كم هو سهل ان يتحوٌل حلم شخص إلى مطلب شعبي
أشعر أحيانا أنني انتمي إلى جيل عاش ما يكفيه ليغادر دون أسف..عاش طويلا ويجب ان يكون في عداد الغابرين كي تتنفس الأرض وتتجدٌد..انتمي بكلٌ أسف وحرقة، إلى جيل ولد زمن الهزيمة ..زمن كان فيه آباؤنا يتجرٌعون مرارة الخيبة والهزيمة وهم يستمعون إلى جعجعة الخطب الكاذبة التي كانت توهم بالنصر وتغطٌي هزيمة فظيعة على الأرض. ومتأسف، إلى حدٌ الآن، لأني غفوت و لم أسال والدي- رحمه الله- إن كان بإنجابي سنة1967يريد ان يعلن انتصارا في زمن الهزيمة! ؟ الثابت أن جيلي حمل في جيناته لوثة هذه الهزيمة ولذلك اقول إن الفلسطينيين سيستعيدون أراضيهم بأيٌ شكل من الأشكال، وسينهار الكيان الغاصب عندما نرحل نحن-أبناء هذا الجيل- عن هذه الأرض ..سيجدون الانتصار حيث وجدنا الهزيمة. فقط عليهم أن يصبروا إلى أن نختفي فردا فردا حتى لا ننغص عليهم فرحتهم.
عشت صغيرا أحداث 78 في تونس لم أكن واعيا بما يجري لكن سمعنا من أحاديث الأهل أن الزعيم "بورقيبة" الذي أتى بالاستقلال سنة 1956وحمل على الأعناق دخل في صراع مع الاتحاد العام التونسي للشغل. وسقط في صراع الإخوة، أبرياء في معركة لا تعنيهم كانت أكبر من وعيهم. ثم سرعان ما نسينا ما جرى لأن المنتخب الوطني شارك في مونديال الأرجنتين 1978 وخرجنا صغارا نحتفي فرحا بالانتصار على المكسيك ومازلنا نتحسر إلى الآن ، وقد ابيض شعر الرأس ،على كرة اللاعب "تميم الحزامي" التي لم تتجاوز الخط النهائي للمرمى.. وكم كانت جدتي - رحمها الله - عظيمة عندما عاتبت "تميم" على رفع يديه إلى السماء لأن الله عندها غير موجود هناك في الأرجنتين فهو لا يغادر قريتها.!
سنة1980 اهتزت تونس المسالمة على وقع عملية عسكرية مسلٌحة في قْفصة.. "كومندوس" متدرٌب في ليبيا تسلٌل إلى ثكنة عسكرية في قفصة عبر الحدود الجزائرية بنيٌة السيطرة عليها أولا وإثارة البلبلة كي يثور الشعب ضد "بورقْيبة" وتُعلَن حكومة الثورة على غرار ما حدث في ليبيا.. أذكر أن إذاعة خارجية أطلقت على نفسها آنذاك اسم"إذاعة قفصة" اخترقت المجال السمعي التونسي وكنا نسمع التحريض على الثورة والعصيان وبقي شعار الإذاعة راسخا في ذهني"هنا قفصة صوت الحركة الثورية لتحرير تونس". وسمعنا حديثا عن "المرغني" قائد المجموعة وتابعنا اعترافات من قبض عليهم ومحاكمتهم. وانتهت الحكاية بانسحاب رئيس الحكومة"الهادي نويرة"وقدوم "محمد مزالي".
1982 سمعتُ همسا عن المعركة بين الإسلاميين واليسار في المركب الجامعي بتونس العاصمة.. معركة تبادل فيها الطلبة العنف بما اتيح لهم من سكاكين مطاعم الحكومة وملاعقها...ويبدو أن تداعيات هذه المعركة مازالت تلقي بظلالها على المشهد السياسي في تونس إلى الآن لأن زعماء التيارات السياسيٌة اليوم هم طلبة الأمس الذين اشهروا السكاكين في وجوه بعضهم البعض.
جانفي 1984 كنت تلميذا عندما اندلعت أحداث جانفي أو ما عرف بثورة الخبز لأن حكومة محمد مزالي ضاعفت سعر الخبز فخرج الناس ثائرين!. رأيت الجيش لأول مرة يغادر ثكناته ليرابط في الشوارع..نعم رأيت الجنود في قريتي يؤمّنون الطريق ويحرسون بعض المواقع.. ظنٌت جدتي - رحمها الله - لما رأت السيارات العسكرية تجوب القرية، وترابط في الطريق الوطنية رقم 1 أن "الجدرمية"عادوا وهي التي حدثتني عن حملات التفتيش عن السلاح التي كان يقوم بها "الفرنسيس" في القرية...لم أكن ساعتها واعيا بصراع الأجنحة داخل الحزب الحاكم..لقد مات أبرياء لأن خلافة بورقيبة كانت طموح كل المحيطين بالزعيم العجوز...
بعد سنتين، أفقنا ، وقد نما وعينا، على خبر هروب الوزير الأول "محمد مزالي" إلى الجزائر متنكرا. ويبدو أن فرار المرحوم "محمد مزالي" أشٌر لانتصار معسكر "وسيلة بورقيبة"داخل القصر. ثم انطلق مسلسل جنون التعيينات حيث كان بورقيبة يعيّن وزيرا في الصباح ثم يقيله في المساء.
