إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرها على العلاقات الدولية: رؤية من منظور الواقعية السياسية

 

 

تنطلق الواقعية السياسية من فرضية أن النظام الدولي فوضوي

بقلم الدكتور منذر عافي باحث في علم الاجتماع

في ساحة العلاقات الدولية، يظل مفهوم القوة والمصالح الوطنية هو المحرك الأساسي للأحداث. ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تبرز الواقعية السياسية كإطار نظري أساسي لفهم تعقيدات هذه الحرب وتداعياتها على النظام الدولي. في هذا السياق، يمكن النظر إلى هذه الحرب على أنها أكثر من مجرد صراع إقليمي؛ فهي تُعيد تشكيل التوازنات الدولية وتُظهر التحديات التي تواجهها المؤسسات العالمية في ظل تزايد التوترات بين القوى الكبرى.

تنطلق الواقعية السياسية من فرضية أن النظام الدولي فوضوي، وأن الدول، باعتبارها الفاعلين الرئيسيين، تسعى للحفاظ على بقائها وضمان أمنها. تُدار العلاقات الدولية وفقًا لمبدأ "البقاء للأقوى"، حيث تحاول الدول تحقيق توازن في القوة بينها وبين منافسيها. من هذا المنطلق، يمكن تفسير التدخل الروسي في أوكرانيا على أنه محاولة لحماية المصالح الإستراتيجية لروسيا ومنع توسع نفوذ الغرب، خاصة من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو).

بالنسبة لروسيا، يُعتبر نفوذها في أوكرانيا حيويًا لضمان أمنها القومي، إن التراجع عن مناطق نفوذها التقليدية يُعد تهديدًا لوجودها في الساحة الدولية. وتبعاً لذلك، رأت روسيا في توسيع حلف الناتو شرقاً تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، ما دفعها إلى التدخل عسكريًا لمنع اقتراب قوات الحلف من حدودها. من هذا المنطلق، يُعد تدخل روسيا في أوكرانيا جزءًا من سياسة أوسع لحماية مجالها الجيوسياسي وضمان بقاء نظامها السياسي في مواجهة التحديات الغربية.

أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تغييرات كبيرة في توازن القوى على المستوى الدولي. فمنذ بداية الصراع، تشهد العلاقات بين الشرق والغرب تصاعداً في التوتر، ما يعيد للأذهان أجواء الحرب الباردة. التحالفات القديمة تتعزز، ويظهر اصطفاف دولي جديد بين القوى التي تدعم روسيا وتلك التي تقف مع الغرب. وفي هذا السياق، نجد أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على روسيا كانت تهدف إلى إضعاف قدرتها على مواصلة الحرب، لكنها في الوقت نفسه عمقت الانقسامات بين الشرق والغرب وأظهرت تداخل الاقتصاد العالمي ومدى تأثيره على العلاقات الدولية.

فيما يتعلق بالمؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، فقد أثبتت الحرب الروسية الأوكرانية ضعف قدرتها على التعامل مع الصراعات بين القوى الكبرى. فعلى الرغم من القرارات الدولية التي تدين التدخل الروسي، إلا أن قدرة هذه المؤسسات على فرض إجراءات فعالة محدودة بسبب المصالح المتضاربة بين الدول الأعضاء، وخاصة القوى الكبرى التي تملك حق الفيتو.

وفي ظل هذه المعطيات، يتضح أن العالم يتجه نحو نظام دولي جديد قد يكون أكثر انقساماً وتنافساً. فالحرب الروسية الأوكرانية لم تقتصر على إعادة تشكيل العلاقات بين روسيا والغرب فحسب، بل أثرت أيضاً على مواقف العديد من الدول التي تسعى إلى إعادة تقييم تحالفاتها ومصالحها في ظل هذه التحولات.

