توجه تونس في الأشهر الأخيرة نحو آسيا يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح
واضح ان تونس قد اتخذت في الفترة الأخيرة قرارا بأن تكون أكثر وضوحا في إبراز موقفها من تعدد الشراكات الذي تطرح عليها منذ عقود. التوجه نحو إبداء الوضوح يأتي بعد سنوات من التردد الذي أملته حسابات واعتبارات تأكدت عدم وجاهة أغلبها. ذلك أن موقع تونس إلى جانب محدودية مواردها الطبيعية وثراء العنصر البشري لديها تمثل عوامل تفرض عليها الانخراط في شراكات متنوعة ومتعددة . وهناك عامل آخر يدفع في هذا الاتجاه ويتمثل في أن الإنسانية قد أصبحت متاكدة أن العولمة الأحادية القطب لا يمكن أن تذهب بها بعيدا في طريق التقدم الحقيقي وتكريس الاختلاف الثقافي والحضاري لأنها ليست إلا أداة لفرض رغبة أقلية في فرض هيمنتها على الأغلبية ولأنها لا يمكن إلا أن تقود نحو العنف والحروب وعودة الاستعمار المباشر.
من هذه الزاوية فإن توجه تونس في الأشهر الأخيرة نحو آسيا يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح لعدة اعتبارات. ذلك أن آسيا تعتبر حاليا قارة الطفرة والنمو وهو ما يتأكد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حد الآن. فتحت اليابان باب "المعجزة الآسيوية " في تخطي هزائم الحرب العالمية الثانية وفي الخروج من التخلف وتقديم نموذج في التنمية والتقدم يمكن الاستلهام منه . أعقبت اليابان اندونيسيا وكوريا الجنوبية وماليزيا وأصبحت جمهورية الصين الشعبية التجسد الأخير لتطور كاسح ولافت. أثبتت التجارب أن هناك نقاط اختلاف بينها من حيث السياق والخلفية الإيديولوجية ولكن لها نقاط التقاء في مستوى ديناميكيتها الثقافية وأيضا في علاقة بالمجتمعات والثقافات الأخرى وخاصة الثقافتين العربية والإفريقية. قامت هذه التجارب على تثمين الثقافة التقليدية وصهرها في مشروع حداثي وهو ما تجسد بشكل واضح في مبادئ " البانشاسيلا" في التجربة الاندونيسية . وما لا يقل أهمية عن استرداد مكونات الثقافة الوطنية والتقليدية هو أن العلاقة بين "نمور آسيا " وإفريقيا والدول العربية تخلو من إرث استعماري وتغيب عنها ، إلى حد كبير، النظرة الاستعلائية والفوقية .
ولا شك أن نجاح تونس في شراكاتها الجديدة يمثل رهانا مجتمعيا بكل ما في الكلمة من معان نظرا لحاجة بلادنا إلى تجاوز حالة التراجع التي تعيشها منذ سنوات في مختلف مناحي التنمية من جهة ولما تتيحه الشراكة مع "النمور الآسيوية " من إمكانات وما توفره من فرص. ويكفي النظر لما يتحقق في علاقات التعاون بين تونس والصين الشعبية وكوريا الجنوبية وجمهورية اندونيسيا للتأكد من ذلك. وفي سياق التفكير في أفق تطوير علاقات تونس الآسيوية من المهم النظر إلى أمرين يكشفان الديناميكية الداخلية للمجتمعات التي نسعى لأن نطور معها علاقاتنا الاقتصادية والثقافية . العنصر الأول هو في مستوى تاريخ هذه المجتمعات خاصة القريب منه وأما العنصر الثاني فيتمثل في ديناميكية العلاقات بين أهم الدول الآسيوية وما تعكسه هذه الديناميكية من حراك يعيشه كل مجتمع على انفراد.
