سيطرت الأحزاب بشكل كامل على كل محطات الاستحقاق الانتخابي بعد الثورة، وحتى نتيجة الانتخابات الرئاسية في 2019 والتي باغتت الأحزاب وأطاحت بقيادات حزبية بارزة بعد فوز رئيس الجمهورية الحالي قيس سعيد دون أن يكون له حزب، لم تنف تأثير الأحزاب التي نزل بعضها بكل ثقله لحسم المعركة الانتخابية، وقتها، وخاصة في الدور الثاني من تلك الانتخابات .
إلا أن اللافت في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى بعد أسابيع قليلة هو الغياب شبه الكلّي للأحزاب عن العملية الانتخابية ككل بداية من تقديم مرشحين مرورا بتزكيتهم والقيام بالحملة الانتخابية وصولا إلى التصويت وعملية الاقتراع، وأسباب هذا الانفصال التام وغير المتوقع بين الأحزاب والانتخابات كثيرة ومتعددة، منها الموضوعي الذي يتعلّق بعوامل خارجة عن إرادتها، ومنها الذاتي المتعلّق بأزمة الأحزاب الداخلية وعدم قدرتها على إعادة ترميم البيت الداخلي في ظل كل المستجدات التي مرّت بها بعد إعلان إجراءات 25 جويلية.
فراغ بعد غياب القادة ..
اتجه المزاج السياسي كليا بعد إعلان إجراءات 25 جويلية إلى تجاهل الأحزاب بشكل كامل وعدم إشراكها في الفعل السياسي، بل أن الرئيس قيس سعيد يتهم هذه الأحزاب وبشكل مباشر بأنها كانت السبب في تأزيم المشهد السياسي وفي ترذيله والعبث به وبإرادة الشعب الذي ينتخبها كل مرة.. ويبرر أنصار مسار 25 جويلية هذا الموقف السياسي بالمشهد البرلماني الذي كان سائدا قبل تفعيل الفصل 80 من الدستور والذهاب بالبلاد إلى مرحلة التدابير الاستثنائية، حيث بلغ التطاحن الحزبي تحت عناوين سياسية مختلفة، أشدّه، وهذا الصراع لا يمكن إنكار أنه أثّر على أداء الجهاز التنفيذي للدولة الذي عصفت به ولسنوات الصراعات الحزبية والسياسية ..
وهذه الأحزاب التي وجدت نفسها بعد 25 جويلية منبوذة ليس فقط من السلطة القائمة ولكن أيضا من الشارع والشعب الذي وقف على حياد في صراعها مع الرئيس قيس سعيد خلال الأشهر الأولى التي تلت إعلان التدابير الاستثنائية، حيث اختفى آلاف الأنصار والناخبين من الذين كانوا يدعمون هذه الأحزاب، وكانت مسيرات كل الأحزاب المعارضة والرافضة لمسار 25 جويلية لا تتعدّى بضعة آلاف ..
ولكن القشة التي قسمت ظهر هذه الأحزاب هو إيداع قادتها بالسجن بتهم مختلفة، أحزاب كبرى لها تاريخ وحضور قوي في المشهد قبل 25 جويلية مثل "حركة النهضة" و"الحزب الدستوري الحرّ" و"التيار الديمقراطي" و"الحزب الجمهوري" تم حبس رؤسائها وهذا الأمر ترك فراغا لم تستطع هذه الأحزاب تجاوزه ..
فـ"حركة النهضة" التي سجن رئيسها ومؤسسها راشد الغنوشي على خلفية عدة تهم تم توجيهها إليه لم تستطع تدارك الأمر خاصة وأن رجّة 25 جويلية عمّقت الشرخ داخلها حيث انشق أبرز قياداتها مثل عبد اللطيف المكي الذي أسس حزبا جديدا في حين اختارت قيادات أخرى الاختفاء تماما من المشهد، وحتى محاولات رأب الصدع التي أراد أن يقوم بها في البداية منذر الونيسي فشلت بعد سجنه، وتكرّر نفس الشيء مع العجمي الوريمي، الوجه النضالي المعروف داخل الحركة والذي تقلّد الأمانة العامة بعد سجن الونيسي إلا أن العجمي بدوره فشل في توحيد الصفوف وفي تجاوز الخلافات داخل الحزب وإعادته قويا كما كان، واليوم بعد سجنه، اختفت نهائيا كل أخبار الحزب وحضوره باستثناء بلاغات متفرقة تنشر على الصفحة الرسمية للحركة دون أي نشاط سياسي يذكر للحزب منذ مدة طويلة.. وعلى عكس كل المحطات الانتخابية السابقة حيث كان لـ"حركة النهضة" نفوذها وكلمتها، فإن حضورها في المسار الانتخابي الحالي بدا باهتا ودون تأثير رغم أن قواعد الحركة قامت بتزكية عدد من المترشحين ولعل أبرزهم عبد اللطيف المكي ..