نقد النظريات الليبرالية في ضوء الأحداث

تظهر الحرب الروسية الأوكرانية أيضاً حدود النظريات الليبرالية التي تعوّل على دور المؤسسات الدولية والاعتماد المتبادل لتحقيق الاستقرار والسلام. استجابة الغرب السريعة بفرض عقوبات على روسيا وتقديم الدعم العسكري لأوكرانيا تُظهر أن المصالح الوطنية والمنافسة بين القوى الكبرى ما زالت العامل الحاسم في تحديد سياسات الدول، وليس التعاون الدولي.

من هنا، يمكن القول إن الحرب الروسية الأوكرانية تمثل تحدياً للنظام الدولي القائم على الليبرالية. فقد أظهرت هذه الحرب أن المؤسسات الدولية غير قادرة على فرض السلام عندما تتعارض مصالح القوى الكبرى، وأن الاعتماد على التعاون الدولي لضمان الأمن والاستقرار قد يكون غير كافٍ في مواجهة التحديات الجيوسياسية الراهنة.

تُظهر الحرب الروسية الأوكرانية أن العلاقات الدولية لا تزال تُدار بمبادئ الواقعية السياسية، حيث تفرض التهديدات والمصالح الإستراتيجية نفسها على المشهد الدولي. وعلى الرغم من محاولات المجتمع الدولي للحد من التصعيد، فإن هذه الحرب قد تؤدي إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للعالم وتشكيل نظام دولي جديد يقوم على توازن قوى مختلف عن ذاك الذي عرفناه في العقود الأخيرة.

إن التحولات الناتجة عن هذا الصراع ستستمر في تشكيل العلاقات الدولية في السنوات القادمة، مما يستدعي من الدول إعادة تقييم سياساتها الخارجية وتحالفاتها بما يتماشى مع الواقع الجديد. في هذا السياق، تظل الواقعية السياسية الأداة الأساسية لفهم تلك التحولات والاستعداد لمستقبل قد يكون أكثر اضطراباً. إن الغطرسة السياسة الخارجية واستعمال القوة بشكل مفرط، سواء خلال حرب فيتنام، أو ابان غزو العراق في عام 2003، أو في سياق السعي المحموم والساذج لتوسيع حلف الناتو في كل حالة هي السبب في الارتباك الذي يعيشه العالم اليوم.

يمكن - بالعودة الى الوراء قليلا - تفسير سبب صمود الاتحاد السوفيتي في مواجهة التحالف الأوروبي الأمريكي القوي خلال الحرب الباردة حيث كان لديه اقتصاد صناعي كبير، كما أن إمبراطوريته كانت مترامية الأطراف، وكانت قواته العسكرية محترفة ومدربة تدريبا جيدا ومتهيئة في المقام الأول للعمليات الهجومية، كما أن الاتحاد السوفياتي كانت لديه طموحات أيديولوجية كبيرة (أي انتشار الشيوعية).

لقد أحيت تصرفات روسيا - بغزوها لأوكرانيا- بشكل كبير تخوفات الغرب من التهديد الروسي الدائم للمصالح الغربية، وربما ستكون النتيجة إذا طال أمد الحرب مواجهات عسكرية ضخمة ضد روسيا تتدخل فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الاوربيون.

 لقد قضت الحرب الروسية الأوكرانية المندلعة منذ 24 فيفري 2022 على الاعتقاد بأن الحرب لم تعد هي الحل في أوروبا وكشفت أيضا زيف الادعاء بأن توسيع حلف الناتو باتجاه الشرق من شأنه أن يخلق "منطقة سلام" دائمة. كان من الجيد في مجال العلاقات الدولية لو تحققت هذه التوقعات، لكن الحرب الروسية الأوكرانية أثبتت أن احتمالًا مثل هذا غير وارد على الإطلاق. وليس مستغربا أن يعمد القادة السياسيون الغربيون الذين روجوا للديمقراطية الليبرالية وباعوها أن يسارعوا الى إلقاء اللوم كله على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. والزعم أن غزو القوات الروسية لأوكرانيا يثبت بما لا يدع مجالا للشك في أن مساعي حلف الناتو للتوسع لا علاقة له على الإطلاق بقرار إدارة الكرملين شن حرب ظالمة على أوكرانيا او هكذا تصورها وسائل الإعلام.

