إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الكلاب التي أكلت لحمه حياً..

بقلم: سما حسن(*)

بكل ما في هذه الحياة من شرور، من الطبيعي أن نسمع عن الكلاب التي تنهش أجساد الموتى، ونقصد هنا الكلاب المتوحشة أو التي تدربت أو اعتادت على أكل لحوم بشر على خلاف طبيعتها، فهناك كلاب أليفة كتلك التي تستأنس في البيوت، أما الكلاب التي توظَّف لكي تكون بمنتهى الوحشية فهذه نراها في أفلام سينمائية يبتغي المخرج من ورائها جذب أكبر عدد من المشاهدين وهؤلاء الذين يحبون رؤية الدماء والمناظر المنافية للطبيعة، لكن الحروب استطاعت أن تحول الكلاب لكي تأكل فعلاً لحوم البشر، وقد رأينا ذلك في "إدلب" حيث ظهرت الكثير من المشاهد المؤلمة للجثث الملقاة في الوديان التي تنهشها الكلاب والذئاب، والمؤلم أن الكلاب خصوصاً حين تتذوق اللحم البشري للمرة الأولى وعلى غير طبيعتها فهي تتعود عليه وتبحث عنه لكي تلتهمه مرات ومرات، لذلك فالكلاب التي تنتشر إبان الحروب تكون خطرة على الأحياء البائسين، وحيث إنها حين تجوع فهي تهاجم الأحياء وتنهش لحومهم.

في مشهد مروّع ومأساة يجب أن تخلَّد ويقدم فَعلتُها للمحاكمة رأينا كلباً متوحشاً مدرباً من كلاب الجيش الإسرائيلي وهو يهاجم الطفل المصنف من ذوي الاحتياجات الخاصة في غزة واسمه "محمد بهار" وكيف أطلق الجنود الكلب المتوحش على الطفل وهو بلا حول أو قوة، بل انه لا يتكلم ولا يصرخ، وتقول أمه إنه لا يتحرك من فوق كرسيه المفضل في غرفة المعيشة، ولا يتنقل سوى بمساعدة أمه، لكنهم لم يرحموا عجزه، فداهموا البيت وأطلقوا الكلب على جسده المسالم، وفيما كان الكلب ينهش اللحم البشري كان باقي أفراد العائلة يغادرون البيت بـأوامر من الجنود، ورأت الأم بأُم عينها الكلب وهو يأكل ذراع طفلها وظلت تصرخ طلباً للنجدة، لكن أحداً لم يستطع إنقاذه، وحين طلبت من الجنود أن تصحبه مع باقي أفراد العائلة للمغادرة رفضوا تماماً وكأنهم كانوا يريدون الاستمتاع بأجمل الأفلام بالنسبة لهم وأفظعها بالنسبة لنا بلا ذرة من الرحمة آو الشفقة، فقد تجردوا من الإنسانية وتركوا هذا الطفل لمصير بائس حيث نهشه الكلب وهو حي.

تقول الأم أن ابنها محمد لم يكن يتكلم سوى كلمتين أو أكثر، ولكن حين هاجمه الكلب بدأ يتكلم لأول مرة في حياته وكان يحاول إبعاد الكلب عنه بصراخه، وحين استسلم له وهو ينهش لحمه قال له أكثر كلمة يمكن أن توجع إنساناً يعقل ويشعر حيث قال له: يا حبيبي خلص، وكأنه يستعطف ذلك الوحش أن يكتفي من لحمه الساخن الطازج، وحين لم يكتفِ بذلك ترك له ذراعه المتدلية من الأريكة لكي يتلذذ بأكلها ثم نهش باقي جسده حتى فارق الحياة.

الصور التي عرضها شقيق الطفل البريء محمد بهار لا يمكن وصف بشاعتها، ودماؤه التي لطخت الأثاث الأبيض اللون، والأريكة التي كان يجلس عليها الطفل محمد ويبدو آثار النهش عليها، ويدل ما حل بها على وحشية الكلاب وضراوتها وهي تهاجم الفتى المسكين تحت سمع وبصر كل هذا العالم المتفرج على أكبر مأساة تحدث في غزة.

 أكبر مأساة تحدث في غزة أن يموت الناس وهم أحياء، أن تأكل لحومهم الكلاب وأن يتعذبوا قبل أن يفارقوا الحياة، وأن يتلذذ العدو في تعذيبهم وفي التنكيل بهم ويستحدث ويخترع طرقاً وأساليب لكي لا يصلوا إلى الموت بسهولة.

ما حدث مع هذا الطفل لا يشبه أسوأ الكوابيس، ولا يشبه أكثر الأفلام دموية بهدف زيادة بيع التذاكر في شاشات السينما، ولا يشبه خيال أي مؤلف أو إبداع أي مخرج، فما حدث لهذا الطفل هو جريمة مع سبق الإصرار، الإصرار على موت الأبرياء واستغلال ضعفهم وقلة حيلتهم، واختيار أسوأ أنواع الموت وأبشعه لكي يقضّوا منام من يبقى حياً شاهداً على هذه المأساة، ولكي يتأكد أن الأحياء في غزة ليسوا أحياء بل أموات من هول ما رأوا وشاهدوا وعاشوا سواء لأنفسهم أو لأحبتهم، ورغم ذلك فالمأساة مستمرة والفاجعة والفقد لا يتوقفان، ولم يعد أمام من يملك ذرة ضمير سوى انتظار معجزة من السماء.

