إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

العميد الصادق بلعيد لـ"الصباح": كان أجدر برئيس الجمهورية تطبيق الفصلين71 و72 وليس الفصل 80

 

تونس – الصباح

تحدث العميد الصادق بلعيد عن الوضع الراهن وعن علاقته بقيس سعيد وموقفه من مستجدات المرحلة خاصة  بعد أن عبر عن ارتياحه لما جاء في 25 جويلية وما لحقه من قرارات وأوامر رئاسية بما في ذلك تعيين رئيسة حكومة. وفسر سبب تأكيده على أن سعيد أخطأ في تطبيق الفصل 80 عوضا عن الفصلين 71 و72 . ونزلها في إطار الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلاد من حافة الانهيار، وحمّل مسؤولية ما يحصل في تونس اليوم من فوضى وترد وأزمات إلى منظومة فاشلة وفاسدة بقيادة حركة النهضة ومن وصفهم بعملائها واعتبر لقاء الشيخين الراحل الباجي والغنوشي ووضعهما اليد في اليد في توافق وصفه بالمؤامرة والخيانة، المنقذ للنهضة في تلك الفترة. وعبر عن استغرابه من عودة بعض السياسيين إلى المشهد اليوم رغم إجرامهم في حق المواطن والوطن من بينهم مصطفى بن جعفر ومنصف المرزوقي.

وتطرق بلعيد في حديثه لـ"الصباح" إلى المشاغل الدستورية والقانونية والسياسية والاجتماعية وعديد المسائل الأخرى في الحوار التالي:

*لننطلق بالحديث عن آخر المستجدات الصادرة عن قصر قرطاج وما أثارته من جدل بعد تعيين نجلاء بودن رئيسة للحكومة، هل هي وزيرة أولى أم رئيسة حكومة؟

اعتقد أن أعداء الإصلاح والمرحلة ومن تعودوا على التسلل بين مفاصل الدولة ونهش ثرواتها هم من يسعون لإثارة مثل هذا الجدل، لأن نجلاء بودن هي رئيسة حكومة فعلية بما تحيل إليه التسمية من مهام. ثم أن عملها في هذه المرحلة الصعبة يقتضي أن يكون في انسجام مع مؤسسة رئاسة الجمهورية رفقة فريقها الحكومي الذي سيتم اختياره. لأن الوضع في تونس اليوم يتطلب تكاتف جميع المسؤوليات والجهود وليس البحث عمن يحكم ومن يتخذ القرار.

*ما هي قراءتك لهذا التعيين؟

أعتبر تعيين امرأة وخاصة هذه السيدة الجامعية المقتدرة كان "ضربة معلم" استطاع قيس سعيد من خلاله إلجام عديد الأفواه وغلق أبواب التشكيك والرافعين لفزاعة تهديد الحريات والديكتاتورية والنظام الإسلاموي. والأمر لا يقتصر على الداخل التونسي فحسب وإنما في الخارج أيضا خاصة أمام سعي بعض الجهات السياسية لتشويه حراك 25 جويلية وهذه التجربة التونسية الجديدة التي من شأنها أن تعيد جانبا من الاعتبار للدولة بعد حالة الإنهاك وشبه الإفلاس على جميع المستويات الذي أصبحت عليه بعد حكم منظومة فاشلة وفاسدة طيلة العشر سنوات الأخيرة.

*هل بتعيين بودن خرجت تونس من مرحلة الاستثناء إلى المؤقت مثلما تذهب إلى ذلك بعض القراءات؟

نحن اليوم في عمق الوضع الاستثنائي من منظور رئيس الدولة الماسك بزمام الأمور ولكن لكل وجهة نظره والزاوية الضيقة المحددة لتقييمه. وقد أكد قيس سعيد على ذلك عند إعلان تعيينها ثم أن بقاءها في الحكم مرتبط بالمرحلة الاستثنائية وليس ببقاء الرئيس في الحكم.

* هل تشاطر الرأي القائل أن المسيرة السياسية مهمة لنجاح منظومة الحكم وأن الأكاديمي والجامعي "غير المسيس" فاشل بالضرورة؟

نحن كجامعيين لسنا سياسيين نفكر في السياسية ونتعاطها بطريقة نيرة وعلمية. ثم أن الأحزاب السياسوية ثبت أنها فاسدة بالضرورة خاصة في ظل القانون الانتخابي الحالي.