إن النظريات الليبرالية التي تؤكد على أهمية دور منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها في ضمان العدالة الدولية وفي فض النزاعات لم تستطع أن تفسر لنا الى حد الآن سبب الاستجابة الغربية السريعة والموحدة بشكل ملحوظ للتدخل الروسي في أوكرانيا عبر تنفيذ سلسلة واسعة جدا وغير مسبوقة من العقوبات على النظام الروسي طالت كل المجالات السياسية والمالية والرياضية والاتصالية وغيرها دون أن تنتظر هذه الدول ردة فعل الأمم المتحدة وأجهزتها التنفيذية. كان رد الفعل سريعًا لأن الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو يشتركون في مجموعة من الأهداف السياسية التي يتم تنفيذها الآن بطريقة مباشرة وقاسية بشكل خاص. لا تستطيع المؤسسات الدولية حل تضارب المصالح الأساسي أو منع القوى العظمى من التصرف كما يحلو لها، لكن يمكنها تسهيل استجابات جماعية أكثر فعالية عندما تتماشى مصالح الدولة في الغالب.

يقلل الملاحظون الواقعيون من أهمية دور المعايير كقيود قوية على سلوك القوى العظمى، لكن المعايير لعبت دورًا في تفسير الاستجابة العالمية للغزو الروسي. يدوس بوتين على معظم، إن لم يكن كل، القواعد المتعلقة باستخدام القوة (ميثاق الأمم المتحدة)، وهذا جزء من السبب الذي جعل الدول والشركات والأفراد في معظم أنحاء العالم يسلطون عقوبات مالية واقتصادية على روسيا. لا شيء يمكن أن يمنع بلدًا من انتهاك المعايير العالمية، إذا تصرفت القوات الروسية بوحشية أكبر في الأسابيع والأشهر المقبلة، فمن المحتم أن تتكثف الجهود الحالية لعزلها ونبذها. إن القادة الأمريكيين والأوروبيين الذين رفضوا الاحتجاجات والتحذيرات المتكررة لروسيا واستمروا في دعم أوكرانيا في برنامجها النووي، يريدون ان يبقوا بعيدين كل البعد عن كل اتهام. فهم يسوقون لدوافعهم على انها خيرية بالكامل، لكن من الواضح أن السياسات التي انتهجوها أنتجت عكس ما توقعوه .

يمكن الاعتقاد - ظرفيا-أن بوتين أخطأ التقدير بشكل في عديد المسائل: لقد بالغ في تصوير العداء الغربي لروسيا، وقلل من أهمية المقاومة الأوكرانية، وبالغ كذلك في تقدير قدرة جيشه على تحقيق نصر سريع وبأقل التكاليف، وأخطأ في قراءة ردة الفعل الغربية على اجتياحه أوكرانيا. من البديهي القول إن الدول لا تخوض الحروب إلا إذا كانت على بينة بأنها تستطيع تحقيق أهدافها بسرعة وبتكلفة منخفضة نسبيًا. فما من دولة تبدأ حربًا وهي تعرف مسبقا أنها ستكون طويلة ودموية ومكلفة ومن المرجح أن تنتهي بهزيمتها. فعندما يأتي صانع القرار ليرى سياسته على أنها ضرورية، فمن المرجح أن يعتقد أن السياسة يمكن أن تنجح، حتى لو تطلب هذا الاستنتاج تشويه الحقائق حول ما سيفعله الآخرون ".

إذا كان بوتين يعتقد أن أوكرانيا تتجه تدريجياً نحو التحالف مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يفسر البعض السلوك الروسي على أنه انعكاس لشخصية بوتين المتصلبة وهو بمثابة الرد على تصرفات الغرب السابقة. من جانبه، يبدو أن بوتين يعتقد أن تصرفات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي تنبع من غطرسة فطرية ورغبة عميقة الجذور في إبقاء روسيا ضعيفة ومتأخرة وأن الأوكرانيين يقاومون لأنهم إما يتعرضون للتضليل أو تحت سيطرة عناصر "من النازيين الجدد".