يمكن الانطلاق عند الحديث عن العنصر الأول من صدمة الحرب العالمية الثانية وما تركته في وجدان وذاكرة الشعوب الآسيوية من ندوب وخدوش .غالبا ما يقع التركيز على ما أصاب الشعب الياباني من آلام إثر استهدافه من القوات الأمريكية بالسلاح النووي وبدرجة أقل بما عاناه الشعب الكوري من ويلات نتيجة ممارسات الاستعمار الياباني إلى جانب ما نال الوحدة الوطنية الصينية من استهداف بعد انشقاق تايوان. ولكن هناك حدث لا يقل أهمية عن المحطات التي ذكرنا وظلت انعكاساته فاعلة إلى حد الآن، ومن الصدف أننا نحيي هذه الأيام ذكراه ، ويتمثل في هجوم ميليشيات من شمال كوريا يوم 25 جوان 1945 على جنوبها .كان الحدث أول رسالة على أن النظام العالمي الجديد الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، والذي يقوم على ثنائية قطبية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي ، لن يجلب السلام بل ستكون له حروبه خاصة وأن الميليشيات التي أتت من شمال كوريا وكان يقودها كيم جونج إيل كانت تحظى بدعم سوفياتي واضح. كانت الحرب بين أبناء الشعب الواحد قاسية ومدمرة وانتهت بفرض تقسيم الأمة الكورية إلى جمهوريتين اتخذت كل واحدة منها مسارا مختلفا عن الآخر. ورغم مرور عقود من الزمن فإنه لم يكن بالإمكان نزع فتيل التوتر من شبه الجزيرة الكورية خاصة وأن كوريا الشمالية قد اختارت الاعتماد على التسليح واتجهت نحو الأسلحة النووية والبيولوجية. ووظفت بوينغ-يانغ هذا التوجه لممارسات تهديد متواصل على جارتها الجنوبية التي تجد في التصدي لهذه التهديدات مساندة من الغالبية القصوى لدول المعمورة. وتستند هذه المساندة إلى قيم الشرعية الدولية والخشية من أن تشهد شبه الجزيرة الكورية مواجهات مسلحة تكون تداعياتها خطيرة على المنطقة وعلى العالم . ويبدو ان جمهورية الصين الشعبية قد أدركت في السنوات الأخيرة هذه المعطيات وهو ما جعلها تقلص من دعمها لجمهورية كوريا الشمالية وتنفتح أكثر على كوريا الجنوبية. وهنا يتعين الإشارة إلى أهمية القمة الثلاثية التي انعقدت مؤخرا وجمعت اليابان والصين الشعبية وكوريا الجنوبية. هذه القمة هي بالأساس تحرك لتكريس السلام والتعاون بين شعوب آسيا وهي أيضا تصور للتمسك بالتنمية ولعدم جر القارة الآسيوية إلى تداعيات الحرب المدمرة بين روسيا وأوكرانيا. الرسالة الثلاثية يمكن اعتبارها تفاعلا مع التقارب بين موسكو وبيونغ-يانغ والذي تجسد في الزيارة التي أداها مؤخرا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية. زيارة طغت على مخرجاتها قرارات ذات أبعاد عسكرية وهو ما خلق حالة توتر في المنطقة ستكون لها بكل تأكيد تداعيات خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تضغط على كوريا الشمالية . وبعيدا عن الشعارات والإسقاط ، واستنادا إلى معطيات موضوعية ، فإن تجاوز التوتر بين سيول وبيونغ-يانغ هو أمر ضروري ولكنه صعب التحقق في المدى القريب على الأقل. هنا يتعين الاحتكام إلى المعطيات الموضوعية التي تؤكد أن النظام في كوريا الشمالية مدعو لأن يعيد النظر في سياساته تجاه كوريا الجنوبية والتي تقوم على التهديد باللجوء للسلاح بما في ذلك السلاح النووي إلى جانب اعتماد القرصنة الإلكترونية وملاحقة اللاجئين الكوريين-الشماليين في كوريا الجنوبية وتهديدهم في حياتهم . في المقابل من المفيد التذكير بأن كوريا الجنوبية هي حاليا المزود الثالث لتونس بالتجهيزات والمعدات وأنها تشهد تحولات قد تبدو بطيئة ولكنها مهمة في تموقعها في العالم. يكفي أن نشير إلى احتضان سيول منذ أيام لقمة كوريا الجنوبية-إفريقيا وإعادة سيول لعلاقاتها الدبلوماسية مع سوريا إلى جانب إقامة علاقات دبلوماسية مع كوبا .في مستوى الرأي العام الشعبي الكوري يكفي التذكير بأن عددا من الناشطين في كوريا الجنوبية قد رفعوا مؤخرا قضية لدى المحاكم الكورية ضد نتانياهو وعدد من قادة الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب. هذه الدعوى ستكون لها تبعاتها الفعلية في تقريب كوريا الجنوبية من القضايا العربية وهو توجه يتعين دعمه .عامل آخر من الضروري أخذه بعين الاعتبار ويتمثل في وجود تقارب ، ولو بخطوات بطيئة وغير مرئية للكثيرين، بين سيول وبيكين ....تقارب يدعونا لأن نقرأ دلالاته وتبعاته بكل دقة وبهدوء ولا نرى ذلك صعبا على الدبلوماسية التونسية.