*       باعتبار أنك تعد من بين المقربين من قرطاج، هل يمكن أن تعطينا الخطوط العريضة لبرنامج المرحلة القادمة لسياسة رئيس الجمهورية؟

صحيح أنه تمت استشارتي من قبل رئيس الجمهورية رفقة بعض زملائي، وأنا لست فاعلا على النحو الذي ذكرته، ثم أنه وفق الأمر 117 تم التأكيد على أنه سيتم تكوين لجنة يستعين بها رئيس الجمهورية في إعداد مشاريع والتعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية. ثم أني لا أعرف شيئا في الغرض حاليا.  وكل ما في الأمر أني أساند بقوة حركة 25 جويلية وكل ما قام به قيس سعيد من خطوات لتصحيح المسار إلى حد الآن وأدعو التونسيين للوقوف إلى جانب هذا المشروع الإصلاحي ليقيني انه سيعود بالفائدة على الجميع بعيدا عن الشيطنة والتقزيم والعرقلة.

*       هل تعني أن رئيس الجمهورية على يقين واستعداد لمساعي عرقلة مشروعه؟

بكل تأكيد، وكلنا يعلم ما يقوم به اليوم بعض السياسيين الفاشلين الذي كانوا سببا في انهيار الدولة وضرب المنظومة الاجتماعية وتردي الأوضاع من محاولات لتقسيم التونسيين وتحريك النعرات الجهوية والقطاعية وغيرها، وهي سوف لن تستكين ويهدأ لها بال إلا بمواصلة سياسة الهدم ،لأنه ليس من صالحها إصلاح وضع البلاد وتحسين أوضاع شريحة من المواطنين. وأنا اخترت توجيه رسالتي إلى المواطنين وشرفاء هذا الوطن لأنهم يمكن أن يكونوا جزءا من الحل في المرحلة القادمة بعدم الانسياق وراء سياسة استعمالهم وقودا في معركة لا خاسر فيها سوى هم والوطن.

*       لنعد للحديث عن 25 جويلية وسجال الفصل 80، ما هو رأيك في المنحى الذي اختاره سعيد؟

في الحقيقة أرى أنه كان أجدر برئيس الجمهورية تطبيق الفصلين 71 و72 وليس الفصل 80 كان الأمر أيسر بالنسبة له. لأنه في تقديري لو طبق هذين الفصلين، حيث ينص الأول "يمارس السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية وحكومة يرأسها رئيس الحكومة". والفصل 72 – "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور" ليكون الفصل 80 ثانويا حيث البرلمان والحكومة آليات لدى رئيس الجمهورية. لأن ما جاء فيهما يتجاوز ما جاء في الأخير نظرا للوضع الخطير الذي أصبحت عليه البلاد من خطر الإفلاس والانفجار الاجتماعي والوضع الصحي المتردي والانهيار المحدق بالدولة مقابل توسع دائرة الفساد واللوبيات المتحكمة في مفاصل الدولة، بما يجعله يختزل عديد المسافات والإشكاليات. لأنه بذلك كان أمكن له الخروج عن الفوضى الحالية وحال دون إعطائهم فرصة  مجانية للتجاذبات والمؤامرات والهجومات التي شنها الكثير من أتباع الغنوشي.

*       ولكن البعض يعتبر أن الأمر 117 تأكيد للخروج عن السياق الدستوري وتجميده، ما هي قراءتك للمسألة؟

صحيح هناك من يشكك في دستورية ما قام به قيس سعيد في 25 جويلية ثم بعد إصدار الأمر الرئاسي يوم 22 سبتمبر المنقضي عمق هذا الجدل. ولكن في كل الحالات لا أرى خروجا عن الدستور. ولكن الشق المضاد يفسر وفق وجهة نظره وتفكيره لحماية مصالحه وصلاحياته لا غير. لذلك أرى من زاوية ما يجب أن يقوم به رئيس الجمهورية للخروج من الأزمة والمرحلة وإصلاح ما افسد.

*       كيف يمكن إصلاح الوضع إذن؟

هناك نظريتان في علوم السياسة: الأولى تتمثل في التأسيس وإعادة النظر وفق أسس علمية واقعية والثانية تكتفي بالترقيع والتعديل. والحقيقة هي أن بعض الساسة اليوم يدافعون عن دستور 2014 كأنه قرآن منزل لا يجب المساس به في حين أن الدفاع المستميت هذا الهدف منه ضمان مصالحهم والحفاظ عليها. لذلك إصلاح الوضع يتطلب القطع مع هذا الدستور لأنه لا يستجيب في تفاصيله وأهدافه لمتطلبات المرحلة والعصر والدولة.