في عالم تسوده الفوضى، يمكن للدول أن تقدم وعودًا لبعضها البعض لكن لا يمكنها التأكد من تنفيذها. على سبيل المثال، كان من الممكن أن يعرض الناتو سحب العضوية الأوكرانية (على الرغم من أن هذا الأمر لم يحدث في الأسابيع التي سبقت الحرب)، لكن ربما لم يصدق بوتين الناتو حتى لو كانت واشنطن وبروكسيل قد وضعتا هذا الالتزام كتابيًا.

علاوة على ذلك، فإن مشاكل الالتزام بالتسوية السلمية للنزاع سوف تطرح في الأيام القادمة بشكل كبير حتى عندما تقوم الأطراف المتحاربة بانتهاج منهج التفاوض وتسعى إلى إنهاء القتال سلميا. ففي حال اختار بوتين الانسحاب من أوكرانيا وأقسم على كل الأناجيل الروسية الأرثوذكسية بأنه سيترك أوكرانيا وشأنها إلى الأبد، فإن قادة الدول الأوروبية وقادة الولايات المتحدة وأوكرانيا لن يسلموا بتعهداته ولن يصدقوا تأكيداته. حتى لو كان هذا الافتراض صحيحًا في الغالب، فإن الحكومات والقادة يعملون بمعلومات ناقصة ويمكن بسهولة أن يخطئوا في تقدير قدراتهم وقدرات الآخرين وردود أفعالهم. وحتى عندما تكون المعلومات وفيرة، يمكن أن تظل التصورات والقرارات متحيزة لأسباب نفسية أو ثقافية أو بيروقراطية. في عالم فيه الكثير من الطرق لفهم الأمور.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرها على العلاقات الدولية: رؤية من منظور الواقعية السياسية

 

 

تنطلق الواقعية السياسية من فرضية أن النظام الدولي فوضوي

بقلم الدكتور منذر عافي باحث في علم الاجتماع

في ساحة العلاقات الدولية، يظل مفهوم القوة والمصالح الوطنية هو المحرك الأساسي للأحداث. ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تبرز الواقعية السياسية كإطار نظري أساسي لفهم تعقيدات هذه الحرب وتداعياتها على النظام الدولي. في هذا السياق، يمكن النظر إلى هذه الحرب على أنها أكثر من مجرد صراع إقليمي؛ فهي تُعيد تشكيل التوازنات الدولية وتُظهر التحديات التي تواجهها المؤسسات العالمية في ظل تزايد التوترات بين القوى الكبرى.

تنطلق الواقعية السياسية من فرضية أن النظام الدولي فوضوي، وأن الدول، باعتبارها الفاعلين الرئيسيين، تسعى للحفاظ على بقائها وضمان أمنها. تُدار العلاقات الدولية وفقًا لمبدأ "البقاء للأقوى"، حيث تحاول الدول تحقيق توازن في القوة بينها وبين منافسيها. من هذا المنطلق، يمكن تفسير التدخل الروسي في أوكرانيا على أنه محاولة لحماية المصالح الإستراتيجية لروسيا ومنع توسع نفوذ الغرب، خاصة من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو).

بالنسبة لروسيا، يُعتبر نفوذها في أوكرانيا حيويًا لضمان أمنها القومي، إن التراجع عن مناطق نفوذها التقليدية يُعد تهديدًا لوجودها في الساحة الدولية. وتبعاً لذلك، رأت روسيا في توسيع حلف الناتو شرقاً تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، ما دفعها إلى التدخل عسكريًا لمنع اقتراب قوات الحلف من حدودها. من هذا المنطلق، يُعد تدخل روسيا في أوكرانيا جزءًا من سياسة أوسع لحماية مجالها الجيوسياسي وضمان بقاء نظامها السياسي في مواجهة التحديات الغربية.

أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تغييرات كبيرة في توازن القوى على المستوى الدولي. فمنذ بداية الصراع، تشهد العلاقات بين الشرق والغرب تصاعداً في التوتر، ما يعيد للأذهان أجواء الحرب الباردة. التحالفات القديمة تتعزز، ويظهر اصطفاف دولي جديد بين القوى التي تدعم روسيا وتلك التي تقف مع الغرب. وفي هذا السياق، نجد أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على روسيا كانت تهدف إلى إضعاف قدرتها على مواصلة الحرب، لكنها في الوقت نفسه عمقت الانقسامات بين الشرق والغرب وأظهرت تداخل الاقتصاد العالمي ومدى تأثيره على العلاقات الدولية.

فيما يتعلق بالمؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، فقد أثبتت الحرب الروسية الأوكرانية ضعف قدرتها على التعامل مع الصراعات بين القوى الكبرى. فعلى الرغم من القرارات الدولية التي تدين التدخل الروسي، إلا أن قدرة هذه المؤسسات على فرض إجراءات فعالة محدودة بسبب المصالح المتضاربة بين الدول الأعضاء، وخاصة القوى الكبرى التي تملك حق الفيتو.

وفي ظل هذه المعطيات، يتضح أن العالم يتجه نحو نظام دولي جديد قد يكون أكثر انقساماً وتنافساً. فالحرب الروسية الأوكرانية لم تقتصر على إعادة تشكيل العلاقات بين روسيا والغرب فحسب، بل أثرت أيضاً على مواقف العديد من الدول التي تسعى إلى إعادة تقييم تحالفاتها ومصالحها في ظل هذه التحولات.

نقد النظريات الليبرالية في ضوء الأحداث

تظهر الحرب الروسية الأوكرانية أيضاً حدود النظريات الليبرالية التي تعوّل على دور المؤسسات الدولية والاعتماد المتبادل لتحقيق الاستقرار والسلام. استجابة الغرب السريعة بفرض عقوبات على روسيا وتقديم الدعم العسكري لأوكرانيا تُظهر أن المصالح الوطنية والمنافسة بين القوى الكبرى ما زالت العامل الحاسم في تحديد سياسات الدول، وليس التعاون الدولي.

من هنا، يمكن القول إن الحرب الروسية الأوكرانية تمثل تحدياً للنظام الدولي القائم على الليبرالية. فقد أظهرت هذه الحرب أن المؤسسات الدولية غير قادرة على فرض السلام عندما تتعارض مصالح القوى الكبرى، وأن الاعتماد على التعاون الدولي لضمان الأمن والاستقرار قد يكون غير كافٍ في مواجهة التحديات الجيوسياسية الراهنة.

تُظهر الحرب الروسية الأوكرانية أن العلاقات الدولية لا تزال تُدار بمبادئ الواقعية السياسية، حيث تفرض التهديدات والمصالح الإستراتيجية نفسها على المشهد الدولي. وعلى الرغم من محاولات المجتمع الدولي للحد من التصعيد، فإن هذه الحرب قد تؤدي إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للعالم وتشكيل نظام دولي جديد يقوم على توازن قوى مختلف عن ذاك الذي عرفناه في العقود الأخيرة.

إن التحولات الناتجة عن هذا الصراع ستستمر في تشكيل العلاقات الدولية في السنوات القادمة، مما يستدعي من الدول إعادة تقييم سياساتها الخارجية وتحالفاتها بما يتماشى مع الواقع الجديد. في هذا السياق، تظل الواقعية السياسية الأداة الأساسية لفهم تلك التحولات والاستعداد لمستقبل قد يكون أكثر اضطراباً. إن الغطرسة السياسة الخارجية واستعمال القوة بشكل مفرط، سواء خلال حرب فيتنام، أو ابان غزو العراق في عام 2003، أو في سياق السعي المحموم والساذج لتوسيع حلف الناتو في كل حالة هي السبب في الارتباك الذي يعيشه العالم اليوم.

