لا يمكن قراءة إقالة رئيس الجمهورية قيس سعيد لرئيس الحكومة أحمد الحشاني وتعيين كمال المدوري خلفا له، بمعزل عن سياقات المرحلة التي تمر بها البلاد في الوقت الراهن: سياق روتين العمل الحكومي ومتطلباته وتعقيداته، والرهانات المسلطة عليه في المرحلة المقبلة، وسياق متصل بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، وأيضا سياق المسار الانتخابي للانتخابات الرئاسية، أكتوبر 2024، الذي انطلق منذ أسابيع..
فاتخاذ مثل هذا القرار قبل شهرين فقط تقريبا من موعد الاقتراع للدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، لم يكن اعتباطيا، كما أن الاختيار على شخص كمال المدوري لتولي المهمة، وهو الذي سمي قبل شهرين فقط في منصب وزير الشؤون الاجتماعية، خلفا للوزير السابق مالك الزاهي، لم يكن أيضا صدفة، رغم أنه يعتبر من آخر الملتحقين بأعضاء الحكومة..
كما يأتي هذا التغيير في منصب رئيس الحكومة، في ظرف اقتصادي تمر به البلاد أقل ما يقال عنه أنه صعب، ولا يمكن إنكاره، وفي وقت بلغت فيه عمليات التحضير لمشروع ميزانية الدولة وقانون المالية للسنة المقبلة، أشواطا متقدمة.
وهي ميزانية تحتاج - كما هو معلوم- إلى تخطيط محكم ومدروس للتوازنات المالية وبحث معمق ومتأن في كيفية توفير موارد مالية إضافية تحتاج إليها الدولة بشدة، مع حتمية تحقيق نسبة نمو أفضل، خاصة مع الضغوط الكبيرة المسلطة على المالية العمومية بفعل ارتفاع حجم الدين الخارجي وحلول آجال دفع أقساط ديون سابقة خلال السنتين الأخيرتين، وخاصة خلال السنة المقبلة التي ستكون بدورها صعبة بمقاييس الضغوط المالية والجبائية والاقتصادية.. والأخذ بعين الاعتبار للعوامل الخارجية العالمية التي تؤثر على أداء الاقتصاد الوطني.
ومهما يكن من أمر، فإن مهمة المدوري لن تكون سهلة، وهو الذي يحسب له خبرته الطويلة في عدة مناصب في هياكل الدولة، على غرار إدارة الصناديق الاجتماعية، وهنا تجدر الإشارة إلى طبيعة التكوين العلمي والخبرة المهنية للمدوري وخاصة تملكه لشخصية قيادية وفق العارفين به، وخبرته كمفاوض اجتماعي (عضو بالمجلس الوطني للحوار الاجتماعي، ونائب رئيس اللجنة الفرعية للحماية الاجتماعية)، علما وأن الحكومة لم تخرج منذ سنوات عن منهج التقشف وترشيد النفقات وتقليص حجم الانتدابات في الوظيفة العمومية، عند وضع برامج ومخططات ومشاريع الميزانية وبرامج مختلف القطاعات الحكومية، مقابل الحرص على عدم إهمال الجانب الاجتماعي، الذي يعتبر من أبرز ركائز سياسة الرئيس قيس سعيد الذي ما انفك يدعو إلى العناية أكثر بالفئات الاجتماعية الهشة، ووضع حلول لتنمية المناطق الفقيرة والمهمشة، والتوزيع العادل للثروة، وسن قوانين وتشريعات تخدم الاقتصاد الاجتماعي التضامني، وتقطع مع سياسة الريع وتكافح الفساد وتحارب المحسوبية وتؤسس للحوكمة الرشيدة والشفافية في إدارة المرفق العام.
وبما أن الأمر كذلك، فمن البديهي أن تشكل البرامج الاجتماعية وكيفية تمويلها عنصرا مهما في السياسة العامة للدولة والتي يضع توجهاتها بالأساس رئيس الدولة "الذي يضبط السياسة العامة للدولة ويحدد اختياراتها الأساسية"، وفقا لدستور جويلية 2022، وتقوم الحكومة بهمة تنفيذها..
ومن المفيد التذكير في هذا السياق، بأهمية الإستراتيجية الاقتصادية الجديدة التي يتوخاها رئيس الدولة التي تقوم على المراهنة على التعويل على الذات، ودفع نسق التنمية والإنتاج، وتنويع الشركاء الاقتصاديين من الخارج، والتشجيع على الاستثمار، والتوجه أكثر نحو الشرق في محاولة لإيجاد بدائل عن صندوق النقد الدولي..