*هل تعني أنك مع كتابة دستور جديد؟

لست وحدي من يقول هذا بل جل التونسيين من مختصين في القانون الدستوري وسياسيين وغيرهم يجمعون على ذلك. لأن دستور 2014 الذي كلف الدولة هدرا للمال العمومي وإضاعة للوقت والجهد في كتابة دستور الجمهورية الثانية، أسفر عن تقديم نفس "الدستور الصغير" الذي تم اعتماده سنة 2011 لتنظيم السلط والخروج من المرحلة الانتقالية مع الاكتفاء ببعض التفاصيل والنقاط الملغزة والمبهمة التي لا تخدم سوى مشروع النهضة. لأن القرار النهائي والسلطة الحاكمة هي مجلس الشورى وما تقرره اجتماعات منبليزير وليس البرلمان. وهذا الدستور لا يمكن فهمه إلا بالعودة إلى التاريخ. لأن هذا الدستور وضع كل السلط مجمعة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بين أيدي حرك النهضة لتمارس صلاحياتها كاملة على السلطتين التنفيذية والتشريعية منذ 2011 إلى غاية 25 جويلية 2021.

وحاليا ليس المهم كتابة دستور جديد أو تعديل وإعادة كتاب القديم، وإنما الأهم هو وجود دستور متلائم مع المرحلة وكفيل بالخروج من الأزمة التي تتخبط فيها البلاد من ناحية وليفتح فسحة مضيئة لهذه البلاد وأبنائها من ناحية أخرى. لأن قيس سعيد أو من والاه ليس دائما وإنما ما يمكن تقديمه للوطن وللأجيال القادمة عبر وضع أسس وقاعد لعبة سياسية "نظيفة" وهادفة.

*       تخوف البعض من جمع رئيس الجمهورية لكل الصلاحيات من خطر العودة لمربع الديكتاتورية، هل تشاطر هذا الرأي؟

هذه في الحقيقة نظرية أو فزاعة النهضة وأتباعها أو عملاءها خاصة أن ذلك الطيف يتحمل مسؤولية عدم إرساء المحكمة الدستورية في المقابل سعى للسيطرة على مفاصل الدولة وتكريس الفساد. وشخصيا لا أتصور شخصية قيس سعيد حاملة لأفكار ديكتاتورية وليست له نزعة نحو ذلك بل هو يقود ثورة ضد حاملي الفكر الجامد الديكتاتوري الذين قادوا البلاد إلى حافة الهاوية.

*      ولكن ماذا يعني ذلك والجميع يعلم أن المجلس التأسيسي قضى أكثر من ثلاث سنوات في كتابة الدستور؟

اذكر أني قمت بمبادرة شخصية وذلك بكتاب مشروع دستور خلال شهر وقدمته للمجلس التأسيسي للاستئناس به في كتابة الدستور وكذلك فعل 41 من زملائي ممن قدموا مشاريع في الغرض ولكن للأسف لم يتم اعتماد ذلك وكانت النتيجة إعادة "الدستور الصغير" لكن مع إعادة النظام السياسي والدستوري بما يخدم ويناسب مشروعها. والحقيقة وفي إطار تكريس سياستها للركوب على الثورة هي وأذنابها من حزبي التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية عمدت إلى تمطيط مدة كتابة الدستور التي كانت محددة بعام لتصل إلى أكثر من ثلاث سنوات. واستغلت حركة النهضة الظرفية للتغلغل داخل مفاصل الدولة والإدارة والمؤسسات والعمل على نشر وتجذير مشروعها ويكفي الاستشهاد بما قاله رئيسها الغنوشي في حديثه عن جانب من هذا المسعى "الجيش مش مضمون" أو ما قاله عبد الفتاح مورو أثناء حديثه مع أحد عناوين مرحلتهم وفكرهم وجدي غنيم "حاجتنا بأولادهم". لأن الأهم بالنسبة لهم هو وضع أسس تطبيق الخلافة السادسة وما قاله حمادي الجبالي في يوم ما ليس زلة لسان وإنما تلك حقيقة أهدافهم لأنهم لا يفكرون في الوطن وتونس وإنما يعملون في إطار مشروع عالمي ينسف مفهوم الدولة والوطن والمواطن وهم مستعدون لذلك. ويكفي العودة إلى مظاهر العنف والإرهاب والقتل والذبح وتهجير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر والحرب عوض أن يقدموا له مشاريع عمل ويسهلوا عيشه الكريم على نحو جعلوا أكثر من 8 آلاف تونسي ينتمون إلى داعش والمنظمات الإرهابية. وذلك باعتماد أسلوب الترهيب والترغيب عبر سياسة ممنهجة استهدافت أبناء الأوساط الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة.