يمكن - بالعودة الى الوراء قليلا - تفسير سبب صمود الاتحاد السوفيتي في مواجهة التحالف الأوروبي الأمريكي القوي خلال الحرب الباردة حيث كان لديه اقتصاد صناعي كبير، كما أن إمبراطوريته كانت مترامية الأطراف، وكانت قواته العسكرية محترفة ومدربة تدريبا جيدا ومتهيئة في المقام الأول للعمليات الهجومية، كما أن الاتحاد السوفياتي كانت لديه طموحات أيديولوجية كبيرة (أي انتشار الشيوعية).

لقد أحيت تصرفات روسيا - بغزوها لأوكرانيا- بشكل كبير تخوفات الغرب من التهديد الروسي الدائم للمصالح الغربية، وربما ستكون النتيجة إذا طال أمد الحرب مواجهات عسكرية ضخمة ضد روسيا تتدخل فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الاوربيون.

 لقد قضت الحرب الروسية الأوكرانية المندلعة منذ 24 فيفري 2022 على الاعتقاد بأن الحرب لم تعد هي الحل في أوروبا وكشفت أيضا زيف الادعاء بأن توسيع حلف الناتو باتجاه الشرق من شأنه أن يخلق "منطقة سلام" دائمة. كان من الجيد في مجال العلاقات الدولية لو تحققت هذه التوقعات، لكن الحرب الروسية الأوكرانية أثبتت أن احتمالًا مثل هذا غير وارد على الإطلاق. وليس مستغربا أن يعمد القادة السياسيون الغربيون الذين روجوا للديمقراطية الليبرالية وباعوها أن يسارعوا الى إلقاء اللوم كله على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. والزعم أن غزو القوات الروسية لأوكرانيا يثبت بما لا يدع مجالا للشك في أن مساعي حلف الناتو للتوسع لا علاقة له على الإطلاق بقرار إدارة الكرملين شن حرب ظالمة على أوكرانيا او هكذا تصورها وسائل الإعلام.

إن النظريات الليبرالية التي تؤكد على أهمية دور منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها في ضمان العدالة الدولية وفي فض النزاعات لم تستطع أن تفسر لنا الى حد الآن سبب الاستجابة الغربية السريعة والموحدة بشكل ملحوظ للتدخل الروسي في أوكرانيا عبر تنفيذ سلسلة واسعة جدا وغير مسبوقة من العقوبات على النظام الروسي طالت كل المجالات السياسية والمالية والرياضية والاتصالية وغيرها دون أن تنتظر هذه الدول ردة فعل الأمم المتحدة وأجهزتها التنفيذية. كان رد الفعل سريعًا لأن الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو يشتركون في مجموعة من الأهداف السياسية التي يتم تنفيذها الآن بطريقة مباشرة وقاسية بشكل خاص. لا تستطيع المؤسسات الدولية حل تضارب المصالح الأساسي أو منع القوى العظمى من التصرف كما يحلو لها، لكن يمكنها تسهيل استجابات جماعية أكثر فعالية عندما تتماشى مصالح الدولة في الغالب.

يقلل الملاحظون الواقعيون من أهمية دور المعايير كقيود قوية على سلوك القوى العظمى، لكن المعايير لعبت دورًا في تفسير الاستجابة العالمية للغزو الروسي. يدوس بوتين على معظم، إن لم يكن كل، القواعد المتعلقة باستخدام القوة (ميثاق الأمم المتحدة)، وهذا جزء من السبب الذي جعل الدول والشركات والأفراد في معظم أنحاء العالم يسلطون عقوبات مالية واقتصادية على روسيا. لا شيء يمكن أن يمنع بلدًا من انتهاك المعايير العالمية، إذا تصرفت القوات الروسية بوحشية أكبر في الأسابيع والأشهر المقبلة، فمن المحتم أن تتكثف الجهود الحالية لعزلها ونبذها. إن القادة الأمريكيين والأوروبيين الذين رفضوا الاحتجاجات والتحذيرات المتكررة لروسيا واستمروا في دعم أوكرانيا في برنامجها النووي، يريدون ان يبقوا بعيدين كل البعد عن كل اتهام. فهم يسوقون لدوافعهم على انها خيرية بالكامل، لكن من الواضح أن السياسات التي انتهجوها أنتجت عكس ما توقعوه .