وقد دعا الناطق باسم الحركة عماد الخميري إلى تزكية المترشحين، وذلك "لكسر الحاجز الذي تفرضه السلطة على الانتخابات"، وفق تعبيره.
أخبار "الحزب الدستوري الحرّ"، اختفت أيضا، بعد سجن رئيسته عبير موسي، فباستثناء بعض الندوات التي تعقدها لجنة الدفاع عن عبير موسي بمقر الحزب فانه لم تعد هناك نشطات تذكر لـ"الدستوري الحرّ"..، وفي علاقة بالانتخابات يصرّ أنصار الحزب وقياداته على ترشيح رئيسته عبير موسي التي لم تتمكن من سحب استمارة التزكية من هيئة الانتخابات بسبب وجودها في السجن وغياب توكيل خاصّ فرضته الهيئة للحصول على استمارة التزكية، ونفس الأمر ينطبق على الحزب الجمهوري الذي كان حضوره يختزل في حضور أمينه العام عصام الشابي حيث اختفت أخبار الحزب بشكل شبه كامل منذ سجن عصام الشابي .
وقد يكون حزب التيار الديمقراطي هو الاستثناء في هذا الركود الحزبي سواء كان بسبب الظروف القاهرة أو كخيار لتفادي الاصطدام مع السلطة، حيث أن سجن الأمين العام لحزب التيار غازي الشواشي لم يؤثر على أداء الحزب الذي ظلت هياكله المنظمة بشكل جيد من الداخل وحاضرة بقوة سواء من خلال حضور القيادات في الإعلام أو من خلال تنظيم عدة لقاءات حوارية تهتم بملفات سياسية واقتصادية واجتماعية وتطرح وجهة نظر الحزب من كل تلك الملفات، ولكن في علاقة بالسباق الانتخابي الحالي فإن "حزب التيار الديمقراطي" لم يدعم علنا أي مترشح ولم يحدّد موقفا واضحا من هذه الانتخابات رغم تنديده المستمر بسير العملية الانتخابية في مراحلها الأولى إلى حد الآن من ترشّح وتزكية وحصول على البطاقة عدد 3 ..
بدوره حزب "الاتحاد الشعبي الجمهوري" اختفت أخباره بعد سجن رئيسه لطفي المرايحي والكاتبة العامة للحزب، وقبل ذلك كان المرايحي قد أعلن عن نيته الترشّح للاستحقاق الرئاسي وبعد إيداعه بالسجن لم يعلن الحزب أي موقف جديد بخصوص هذه الانتخابات .
بالإضافة إلى كل ذلك هناك أحزاب مؤيدة لمسار 25 ولكنها اختارت خوض غمار الانتخابات مثل "حركة الشعب" التي رشّحت أمينها العام لهذا الاستحقاق الانتخابي .
المقاطعة.. خيار أم اضطرار
بعض الأحزاب وعلى رأسها "حزب العمال" اختارت مقاطعة الانتخابات القادمة واعتبارها انتخابات لا تجرى في ظروف انتخابية تتوفّر فيها شروط النزاهة والديمقراطية، حيث أكد الأمين العام لـ"حزب العمال"، حمة الهمامي، أن حزبه يرفض المشاركة في سباق انتخابي "لا يراعي مناخ الحريات ولا يحترم حظوظ بقية المترشحين المودع أغلبهم في السجن"، وفق تعبيره.
ولكن هذه المقاطعة أثارت بدورها ردود أفعال متباينة، حيث رأي البعض أن المقاطعة الآن ليس لها تأثير ولن تغيّر الوضع وأنها خيار مضطر من بعض القوى حتى تتفادى الإحراج السياسي وهي التي لا تملك عمقا شعبيا يؤهلها للمنافسة الانتخابية ..
بالنسبة لبقية الأحزاب فإن أغلبها انسحب من المشهد بهدوء واختفى دون أن يترك آثرا ودون أدنى موقف وفسح المجال السياسي لشخصيات دون سند حزبي أو بأحزاب هشة لا معنى لوجودها بعيدا عن الزعيم أو الرئيس المؤسس.. وهذا الانسحاب أو الركود الحزبي جعل مقومات المشهد السياسي تختلف وجعل اللعبة الديمقراطية وخاصة الانتخابية محصورة في الأشخاص وليس في الأحزاب، فرؤية وتفكير تلك الشخصيات السياسية هي من ستؤثث المشهد مستقبلا وليس توجهات الأحزاب وبرامجها .