*       بالعودة إلى التاريخ القريب نذكر أن النهضة قدمت تنازلات بعد الضغط الكبير الذي واجهته من قوى سياسية ومجتمع مدني، لم ين ذلك حقيقة؟

صحيح قدمت حركة النهضة بعض التنازلات لكن بعد أن أيقنت أن السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية في يديها إضافة إلى ضمان محافظتها على الأغلبية البرلمانية للتحكم في رئاسة الحكومة واعتمادها مبدأ المراهنة على "عصفور صغير" على المقاس في كل مناسبة، مقابل تحصر وضع رئيس الجمهورية في "قفص" بصلاحيات محدودة. وكان منطلق دخولها في تنفيذ مشروعها مع شريكيها في الحكم وفي المشروع التدميري للدولة بعد أول انتخابات تشريعية بمنح مصطفى بن جعفر منصب رئاسة البرلمان ومنصف المرزوقي رئاسة الجمهورية. لذلك أستغرب كيف يسمح الثنائي بن جعفر والمرزوقي لنفسيهما اليوم بالظهور ومخاطبة التونسيين بعد أن أجرما في حق الجميع وفي حق حزبيهما اللذين اندثرا.

*       ولكن ألم يكن الأمر نفسه مع حزب نداء تونس بعد دخوله على خط النهضة رغم الوعود التي قطعها قياديوه وفي مقدمتهم الراحل الباجي قائد السبسي بوقف تمرد النهضة؟

للأسف المرحلة كانت مليئة بالخيانات والمؤامرات التي فسرها بعضهم بالتوافق. فكلنا يذكر ما صرح به الباجي "خطان متوازيان لا يلتقيان"  أو في اعتصام الرحيل بباردو 2013، وكذلك الشأن بالنسبة للغنوشي في وصفه للفرقاء السياسيين كالباجي أو بعد نبيل القروي وغيرهم ولكن المصالح هي التي تحسم وهذه حقيقة هذه الطبقة السياسية المليئة بالجشع. ولعل منطلق ذلك مؤامرة الشيخين في نزل بريستول" بباريس بوساطة "أناس طيبين" في مقدمتهم سليم الرياحي في سهرة تلاقت فيها الضمائر واتحدت المصالح.

*ماذا تقصد؟

ليس في الأمر سرا اتفق الشيخان على فسح الطريق للنهضة على انجاز ما يطيب لها من أهداف وهي طبعا غير أهداف الشعب التونسي فيما كان هدف الباجي ابنه فقط.

صراحة أعتبر ما يحصل اليوم هو نتيجة حتمية لطاغوت النهضة وخيانة الباجي. وسوء تقدير الحركات الإسلاموية هو الذي قادها للإفلاس في كل العالم تقريبا.

* كيف؟

للأسف التغطرس والنهم الإسلاموي وكل التجارب المعادية للوطن والخادمة للأجندات الخارجية أفلست في كل البلدان التي انتصبت فيها كالسودان والجزائر والمغرب والعراق وسوريا وليبيا.

*       ولكن في تونس حافظت النهضة على بقائها في الحكم لمدة عشر سنوات رغم الدعوات الرافضة لسياستها وفشلها في تحقيق مطالب المواطنين، ما هو السبب؟

أكرر التأكيد أنه لولا الباجي قائد السبسي لما بقيت النهضة إلى اليوم. فهمه الوحيد هو توريث أبنه وتحقيق رغبته السياسية. فكان أن جاء بيوسف الشاهد كنكرة في عالم السياسة والتجارب لتولي رئاسة الحكومة ليجد نفسه بين "أحضان النهضة" مرة أخرى. الأمر الذي دفع الباجي مرة أخرى ليسقط في تهمة الخيانة العظمى" بعد تآمره على رئيس الحكومة الذي افلت من بين يديه وانتصب للعمل معد خصومه.

*       قلت في سياق حديثك أن عددا كبيرا أخطأ في حق الدولة والمنظومة ممن هم اليوم فاعلون في المشهد العام من تقصد؟

للأسف أن عددا كبيرا من المختصين في القانون الدستوري في الاقتصاد والسياسية وغيرها من المجالات الإدارية والقانونية والصحية والتربية والتعليم تم استخدامهم من قبل حركة النهضة أو أتباعها فاستعملتهم للوصول إلى  مبتغاها وأهدافها بما في ذلك الشعب.