آية العماري. جمعية تونس المبادرة للتنمية
توجه تونس في الأشهر الأخيرة نحو آسيا يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح
واضح ان تونس قد اتخذت في الفترة الأخيرة قرارا بأن تكون أكثر وضوحا في إبراز موقفها من تعدد الشراكات الذي تطرح عليها منذ عقود. التوجه نحو إبداء الوضوح يأتي بعد سنوات من التردد الذي أملته حسابات واعتبارات تأكدت عدم وجاهة أغلبها. ذلك أن موقع تونس إلى جانب محدودية مواردها الطبيعية وثراء العنصر البشري لديها تمثل عوامل تفرض عليها الانخراط في شراكات متنوعة ومتعددة . وهناك عامل آخر يدفع في هذا الاتجاه ويتمثل في أن الإنسانية قد أصبحت متاكدة أن العولمة الأحادية القطب لا يمكن أن تذهب بها بعيدا في طريق التقدم الحقيقي وتكريس الاختلاف الثقافي والحضاري لأنها ليست إلا أداة لفرض رغبة أقلية في فرض هيمنتها على الأغلبية ولأنها لا يمكن إلا أن تقود نحو العنف والحروب وعودة الاستعمار المباشر.
من هذه الزاوية فإن توجه تونس في الأشهر الأخيرة نحو آسيا يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح لعدة اعتبارات. ذلك أن آسيا تعتبر حاليا قارة الطفرة والنمو وهو ما يتأكد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حد الآن. فتحت اليابان باب "المعجزة الآسيوية " في تخطي هزائم الحرب العالمية الثانية وفي الخروج من التخلف وتقديم نموذج في التنمية والتقدم يمكن الاستلهام منه . أعقبت اليابان اندونيسيا وكوريا الجنوبية وماليزيا وأصبحت جمهورية الصين الشعبية التجسد الأخير لتطور كاسح ولافت. أثبتت التجارب أن هناك نقاط اختلاف بينها من حيث السياق والخلفية الإيديولوجية ولكن لها نقاط التقاء في مستوى ديناميكيتها الثقافية وأيضا في علاقة بالمجتمعات والثقافات الأخرى وخاصة الثقافتين العربية والإفريقية. قامت هذه التجارب على تثمين الثقافة التقليدية وصهرها في مشروع حداثي وهو ما تجسد بشكل واضح في مبادئ " البانشاسيلا" في التجربة الاندونيسية . وما لا يقل أهمية عن استرداد مكونات الثقافة الوطنية والتقليدية هو أن العلاقة بين "نمور آسيا " وإفريقيا والدول العربية تخلو من إرث استعماري وتغيب عنها ، إلى حد كبير، النظرة الاستعلائية والفوقية .
ولا شك أن نجاح تونس في شراكاتها الجديدة يمثل رهانا مجتمعيا بكل ما في الكلمة من معان نظرا لحاجة بلادنا إلى تجاوز حالة التراجع التي تعيشها منذ سنوات في مختلف مناحي التنمية من جهة ولما تتيحه الشراكة مع "النمور الآسيوية " من إمكانات وما توفره من فرص. ويكفي النظر لما يتحقق في علاقات التعاون بين تونس والصين الشعبية وكوريا الجنوبية وجمهورية اندونيسيا للتأكد من ذلك. وفي سياق التفكير في أفق تطوير علاقات تونس الآسيوية من المهم النظر إلى أمرين يكشفان الديناميكية الداخلية للمجتمعات التي نسعى لأن نطور معها علاقاتنا الاقتصادية والثقافية . العنصر الأول هو في مستوى تاريخ هذه المجتمعات خاصة القريب منه وأما العنصر الثاني فيتمثل في ديناميكية العلاقات بين أهم الدول الآسيوية وما تعكسه هذه الديناميكية من حراك يعيشه كل مجتمع على انفراد.