يمكن الاعتقاد - ظرفيا-أن بوتين أخطأ التقدير بشكل في عديد المسائل: لقد بالغ في تصوير العداء الغربي لروسيا، وقلل من أهمية المقاومة الأوكرانية، وبالغ كذلك في تقدير قدرة جيشه على تحقيق نصر سريع وبأقل التكاليف، وأخطأ في قراءة ردة الفعل الغربية على اجتياحه أوكرانيا. من البديهي القول إن الدول لا تخوض الحروب إلا إذا كانت على بينة بأنها تستطيع تحقيق أهدافها بسرعة وبتكلفة منخفضة نسبيًا. فما من دولة تبدأ حربًا وهي تعرف مسبقا أنها ستكون طويلة ودموية ومكلفة ومن المرجح أن تنتهي بهزيمتها. فعندما يأتي صانع القرار ليرى سياسته على أنها ضرورية، فمن المرجح أن يعتقد أن السياسة يمكن أن تنجح، حتى لو تطلب هذا الاستنتاج تشويه الحقائق حول ما سيفعله الآخرون ".

إذا كان بوتين يعتقد أن أوكرانيا تتجه تدريجياً نحو التحالف مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يفسر البعض السلوك الروسي على أنه انعكاس لشخصية بوتين المتصلبة وهو بمثابة الرد على تصرفات الغرب السابقة. من جانبه، يبدو أن بوتين يعتقد أن تصرفات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي تنبع من غطرسة فطرية ورغبة عميقة الجذور في إبقاء روسيا ضعيفة ومتأخرة وأن الأوكرانيين يقاومون لأنهم إما يتعرضون للتضليل أو تحت سيطرة عناصر "من النازيين الجدد".

في عالم تسوده الفوضى، يمكن للدول أن تقدم وعودًا لبعضها البعض لكن لا يمكنها التأكد من تنفيذها. على سبيل المثال، كان من الممكن أن يعرض الناتو سحب العضوية الأوكرانية (على الرغم من أن هذا الأمر لم يحدث في الأسابيع التي سبقت الحرب)، لكن ربما لم يصدق بوتين الناتو حتى لو كانت واشنطن وبروكسيل قد وضعتا هذا الالتزام كتابيًا.

علاوة على ذلك، فإن مشاكل الالتزام بالتسوية السلمية للنزاع سوف تطرح في الأيام القادمة بشكل كبير حتى عندما تقوم الأطراف المتحاربة بانتهاج منهج التفاوض وتسعى إلى إنهاء القتال سلميا. ففي حال اختار بوتين الانسحاب من أوكرانيا وأقسم على كل الأناجيل الروسية الأرثوذكسية بأنه سيترك أوكرانيا وشأنها إلى الأبد، فإن قادة الدول الأوروبية وقادة الولايات المتحدة وأوكرانيا لن يسلموا بتعهداته ولن يصدقوا تأكيداته. حتى لو كان هذا الافتراض صحيحًا في الغالب، فإن الحكومات والقادة يعملون بمعلومات ناقصة ويمكن بسهولة أن يخطئوا في تقدير قدراتهم وقدرات الآخرين وردود أفعالهم. وحتى عندما تكون المعلومات وفيرة، يمكن أن تظل التصورات والقرارات متحيزة لأسباب نفسية أو ثقافية أو بيروقراطية. في عالم فيه الكثير من الطرق لفهم الأمور.