*       وما رأيك في تحرك بعض النواب من البرلمان المجمد ودعوة بعضهم للعودة لاستئناف العمل قانوني؟

هذا لا يعدو أن يكون سوى "سيرك" وحالة هيستيريا بلا فائدة لأنه يتنافى مع ما جاء في 25 جويلية وهم يريدون من خلالها "المنازلة" للظهور كضحايا.

*       بِمَ تفسر تركيز الجدل وطغيان السجال الدستوري في هذه المرحلة في حين أن أصل الداء هي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي بلغت حد تهديد عيش وحياة المواطنين والسيادة الوطنية؟

في الحقيقة الإجابة عن هذا السؤال تقودني للخوض في مسائل عديدة ذات علاقة بهذه النتيجة التي وصلت إليها البلاد اليوم. فمأساة البلاد اليوم ليست شرعية أو مشروعية دستورية أو إيديولوجية. ويجب العودة إلى منطلق المأساة التي غيرت المشهد والنظام والتاريخ في تونس والمتمثل في حرق محمد البوعزيزي لنفسه بسبب الإحساس القهر والظلم والفقر والحاجة وهو البائع المتجول الباحث عن قوت يومه، وفي تونس في تلك الفترة كان تقريبا 90 % من التونسيين يعيشون ظروفا ووضعا مشابها له استبشروا خيرا بمنظومة وعناوين سياسية وحزبية جديدة تقدمها راشد الغنوشي وأتباعه على  أساس أنهم "يخافوا ربي". فكان المنعرج الحاسم في المأساة لأنه غاب على التونسيين حقيقة أجندا الغنوشي وأتباعه "الإخوانيين" الذين لا يؤمنون بالوطن وحدوده الترابية. لأنهم بفكرهم المتحجر غير قادرين على التفكير في مطالب واستحقاقات الناس لعيش كريم وعدالة اجتماعية بل كانوا يغطون على ممارساتهم وعجزهم وفشلهم "بلحاف الدين". لذلك جاء دستور 2014 خالي من الكلمات المفصلية للمرحلة فلم يكون للاقتصاد والمطالب والمشاغل الاجتماعية وجود في ذلك الدستور. لذلك كان العجز والفشل الذريع خلال سنوات حكمهم وكان الجدل موجها لما هو قانوني ودستوري للتغطية في جوانب ما عن الجرائم المرتكبة في حق الدولة والشعب. ويكفي العودة ما قاموا به في حق الدولة. والأمر لا يقتصر على النهضة وحدها بل أيضا من تواطأ معها ونهب المال العام

*ماذا تقصد؟

ما أعنيه صراحة أن منظومة الحكم في السنوات العشر الأخيرة بقيادة حركة النهضة جانبت مطالب وانتظارات التونسيين وشبابها الحالم بموطن شغل ومصدر رزق وعيش كريم  بل عمدت إلى استعمال هذا الشعب و"تهريسه" بما تعني الكلمة من معنى. في2012 تم توظيف أكثر من 300 ألف من أبنائها جلهم من المتعين بالعفو التشريعي العام إضافة إلى تقديم تعويضات لـ618 منتفع وفق وثيقة تضم قائمة تم استخراجها من الخزينة العامة للبلاد التونسية كلفت الدولة 114 مليار من بين الأسماء التي تتضمنها راشد الغنوشي وعلي العريض ومورو والبحيري وحسين الجزيري ويمينة الزغلامي وعتيق وشورو واللوز والهاشمي الحامدي وسهام بادي وسهام بن سدرين ومصطفى بن جعفر وخليل زاوية وحمة الهامي وراضية النصراوي ونزيهة رجيبة والطاهر بن حسين وغيرهم من مختلف الأطياف الحزبية.

فيما كانت تكلفة المتمتعين بالعفو التشريعي العام في حدود 176 مليار. وأذكر أن محكمة المحاسبات كانت أعلنت أنه ورغم دقة الآليات المعتمدة لم تجد أثرا لـ900 مليار من ميزانية 2013.

ثم أنه منذ أشهر قليلة كان الاتحاد الأوروبي قد ضخ حوالي 500 مليار لميزانية الدولة ولكنها سريعا ما تبخرت.