منية العرفاوي
تونس- الصباح
سيطرت الأحزاب بشكل كامل على كل محطات الاستحقاق الانتخابي بعد الثورة، وحتى نتيجة الانتخابات الرئاسية في 2019 والتي باغتت الأحزاب وأطاحت بقيادات حزبية بارزة بعد فوز رئيس الجمهورية الحالي قيس سعيد دون أن يكون له حزب، لم تنف تأثير الأحزاب التي نزل بعضها بكل ثقله لحسم المعركة الانتخابية، وقتها، وخاصة في الدور الثاني من تلك الانتخابات .
إلا أن اللافت في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى بعد أسابيع قليلة هو الغياب شبه الكلّي للأحزاب عن العملية الانتخابية ككل بداية من تقديم مرشحين مرورا بتزكيتهم والقيام بالحملة الانتخابية وصولا إلى التصويت وعملية الاقتراع، وأسباب هذا الانفصال التام وغير المتوقع بين الأحزاب والانتخابات كثيرة ومتعددة، منها الموضوعي الذي يتعلّق بعوامل خارجة عن إرادتها، ومنها الذاتي المتعلّق بأزمة الأحزاب الداخلية وعدم قدرتها على إعادة ترميم البيت الداخلي في ظل كل المستجدات التي مرّت بها بعد إعلان إجراءات 25 جويلية.
فراغ بعد غياب القادة ..
اتجه المزاج السياسي كليا بعد إعلان إجراءات 25 جويلية إلى تجاهل الأحزاب بشكل كامل وعدم إشراكها في الفعل السياسي، بل أن الرئيس قيس سعيد يتهم هذه الأحزاب وبشكل مباشر بأنها كانت السبب في تأزيم المشهد السياسي وفي ترذيله والعبث به وبإرادة الشعب الذي ينتخبها كل مرة.. ويبرر أنصار مسار 25 جويلية هذا الموقف السياسي بالمشهد البرلماني الذي كان سائدا قبل تفعيل الفصل 80 من الدستور والذهاب بالبلاد إلى مرحلة التدابير الاستثنائية، حيث بلغ التطاحن الحزبي تحت عناوين سياسية مختلفة، أشدّه، وهذا الصراع لا يمكن إنكار أنه أثّر على أداء الجهاز التنفيذي للدولة الذي عصفت به ولسنوات الصراعات الحزبية والسياسية ..
وهذه الأحزاب التي وجدت نفسها بعد 25 جويلية منبوذة ليس فقط من السلطة القائمة ولكن أيضا من الشارع والشعب الذي وقف على حياد في صراعها مع الرئيس قيس سعيد خلال الأشهر الأولى التي تلت إعلان التدابير الاستثنائية، حيث اختفى آلاف الأنصار والناخبين من الذين كانوا يدعمون هذه الأحزاب، وكانت مسيرات كل الأحزاب المعارضة والرافضة لمسار 25 جويلية لا تتعدّى بضعة آلاف ..
ولكن القشة التي قسمت ظهر هذه الأحزاب هو إيداع قادتها بالسجن بتهم مختلفة، أحزاب كبرى لها تاريخ وحضور قوي في المشهد قبل 25 جويلية مثل "حركة النهضة" و"الحزب الدستوري الحرّ" و"التيار الديمقراطي" و"الحزب الجمهوري" تم حبس رؤسائها وهذا الأمر ترك فراغا لم تستطع هذه الأحزاب تجاوزه ..
فـ"حركة النهضة" التي سجن رئيسها ومؤسسها راشد الغنوشي على خلفية عدة تهم تم توجيهها إليه لم تستطع تدارك الأمر خاصة وأن رجّة 25 جويلية عمّقت الشرخ داخلها حيث انشق أبرز قياداتها مثل عبد اللطيف المكي الذي أسس حزبا جديدا في حين اختارت قيادات أخرى الاختفاء تماما من المشهد، وحتى محاولات رأب الصدع التي أراد أن يقوم بها في البداية منذر الونيسي فشلت بعد سجنه، وتكرّر نفس الشيء مع العجمي الوريمي، الوجه النضالي المعروف داخل الحركة والذي تقلّد الأمانة العامة بعد سجن الونيسي إلا أن العجمي بدوره فشل في توحيد الصفوف وفي تجاوز الخلافات داخل الحزب وإعادته قويا كما كان، واليوم بعد سجنه، اختفت نهائيا كل أخبار الحزب وحضوره باستثناء بلاغات متفرقة تنشر على الصفحة الرسمية للحركة دون أي نشاط سياسي يذكر للحزب منذ مدة طويلة.. وعلى عكس كل المحطات الانتخابية السابقة حيث كان لـ"حركة النهضة" نفوذها وكلمتها، فإن حضورها في المسار الانتخابي الحالي بدا باهتا ودون تأثير رغم أن قواعد الحركة قامت بتزكية عدد من المترشحين ولعل أبرزهم عبد اللطيف المكي ..