والسؤال المطروح، أي انتظارات لرئيس الحكومة الجديد، وهل سيكون له دور في تحقيق معادلة بين الانسجام الحكومي المنشود، وتنزيل توجهات رئيس الدولة الاقتصادية والتنموية والاجتماعية على أرض الواقع، وهل سيعول عليه لإدارة العمل الحكومي، حتى بعد انتهاء مسار الانتخابات الرئاسية..؟
كما أنه وفي محاولة لفهم خلفيات الإقالة، تطرح تساؤلات بخصوص علاقة الإقالة بالأداء الحكومي ككل، وتقييم رئيس الدولة لأداء بعض أعضاء الحكومة وحتى لأداء موظفين كبار في مناصب حساسة بالإدارة التونسية، أو بمؤسسات وهياكل عمومية.. وربما في علاقة بأداء الحشاني نفسه ولأسلوب إدارته، خلال عام من توليه المنصب، (سمي بتاريخ 3 أوت 2023 خلفا للسيدة نجلاء بودن) وحجم تأثيره على بقية أعضاء الحكومة، وخاصة - وهو الأهم- نجاحه في خلق نوع من الانسجام الحكومي وتناغمه، والمتصل دائما بالسياسة التي يرسمها رئيس الدولة ويضع توجهاتها الكبرى..
ولعل من المؤشرات التي تحيل إلى وجود علاقة بين الأداء الحكومي واقالة الحشاني، الدعوات المتكررة لرئيس الجمهورية قيس سعيد في لقاءاته مع رئيس الحكومة المقال بتأكيده على أهمية التناغم والانسجام في العمل الحكومي، والتشديد دائما على التذكير بدور الحكومة وهو "مساعدة رئيس الجمهورية في ممارسة الوظيفة التنفيذية"، ("تسهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجهات والخيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية" وفق دستور 2022) وآخرها خلال زيارته لقصر الحكومة بالقصبة ولقائه بالحشاني، حين وجه انتقادات مباشرة وغير مباشرة لمسؤولين في الحكومة وفي مرافق عمومية، وقوله أن "هناك من لم يفهم دستور 2022 ودور الحكومة في معاضدة رئيس الجمهورية".
كما ربط البعض إعلان إقالة الحشاني، مباشرة بتقديم هذا الأخير في فيديو مصور نشرته رئاسة الحكومة على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" لما أسماها "حصيلة" عمل الحكومة طيلة سنة، مركزا على "إنجازات" الحكومة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى التشريعية، بطريقة تبرز الدور الحكومي، دون تقدير لدور رئيس الجمهورية، هو ما يتناقض مع أحكام الدستور الذي حدد دور الحكومة، كما أسلفنا، في السهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبقا لخيارات رئيس الدولة.
رفيق بن عبد الله
تونس- الصباح
لا يمكن قراءة إقالة رئيس الجمهورية قيس سعيد لرئيس الحكومة أحمد الحشاني وتعيين كمال المدوري خلفا له، بمعزل عن سياقات المرحلة التي تمر بها البلاد في الوقت الراهن: سياق روتين العمل الحكومي ومتطلباته وتعقيداته، والرهانات المسلطة عليه في المرحلة المقبلة، وسياق متصل بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، وأيضا سياق المسار الانتخابي للانتخابات الرئاسية، أكتوبر 2024، الذي انطلق منذ أسابيع..
فاتخاذ مثل هذا القرار قبل شهرين فقط تقريبا من موعد الاقتراع للدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، لم يكن اعتباطيا، كما أن الاختيار على شخص كمال المدوري لتولي المهمة، وهو الذي سمي قبل شهرين فقط في منصب وزير الشؤون الاجتماعية، خلفا للوزير السابق مالك الزاهي، لم يكن أيضا صدفة، رغم أنه يعتبر من آخر الملتحقين بأعضاء الحكومة..
كما يأتي هذا التغيير في منصب رئيس الحكومة، في ظرف اقتصادي تمر به البلاد أقل ما يقال عنه أنه صعب، ولا يمكن إنكاره، وفي وقت بلغت فيه عمليات التحضير لمشروع ميزانية الدولة وقانون المالية للسنة المقبلة، أشواطا متقدمة.
وهي ميزانية تحتاج - كما هو معلوم- إلى تخطيط محكم ومدروس للتوازنات المالية وبحث معمق ومتأن في كيفية توفير موارد مالية إضافية تحتاج إليها الدولة بشدة، مع حتمية تحقيق نسبة نمو أفضل، خاصة مع الضغوط الكبيرة المسلطة على المالية العمومية بفعل ارتفاع حجم الدين الخارجي وحلول آجال دفع أقساط ديون سابقة خلال السنتين الأخيرتين، وخاصة خلال السنة المقبلة التي ستكون بدورها صعبة بمقاييس الضغوط المالية والجبائية والاقتصادية.. والأخذ بعين الاعتبار للعوامل الخارجية العالمية التي تؤثر على أداء الاقتصاد الوطني.