*       هل تعتقد أن سياسة رئاسة الجمهورية المرتقبة قادرة على فك "شيفرة الفساد" وتنقية مناخ الاقتصاد والإدارة والمؤسسات من الشوائب ذات صلة بالفساد؟

صحيح أن 50 % من الاقتصاد الموازي اليوم بين أيدي اللوبيات والفساد والمهربين والإرهابيين، ولكن أعتقد أن الأمر يتطلب على أقل تقدير عشر سنوات لإعادة الاعتبار للبلاد وهيبة الدولة ودورها تجاه مواطنيها بعد أن أضعفتها وأنهكتها المنظومة الحاكمة. رغم يقين الجميع أن المهم سوف لن تكون سهلة ولكنها ليست مستحيلة خاصة إذا ما حضر وعي التونسيين ووقف الجميع سدا ضد الفساد الذي ينخر قطاعات التعليم والصحة والتجارة والنقل والفلاحة والإدارة وغيرها من المجالات والمؤسسات بما في ذلك الإعلام.

*       بم تفسر تأخر رئاسة الجمهورية في مقاومة الفساد مثلما سبق أن أعلن عن ذلك واكتفى سعيد برفع الشعرات فقط؟

مقاومة الفساد كان من بين أبرز العناوين الكبيرة لمهمة رئاسة الحكومة الجديدة مثلما أعلن عن ذلك سعيد عند تعيينها ليكون الى جانب مقاومة الفوضى والتسيب في الإدارة وخدمة المصالح الاجتماعية من الصحة والنقل والتعليم. إذ يجب اقتلاع الفساد و"اليعقوبيات" من كل الأسلاك القطاعات من أجل إنقاذ الدولة. وهذا لا يتم عبر التسرع وإنما وفق أسس ومنومة متكاملة.

*       في تقديرك من هم قادرون على تحقيق ذلك؟

البلاد في مرحل ووضعية جد صعبة وهي في حاجة إلى فريق إنقاذ مختص في مختلف المجالات بعيدا عن الألوان الحزبية أو الحقل السياسي. ثم أن بلادنا تزخر بالكفاءات النسائية والرجالية في مختلف المجالات ولا داعي لاعتماد المسنودين من "المافيات" والمأجورين من قبل اللوبيات و"ماكينات" الفساد. لأن 25 جويلية أوقف النزيف والبلاد التي كانت على حافة الانهيار.

*       كيف تلوح لك المرحلة القادمة؟

ككل تونسي عبرت عن ارتياحي لما جاء في 25 جويلية وما بعده وأنظر إلى القادم بأمل أفضل لأنه مهما كانت الوضعية دائما هي أفضل مما كان. ولكن الأمر مرتبط بوعي المواطن ويتطلب أيضا إرادة سياسية وسياسية اتصالية كبيرة وأعتقد أن الحكومة القادمة التي ستعمل بتناغم وانسجام مع رئاسة الجمهورية ستعمل على مراعاته لإيصال المعلومة والصورة إلى المواطن أينما ما كان.

حاورته نزيهة الغضباني

العميد الصادق بلعيد لـ"الصباح": كان أجدر برئيس الجمهورية تطبيق الفصلين71 و72 وليس الفصل 80

 

تونس – الصباح

تحدث العميد الصادق بلعيد عن الوضع الراهن وعن علاقته بقيس سعيد وموقفه من مستجدات المرحلة خاصة  بعد أن عبر عن ارتياحه لما جاء في 25 جويلية وما لحقه من قرارات وأوامر رئاسية بما في ذلك تعيين رئيسة حكومة. وفسر سبب تأكيده على أن سعيد أخطأ في تطبيق الفصل 80 عوضا عن الفصلين 71 و72 . ونزلها في إطار الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلاد من حافة الانهيار، وحمّل مسؤولية ما يحصل في تونس اليوم من فوضى وترد وأزمات إلى منظومة فاشلة وفاسدة بقيادة حركة النهضة ومن وصفهم بعملائها واعتبر لقاء الشيخين الراحل الباجي والغنوشي ووضعهما اليد في اليد في توافق وصفه بالمؤامرة والخيانة، المنقذ للنهضة في تلك الفترة. وعبر عن استغرابه من عودة بعض السياسيين إلى المشهد اليوم رغم إجرامهم في حق المواطن والوطن من بينهم مصطفى بن جعفر ومنصف المرزوقي.