وقد دعا الناطق باسم الحركة عماد الخميري إلى تزكية المترشحين، وذلك "لكسر الحاجز الذي تفرضه السلطة على الانتخابات"، وفق تعبيره.
أخبار "الحزب الدستوري الحرّ"، اختفت أيضا، بعد سجن رئيسته عبير موسي، فباستثناء بعض الندوات التي تعقدها لجنة الدفاع عن عبير موسي بمقر الحزب فانه لم تعد هناك نشطات تذكر لـ"الدستوري الحرّ"..، وفي علاقة بالانتخابات يصرّ أنصار الحزب وقياداته على ترشيح رئيسته عبير موسي التي لم تتمكن من سحب استمارة التزكية من هيئة الانتخابات بسبب وجودها في السجن وغياب توكيل خاصّ فرضته الهيئة للحصول على استمارة التزكية، ونفس الأمر ينطبق على الحزب الجمهوري الذي كان حضوره يختزل في حضور أمينه العام عصام الشابي حيث اختفت أخبار الحزب بشكل شبه كامل منذ سجن عصام الشابي .
وقد يكون حزب التيار الديمقراطي هو الاستثناء في هذا الركود الحزبي سواء كان بسبب الظروف القاهرة أو كخيار لتفادي الاصطدام مع السلطة، حيث أن سجن الأمين العام لحزب التيار غازي الشواشي لم يؤثر على أداء الحزب الذي ظلت هياكله المنظمة بشكل جيد من الداخل وحاضرة بقوة سواء من خلال حضور القيادات في الإعلام أو من خلال تنظيم عدة لقاءات حوارية تهتم بملفات سياسية واقتصادية واجتماعية وتطرح وجهة نظر الحزب من كل تلك الملفات، ولكن في علاقة بالسباق الانتخابي الحالي فإن "حزب التيار الديمقراطي" لم يدعم علنا أي مترشح ولم يحدّد موقفا واضحا من هذه الانتخابات رغم تنديده المستمر بسير العملية الانتخابية في مراحلها الأولى إلى حد الآن من ترشّح وتزكية وحصول على البطاقة عدد 3 ..
بدوره حزب "الاتحاد الشعبي الجمهوري" اختفت أخباره بعد سجن رئيسه لطفي المرايحي والكاتبة العامة للحزب، وقبل ذلك كان المرايحي قد أعلن عن نيته الترشّح للاستحقاق الرئاسي وبعد إيداعه بالسجن لم يعلن الحزب أي موقف جديد بخصوص هذه الانتخابات .
بالإضافة إلى كل ذلك هناك أحزاب مؤيدة لمسار 25 ولكنها اختارت خوض غمار الانتخابات مثل "حركة الشعب" التي رشّحت أمينها العام لهذا الاستحقاق الانتخابي .
المقاطعة.. خيار أم اضطرار
بعض الأحزاب وعلى رأسها "حزب العمال" اختارت مقاطعة الانتخابات القادمة واعتبارها انتخابات لا تجرى في ظروف انتخابية تتوفّر فيها شروط النزاهة والديمقراطية، حيث أكد الأمين العام لـ"حزب العمال"، حمة الهمامي، أن حزبه يرفض المشاركة في سباق انتخابي "لا يراعي مناخ الحريات ولا يحترم حظوظ بقية المترشحين المودع أغلبهم في السجن"، وفق تعبيره.
ولكن هذه المقاطعة أثارت بدورها ردود أفعال متباينة، حيث رأي البعض أن المقاطعة الآن ليس لها تأثير ولن تغيّر الوضع وأنها خيار مضطر من بعض القوى حتى تتفادى الإحراج السياسي وهي التي لا تملك عمقا شعبيا يؤهلها للمنافسة الانتخابية ..
بالنسبة لبقية الأحزاب فإن أغلبها انسحب من المشهد بهدوء واختفى دون أن يترك آثرا ودون أدنى موقف وفسح المجال السياسي لشخصيات دون سند حزبي أو بأحزاب هشة لا معنى لوجودها بعيدا عن الزعيم أو الرئيس المؤسس.. وهذا الانسحاب أو الركود الحزبي جعل مقومات المشهد السياسي تختلف وجعل اللعبة الديمقراطية وخاصة الانتخابية محصورة في الأشخاص وليس في الأحزاب، فرؤية وتفكير تلك الشخصيات السياسية هي من ستؤثث المشهد مستقبلا وليس توجهات الأحزاب وبرامجها .