*كاتبة فلسطينية

 

 

الكلاب التي أكلت لحمه حياً..

بقلم: سما حسن(*)

بكل ما في هذه الحياة من شرور، من الطبيعي أن نسمع عن الكلاب التي تنهش أجساد الموتى، ونقصد هنا الكلاب المتوحشة أو التي تدربت أو اعتادت على أكل لحوم بشر على خلاف طبيعتها، فهناك كلاب أليفة كتلك التي تستأنس في البيوت، أما الكلاب التي توظَّف لكي تكون بمنتهى الوحشية فهذه نراها في أفلام سينمائية يبتغي المخرج من ورائها جذب أكبر عدد من المشاهدين وهؤلاء الذين يحبون رؤية الدماء والمناظر المنافية للطبيعة، لكن الحروب استطاعت أن تحول الكلاب لكي تأكل فعلاً لحوم البشر، وقد رأينا ذلك في "إدلب" حيث ظهرت الكثير من المشاهد المؤلمة للجثث الملقاة في الوديان التي تنهشها الكلاب والذئاب، والمؤلم أن الكلاب خصوصاً حين تتذوق اللحم البشري للمرة الأولى وعلى غير طبيعتها فهي تتعود عليه وتبحث عنه لكي تلتهمه مرات ومرات، لذلك فالكلاب التي تنتشر إبان الحروب تكون خطرة على الأحياء البائسين، وحيث إنها حين تجوع فهي تهاجم الأحياء وتنهش لحومهم.

في مشهد مروّع ومأساة يجب أن تخلَّد ويقدم فَعلتُها للمحاكمة رأينا كلباً متوحشاً مدرباً من كلاب الجيش الإسرائيلي وهو يهاجم الطفل المصنف من ذوي الاحتياجات الخاصة في غزة واسمه "محمد بهار" وكيف أطلق الجنود الكلب المتوحش على الطفل وهو بلا حول أو قوة، بل انه لا يتكلم ولا يصرخ، وتقول أمه إنه لا يتحرك من فوق كرسيه المفضل في غرفة المعيشة، ولا يتنقل سوى بمساعدة أمه، لكنهم لم يرحموا عجزه، فداهموا البيت وأطلقوا الكلب على جسده المسالم، وفيما كان الكلب ينهش اللحم البشري كان باقي أفراد العائلة يغادرون البيت بـأوامر من الجنود، ورأت الأم بأُم عينها الكلب وهو يأكل ذراع طفلها وظلت تصرخ طلباً للنجدة، لكن أحداً لم يستطع إنقاذه، وحين طلبت من الجنود أن تصحبه مع باقي أفراد العائلة للمغادرة رفضوا تماماً وكأنهم كانوا يريدون الاستمتاع بأجمل الأفلام بالنسبة لهم وأفظعها بالنسبة لنا بلا ذرة من الرحمة آو الشفقة، فقد تجردوا من الإنسانية وتركوا هذا الطفل لمصير بائس حيث نهشه الكلب وهو حي.

تقول الأم أن ابنها محمد لم يكن يتكلم سوى كلمتين أو أكثر، ولكن حين هاجمه الكلب بدأ يتكلم لأول مرة في حياته وكان يحاول إبعاد الكلب عنه بصراخه، وحين استسلم له وهو ينهش لحمه قال له أكثر كلمة يمكن أن توجع إنساناً يعقل ويشعر حيث قال له: يا حبيبي خلص، وكأنه يستعطف ذلك الوحش أن يكتفي من لحمه الساخن الطازج، وحين لم يكتفِ بذلك ترك له ذراعه المتدلية من الأريكة لكي يتلذذ بأكلها ثم نهش باقي جسده حتى فارق الحياة.

الصور التي عرضها شقيق الطفل البريء محمد بهار لا يمكن وصف بشاعتها، ودماؤه التي لطخت الأثاث الأبيض اللون، والأريكة التي كان يجلس عليها الطفل محمد ويبدو آثار النهش عليها، ويدل ما حل بها على وحشية الكلاب وضراوتها وهي تهاجم الفتى المسكين تحت سمع وبصر كل هذا العالم المتفرج على أكبر مأساة تحدث في غزة.

 أكبر مأساة تحدث في غزة أن يموت الناس وهم أحياء، أن تأكل لحومهم الكلاب وأن يتعذبوا قبل أن يفارقوا الحياة، وأن يتلذذ العدو في تعذيبهم وفي التنكيل بهم ويستحدث ويخترع طرقاً وأساليب لكي لا يصلوا إلى الموت بسهولة.

ما حدث مع هذا الطفل لا يشبه أسوأ الكوابيس، ولا يشبه أكثر الأفلام دموية بهدف زيادة بيع التذاكر في شاشات السينما، ولا يشبه خيال أي مؤلف أو إبداع أي مخرج، فما حدث لهذا الطفل هو جريمة مع سبق الإصرار، الإصرار على موت الأبرياء واستغلال ضعفهم وقلة حيلتهم، واختيار أسوأ أنواع الموت وأبشعه لكي يقضّوا منام من يبقى حياً شاهداً على هذه المأساة، ولكي يتأكد أن الأحياء في غزة ليسوا أحياء بل أموات من هول ما رأوا وشاهدوا وعاشوا سواء لأنفسهم أو لأحبتهم، ورغم ذلك فالمأساة مستمرة والفاجعة والفقد لا يتوقفان، ولم يعد أمام من يملك ذرة ضمير سوى انتظار معجزة من السماء.

*كاتبة فلسطينية