وتطرق بلعيد في حديثه لـ"الصباح" إلى المشاغل الدستورية والقانونية والسياسية والاجتماعية وعديد المسائل الأخرى في الحوار التالي:

*لننطلق بالحديث عن آخر المستجدات الصادرة عن قصر قرطاج وما أثارته من جدل بعد تعيين نجلاء بودن رئيسة للحكومة، هل هي وزيرة أولى أم رئيسة حكومة؟

اعتقد أن أعداء الإصلاح والمرحلة ومن تعودوا على التسلل بين مفاصل الدولة ونهش ثرواتها هم من يسعون لإثارة مثل هذا الجدل، لأن نجلاء بودن هي رئيسة حكومة فعلية بما تحيل إليه التسمية من مهام. ثم أن عملها في هذه المرحلة الصعبة يقتضي أن يكون في انسجام مع مؤسسة رئاسة الجمهورية رفقة فريقها الحكومي الذي سيتم اختياره. لأن الوضع في تونس اليوم يتطلب تكاتف جميع المسؤوليات والجهود وليس البحث عمن يحكم ومن يتخذ القرار.

*ما هي قراءتك لهذا التعيين؟

أعتبر تعيين امرأة وخاصة هذه السيدة الجامعية المقتدرة كان "ضربة معلم" استطاع قيس سعيد من خلاله إلجام عديد الأفواه وغلق أبواب التشكيك والرافعين لفزاعة تهديد الحريات والديكتاتورية والنظام الإسلاموي. والأمر لا يقتصر على الداخل التونسي فحسب وإنما في الخارج أيضا خاصة أمام سعي بعض الجهات السياسية لتشويه حراك 25 جويلية وهذه التجربة التونسية الجديدة التي من شأنها أن تعيد جانبا من الاعتبار للدولة بعد حالة الإنهاك وشبه الإفلاس على جميع المستويات الذي أصبحت عليه بعد حكم منظومة فاشلة وفاسدة طيلة العشر سنوات الأخيرة.

*هل بتعيين بودن خرجت تونس من مرحلة الاستثناء إلى المؤقت مثلما تذهب إلى ذلك بعض القراءات؟

نحن اليوم في عمق الوضع الاستثنائي من منظور رئيس الدولة الماسك بزمام الأمور ولكن لكل وجهة نظره والزاوية الضيقة المحددة لتقييمه. وقد أكد قيس سعيد على ذلك عند إعلان تعيينها ثم أن بقاءها في الحكم مرتبط بالمرحلة الاستثنائية وليس ببقاء الرئيس في الحكم.

* هل تشاطر الرأي القائل أن المسيرة السياسية مهمة لنجاح منظومة الحكم وأن الأكاديمي والجامعي "غير المسيس" فاشل بالضرورة؟

نحن كجامعيين لسنا سياسيين نفكر في السياسية ونتعاطها بطريقة نيرة وعلمية. ثم أن الأحزاب السياسوية ثبت أنها فاسدة بالضرورة خاصة في ظل القانون الانتخابي الحالي.

*       باعتبار أنك تعد من بين المقربين من قرطاج، هل يمكن أن تعطينا الخطوط العريضة لبرنامج المرحلة القادمة لسياسة رئيس الجمهورية؟

صحيح أنه تمت استشارتي من قبل رئيس الجمهورية رفقة بعض زملائي، وأنا لست فاعلا على النحو الذي ذكرته، ثم أنه وفق الأمر 117 تم التأكيد على أنه سيتم تكوين لجنة يستعين بها رئيس الجمهورية في إعداد مشاريع والتعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية. ثم أني لا أعرف شيئا في الغرض حاليا.  وكل ما في الأمر أني أساند بقوة حركة 25 جويلية وكل ما قام به قيس سعيد من خطوات لتصحيح المسار إلى حد الآن وأدعو التونسيين للوقوف إلى جانب هذا المشروع الإصلاحي ليقيني انه سيعود بالفائدة على الجميع بعيدا عن الشيطنة والتقزيم والعرقلة.

*       هل تعني أن رئيس الجمهورية على يقين واستعداد لمساعي عرقلة مشروعه؟

بكل تأكيد، وكلنا يعلم ما يقوم به اليوم بعض السياسيين الفاشلين الذي كانوا سببا في انهيار الدولة وضرب المنظومة الاجتماعية وتردي الأوضاع من محاولات لتقسيم التونسيين وتحريك النعرات الجهوية والقطاعية وغيرها، وهي سوف لن تستكين ويهدأ لها بال إلا بمواصلة سياسة الهدم ،لأنه ليس من صالحها إصلاح وضع البلاد وتحسين أوضاع شريحة من المواطنين. وأنا اخترت توجيه رسالتي إلى المواطنين وشرفاء هذا الوطن لأنهم يمكن أن يكونوا جزءا من الحل في المرحلة القادمة بعدم الانسياق وراء سياسة استعمالهم وقودا في معركة لا خاسر فيها سوى هم والوطن.