يمكن الانطلاق عند الحديث عن العنصر الأول من صدمة الحرب العالمية الثانية وما تركته في وجدان وذاكرة الشعوب الآسيوية من ندوب وخدوش .غالبا ما يقع التركيز على ما أصاب الشعب الياباني من آلام إثر استهدافه من القوات الأمريكية بالسلاح النووي وبدرجة أقل بما عاناه الشعب الكوري من ويلات نتيجة ممارسات الاستعمار الياباني إلى جانب ما نال الوحدة الوطنية الصينية من استهداف بعد انشقاق تايوان. ولكن هناك حدث لا يقل أهمية عن المحطات التي ذكرنا وظلت انعكاساته فاعلة إلى حد الآن، ومن الصدف أننا نحيي هذه الأيام ذكراه ، ويتمثل في هجوم ميليشيات من شمال كوريا يوم 25 جوان 1945 على جنوبها .كان الحدث أول رسالة على أن النظام العالمي الجديد الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، والذي يقوم على ثنائية قطبية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي ، لن يجلب السلام بل ستكون له حروبه خاصة وأن الميليشيات التي أتت من شمال كوريا وكان يقودها كيم جونج إيل كانت تحظى بدعم سوفياتي واضح. كانت الحرب بين أبناء الشعب الواحد قاسية ومدمرة وانتهت بفرض تقسيم الأمة الكورية إلى جمهوريتين اتخذت كل واحدة منها مسارا مختلفا عن الآخر. ورغم مرور عقود من الزمن فإنه لم يكن بالإمكان نزع فتيل التوتر من شبه الجزيرة الكورية خاصة وأن كوريا الشمالية قد اختارت الاعتماد على التسليح واتجهت نحو الأسلحة النووية والبيولوجية. ووظفت بوينغ-يانغ هذا التوجه لممارسات تهديد متواصل على جارتها الجنوبية التي تجد في التصدي لهذه التهديدات مساندة من الغالبية القصوى لدول المعمورة. وتستند هذه المساندة إلى قيم الشرعية الدولية والخشية من أن تشهد شبه الجزيرة الكورية مواجهات مسلحة تكون تداعياتها خطيرة على المنطقة وعلى العالم . ويبدو ان جمهورية الصين الشعبية قد أدركت في السنوات الأخيرة هذه المعطيات وهو ما جعلها تقلص من دعمها لجمهورية كوريا الشمالية وتنفتح أكثر على كوريا الجنوبية. وهنا يتعين الإشارة إلى أهمية القمة الثلاثية التي انعقدت مؤخرا وجمعت اليابان والصين الشعبية وكوريا الجنوبية. هذه القمة هي بالأساس تحرك لتكريس السلام والتعاون بين شعوب آسيا وهي أيضا تصور للتمسك بالتنمية ولعدم جر القارة الآسيوية إلى تداعيات الحرب المدمرة بين روسيا وأوكرانيا. الرسالة الثلاثية يمكن اعتبارها تفاعلا مع التقارب بين موسكو وبيونغ-يانغ والذي تجسد في الزيارة التي أداها مؤخرا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية. زيارة طغت على مخرجاتها قرارات ذات أبعاد عسكرية وهو ما خلق حالة توتر في المنطقة ستكون لها بكل تأكيد تداعيات خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تضغط على كوريا الشمالية . وبعيدا عن الشعارات والإسقاط ، واستنادا إلى معطيات موضوعية ، فإن تجاوز التوتر بين سيول وبيونغ-يانغ هو أمر ضروري ولكنه صعب التحقق في المدى القريب على الأقل. هنا يتعين الاحتكام إلى المعطيات الموضوعية التي تؤكد أن النظام في كوريا الشمالية مدعو لأن يعيد النظر في سياساته تجاه كوريا الجنوبية والتي تقوم على التهديد باللجوء للسلاح بما في ذلك السلاح النووي إلى جانب اعتماد القرصنة الإلكترونية وملاحقة اللاجئين الكوريين-الشماليين في كوريا الجنوبية وتهديدهم في حياتهم . في المقابل من المفيد التذكير بأن كوريا الجنوبية هي حاليا المزود الثالث لتونس بالتجهيزات والمعدات وأنها تشهد تحولات قد تبدو بطيئة ولكنها مهمة في تموقعها في العالم. يكفي أن نشير إلى احتضان سيول منذ أيام لقمة كوريا الجنوبية-إفريقيا وإعادة سيول لعلاقاتها الدبلوماسية مع سوريا إلى جانب إقامة علاقات دبلوماسية مع كوبا .في مستوى الرأي العام الشعبي الكوري يكفي التذكير بأن عددا من الناشطين في كوريا الجنوبية قد رفعوا مؤخرا قضية لدى المحاكم الكورية ضد نتانياهو وعدد من قادة الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب. هذه الدعوى ستكون لها تبعاتها الفعلية في تقريب كوريا الجنوبية من القضايا العربية وهو توجه يتعين دعمه .عامل آخر من الضروري أخذه بعين الاعتبار ويتمثل في وجود تقارب ، ولو بخطوات بطيئة وغير مرئية للكثيرين، بين سيول وبيكين ....تقارب يدعونا لأن نقرأ دلالاته وتبعاته بكل دقة وبهدوء ولا نرى ذلك صعبا على الدبلوماسية التونسية.