العزيز الراحل عبد المجيد يوسف.
ولا أقول أبدا أن نصا ما انتهى.. أوأنني قد وصلتُ. إن النص الشعريّ عندي يعيش ديمومةَ البدايات
*اشرت في مقدمة الكتاب انه جاء لرفع حدود الشعر ماهي هذه الحدود التي من الضروري اليوم تخطيها والاتجاهات والمدارس الشعرية العربية تتعدّد، فهل يعني ان الحداثة في الشعر بمفهومها المتعارف عليه أصبحت مهددة في وجودها؟
عدم كتابة الشّعر هو التهديد بحدّ ذاته.
الشّاعر الحديث يهدف إلى أن يكون نصُّه إبداعا بِكرا، فهو شديدُ الحرص على أن ينظر إلى الوجود مِن زاوية لم يسبق لأحد قبلَه أن نظر إليه منها، وأن يعالِج هذه الرؤيةَ الخاصّة بطريقةٍ فنيّة مُتفرّدة توحي بالمشاعر والأفكار ولا تحدّدُها ولا تُسمِّيها. وكما هو معلوم: اللُّغةُ هي المَجازُ. والمَجازُ في العربيّة هو التَّخطّي. (أن نجُوز أي أن نَعبُر) فإذا كُنّا ندَّعي المَجاز، ونحنُ نقف في حدُود "القصيدة"(التي هي حسب تعريف ابن منظور: شطر العُود إلى نصفيْن)، إذا كنّا نقف في حدودها ولم نتجاوزها، فهنالك خلَلٌ. خللٌ في علاقتنا بذواتنا وبخيَالنا وبلغتنا وفي علاقتنا بوعينا وتاريخنا وفكرنا ومشاريعنا الشّعريّة.
أبو تمام وأبو نواس والمعري والمتنبي. شعراء كبار مهمّون اشتغلوا في حدود المَجاز، في حدود اللغة. أما في البناءِ فلم يخرجوا عن البناء القديم.
تذهب الأعمال الشعريّة الحديثة والأحدثُ في اتجاه كتابةِ العمَل الشعريّ، حيث المُشاركَةُ في الخروج مِنَ "القصيدة" إلى الشِّعر. الشِّعرُ كَثرةٌ... (ليس جَمعًا)، بينَما القَصيدةُ مُفرَة.
والشِّعرُ اليوم، ليس تدوين الكلام الشَّفاهيّ. الشِّعرُ اليوم عملٌ يكتب بوعيٍ كتابيّ. وتبقى مسألة التنظير والتسميات اجتهادا لاحقا، فالشِّعرُ أسبَقُ من التّنظير. الاتجاهاتُ والمدارس الشعريّة لا تحدَّدُ زمنَ الكتابةِ. ونحنُ نكتُب، نُحدِثُ الانتهاك والاختراق كما لا نميل إلى الاتفاق. حين نَميل إلى الاتفاق ينتفي الشِّعرُ.