ومهما يكن من أمر، فإن مهمة المدوري لن تكون سهلة، وهو الذي يحسب له خبرته الطويلة في عدة مناصب في هياكل الدولة، على غرار إدارة الصناديق الاجتماعية، وهنا تجدر الإشارة إلى طبيعة التكوين العلمي والخبرة المهنية للمدوري وخاصة تملكه لشخصية قيادية وفق العارفين به، وخبرته كمفاوض اجتماعي (عضو بالمجلس الوطني للحوار الاجتماعي، ونائب رئيس اللجنة الفرعية للحماية الاجتماعية)، علما وأن الحكومة لم تخرج منذ سنوات عن منهج التقشف وترشيد النفقات وتقليص حجم الانتدابات في الوظيفة العمومية، عند وضع برامج ومخططات ومشاريع الميزانية وبرامج مختلف القطاعات الحكومية، مقابل الحرص على عدم إهمال الجانب الاجتماعي، الذي يعتبر من أبرز ركائز سياسة الرئيس قيس سعيد الذي ما انفك يدعو إلى العناية أكثر بالفئات الاجتماعية الهشة، ووضع حلول لتنمية المناطق الفقيرة والمهمشة، والتوزيع العادل للثروة، وسن قوانين وتشريعات تخدم الاقتصاد الاجتماعي التضامني، وتقطع مع سياسة الريع وتكافح الفساد وتحارب المحسوبية وتؤسس للحوكمة الرشيدة والشفافية في إدارة المرفق العام.
وبما أن الأمر كذلك، فمن البديهي أن تشكل البرامج الاجتماعية وكيفية تمويلها عنصرا مهما في السياسة العامة للدولة والتي يضع توجهاتها بالأساس رئيس الدولة "الذي يضبط السياسة العامة للدولة ويحدد اختياراتها الأساسية"، وفقا لدستور جويلية 2022، وتقوم الحكومة بهمة تنفيذها..
ومن المفيد التذكير في هذا السياق، بأهمية الإستراتيجية الاقتصادية الجديدة التي يتوخاها رئيس الدولة التي تقوم على المراهنة على التعويل على الذات، ودفع نسق التنمية والإنتاج، وتنويع الشركاء الاقتصاديين من الخارج، والتشجيع على الاستثمار، والتوجه أكثر نحو الشرق في محاولة لإيجاد بدائل عن صندوق النقد الدولي..
والسؤال المطروح، أي انتظارات لرئيس الحكومة الجديد، وهل سيكون له دور في تحقيق معادلة بين الانسجام الحكومي المنشود، وتنزيل توجهات رئيس الدولة الاقتصادية والتنموية والاجتماعية على أرض الواقع، وهل سيعول عليه لإدارة العمل الحكومي، حتى بعد انتهاء مسار الانتخابات الرئاسية..؟
كما أنه وفي محاولة لفهم خلفيات الإقالة، تطرح تساؤلات بخصوص علاقة الإقالة بالأداء الحكومي ككل، وتقييم رئيس الدولة لأداء بعض أعضاء الحكومة وحتى لأداء موظفين كبار في مناصب حساسة بالإدارة التونسية، أو بمؤسسات وهياكل عمومية.. وربما في علاقة بأداء الحشاني نفسه ولأسلوب إدارته، خلال عام من توليه المنصب، (سمي بتاريخ 3 أوت 2023 خلفا للسيدة نجلاء بودن) وحجم تأثيره على بقية أعضاء الحكومة، وخاصة - وهو الأهم- نجاحه في خلق نوع من الانسجام الحكومي وتناغمه، والمتصل دائما بالسياسة التي يرسمها رئيس الدولة ويضع توجهاتها الكبرى..
ولعل من المؤشرات التي تحيل إلى وجود علاقة بين الأداء الحكومي واقالة الحشاني، الدعوات المتكررة لرئيس الجمهورية قيس سعيد في لقاءاته مع رئيس الحكومة المقال بتأكيده على أهمية التناغم والانسجام في العمل الحكومي، والتشديد دائما على التذكير بدور الحكومة وهو "مساعدة رئيس الجمهورية في ممارسة الوظيفة التنفيذية"، ("تسهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجهات والخيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية" وفق دستور 2022) وآخرها خلال زيارته لقصر الحكومة بالقصبة ولقائه بالحشاني، حين وجه انتقادات مباشرة وغير مباشرة لمسؤولين في الحكومة وفي مرافق عمومية، وقوله أن "هناك من لم يفهم دستور 2022 ودور الحكومة في معاضدة رئيس الجمهورية".
كما ربط البعض إعلان إقالة الحشاني، مباشرة بتقديم هذا الأخير في فيديو مصور نشرته رئاسة الحكومة على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" لما أسماها "حصيلة" عمل الحكومة طيلة سنة، مركزا على "إنجازات" الحكومة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى التشريعية، بطريقة تبرز الدور الحكومي، دون تقدير لدور رئيس الجمهورية، هو ما يتناقض مع أحكام الدستور الذي حدد دور الحكومة، كما أسلفنا، في السهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبقا لخيارات رئيس الدولة.