في الأثناء أقدم الزعيم "الحبيب بورقْيبة" على فعل غير متوقع ...محرر المرأة الذي عسر امر الطلاق في تونس يطلٌق زوجته وسيلة في يوم ودون احترام إجراءات الطلاق التي كان يفتخر بأنه أقرها لضمان حقوق المرأة. وبطلاق وسيلة تحول بورقيبة الهرم إلى لعبة بين الضباع وأصبحت ابنة أخته الأمّية الحاكمة الفعلية يآزرها في ذلك "زين العابدين بن علي" وزير داخلية عسكري جاء من الصفوف الخلفية ثم تقدم إلى الصفوف الأولى حتى أصبح رئيسا للوزراء ومتحكما في خيوط اللعبة.
في سنة 86 كانت الجامعة كالمرجل تغلي لقد انطلق الإسلاميون في فرض وجودهم زمن الفراغ عبر مسلسل إضراب طويل أصاب الجامعة بالشلل...وبدأت المظاهرات في الشوارع. اتضح أن الجنرال الذي أصبح رئيسا للوزراء كان يقمعها في الظاهر لكنه كان يحركها في السرٌ ليكتمل مشروع القبض على كرسي السلطة. إذ كلما تازم الوضع امنيا ازدادت الحاجة إليه وتأكدت حتى أن بورقيبة الهرم سلٌم له في خطاب مشهور سلطة تأديب من يرى ضرورة تأديبه. وهو ما جعل بن علي آمرا ناهيا التقط فرصة التخلص من خصومه الذين يعرفون حقيقته.
سنة 1987 أينعت التينة فالتقطها "بن علي" قبل أن تسقط في أيدي من ظلّ ينتظرها لسنين. وانقلب على وليّ نعمته الذي قرّبه وامّنه على حياته بعد ان اطمأن على وضع رجاله في المناصب الحساسة. وظهر تقرير طبي كشف عن بلوغ بورقيبة مرحلة الخرف التي تجعله غير قادر على أداء مهامه. وقضت الدعاية بأن يبدو "بن علي" في صورة الابن البار لتونس الذي ضحى بحياته من أجلها. فهو لم يكن يبحث عن السلطة وإنما هي التي جاءته منقادة تجرّ اذيالها!. وكم هو سهل ان يتحول حلم شخص إلى مطلب شعبي. فتحركت الجموع التي كانت تهتف"يحيا بورقيبة" وذهبت لمبايعته رافعة شعار "بالروح بالدم نفديك يا زين" وأصبح الجنرال الذي كان يؤتى به لقمع المظاهرات "منقذ تونس" و"ابنها البار"و"حامي الحمى والدين" وبعد فسحة بسنتين او اقل كشر الجنرال عن أنيابه وغيّر اسم حزب بورقيبة وأصبح الحاكم الأوحد الذي لا تشرق شمس تونس إلا بأمره
وانطلق مسلسل كسر العظام بين نظام "بن علي" والإسلاميين ومداره على السلطة. الإسلاميون رحبوا بقدومه خاصة وانه عفا عن قادتهم ودعا إلى صفحة جديدة وأسلمت التلفزة على يديه برفع الأذان ونقل خطبة الجمعة واعتماد الرؤية لتحديد شهر رمضان. وبحثوا عن نصيب لهم من الكعكة. وبن علي كان متعطشا للسلطة فرفض أن يشاركه فيها احد. وقضت الصفقة أثناء المحرقة أن يخرج القادة وان تلحق بهم زوجاتهم. وبقي المساكين البسطاء'الفقراء من الإسلاميين وحدهم في العراء يواجهون بطش السلطة.
2011 وبعد 24 سنة من الحكم غادر "بن علي" تونس في طائرة معلومة الوجهة ، ليمسك السلطة خصومه وليثبتوا أن صراعهم معه لم يكن من أجل إرساء نظام ديمقراطي يقطع مع الاستبداد والظلم بل من أجل التنعم بأطايب الحكم. ودخلت البلاد في مسلسل آخر من الصراع والتناحر على الكرسي . وعربدت عصابات حماية الثورة ولعلع رصاص الإرهاب ووفد التتار يبشرون بفتح جديد لتونس الكافرة!!.وسرعان ما انطلقت معركة الانتخابات النزيهة الشفافة التي حسدنا عليها العالم .وبدا التونسيون دون خجل يكشفون عن أصابعهم المطلية بحنٌاء الانتخابات وينقلون صورهم وهم في مراكز الاقتراع بكل حرية كالدول المتطورة. وحسدنا العالم على نعمة الانتخابات والمناظرات التلفزية والخطب الحماسية في الشوارع!. وانتهى التلاسن بين الحكام الجدد من جماعة "الشعب مسلم ولا يستسلم"و"المؤتمر لحمو مُرْ" وبين بقايا الحكام القدامى عناقا وأحضانا في باريس التي لا تغيب عن أيّ طعام يُعد في المطبخ التونسي حتى أن الشيخ راشد بشٌر بميلاد طائر جديد جناحاه النهضة والنداء. ثم حدث الذي حدث ودخلت البلاد مرحلة "قيس سعيٌد"...
ألا تكفي كل هذه الأحداث التي استنزفت أنفاسي بمجرد تدوينها، لتثبت أني عشت ما يكفي واني مع أبناء جيلي، ديناصور في بقائي ..كل هذه الأحداث التي يشيب لها الرأس مرت أمامي وأثٌثت سنوات عمري...ولا أظن أن العمر سيسمح بأن أرى فيلما جديدا ستفاجئني أحداثه او نهايته... ها انا ، وقد ابيض شعر الرأس، وتعب الطين الذي يحتويني، أدعو سائق القطار إلى أن يتوقف ..لقد بلغت المحطة...
محمد صالح مجيٌد /كاتب تونسي