*       لنعد للحديث عن 25 جويلية وسجال الفصل 80، ما هو رأيك في المنحى الذي اختاره سعيد؟

في الحقيقة أرى أنه كان أجدر برئيس الجمهورية تطبيق الفصلين 71 و72 وليس الفصل 80 كان الأمر أيسر بالنسبة له. لأنه في تقديري لو طبق هذين الفصلين، حيث ينص الأول "يمارس السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية وحكومة يرأسها رئيس الحكومة". والفصل 72 – "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور" ليكون الفصل 80 ثانويا حيث البرلمان والحكومة آليات لدى رئيس الجمهورية. لأن ما جاء فيهما يتجاوز ما جاء في الأخير نظرا للوضع الخطير الذي أصبحت عليه البلاد من خطر الإفلاس والانفجار الاجتماعي والوضع الصحي المتردي والانهيار المحدق بالدولة مقابل توسع دائرة الفساد واللوبيات المتحكمة في مفاصل الدولة، بما يجعله يختزل عديد المسافات والإشكاليات. لأنه بذلك كان أمكن له الخروج عن الفوضى الحالية وحال دون إعطائهم فرصة  مجانية للتجاذبات والمؤامرات والهجومات التي شنها الكثير من أتباع الغنوشي.

*       ولكن البعض يعتبر أن الأمر 117 تأكيد للخروج عن السياق الدستوري وتجميده، ما هي قراءتك للمسألة؟

صحيح هناك من يشكك في دستورية ما قام به قيس سعيد في 25 جويلية ثم بعد إصدار الأمر الرئاسي يوم 22 سبتمبر المنقضي عمق هذا الجدل. ولكن في كل الحالات لا أرى خروجا عن الدستور. ولكن الشق المضاد يفسر وفق وجهة نظره وتفكيره لحماية مصالحه وصلاحياته لا غير. لذلك أرى من زاوية ما يجب أن يقوم به رئيس الجمهورية للخروج من الأزمة والمرحلة وإصلاح ما افسد.

*       كيف يمكن إصلاح الوضع إذن؟

هناك نظريتان في علوم السياسة: الأولى تتمثل في التأسيس وإعادة النظر وفق أسس علمية واقعية والثانية تكتفي بالترقيع والتعديل. والحقيقة هي أن بعض الساسة اليوم يدافعون عن دستور 2014 كأنه قرآن منزل لا يجب المساس به في حين أن الدفاع المستميت هذا الهدف منه ضمان مصالحهم والحفاظ عليها. لذلك إصلاح الوضع يتطلب القطع مع هذا الدستور لأنه لا يستجيب في تفاصيله وأهدافه لمتطلبات المرحلة والعصر والدولة.

*هل تعني أنك مع كتابة دستور جديد؟

لست وحدي من يقول هذا بل جل التونسيين من مختصين في القانون الدستوري وسياسيين وغيرهم يجمعون على ذلك. لأن دستور 2014 الذي كلف الدولة هدرا للمال العمومي وإضاعة للوقت والجهد في كتابة دستور الجمهورية الثانية، أسفر عن تقديم نفس "الدستور الصغير" الذي تم اعتماده سنة 2011 لتنظيم السلط والخروج من المرحلة الانتقالية مع الاكتفاء ببعض التفاصيل والنقاط الملغزة والمبهمة التي لا تخدم سوى مشروع النهضة. لأن القرار النهائي والسلطة الحاكمة هي مجلس الشورى وما تقرره اجتماعات منبليزير وليس البرلمان. وهذا الدستور لا يمكن فهمه إلا بالعودة إلى التاريخ. لأن هذا الدستور وضع كل السلط مجمعة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بين أيدي حرك النهضة لتمارس صلاحياتها كاملة على السلطتين التنفيذية والتشريعية منذ 2011 إلى غاية 25 جويلية 2021.

وحاليا ليس المهم كتابة دستور جديد أو تعديل وإعادة كتاب القديم، وإنما الأهم هو وجود دستور متلائم مع المرحلة وكفيل بالخروج من الأزمة التي تتخبط فيها البلاد من ناحية وليفتح فسحة مضيئة لهذه البلاد وأبنائها من ناحية أخرى. لأن قيس سعيد أو من والاه ليس دائما وإنما ما يمكن تقديمه للوطن وللأجيال القادمة عبر وضع أسس وقاعد لعبة سياسية "نظيفة" وهادفة.

*       تخوف البعض من جمع رئيس الجمهورية لكل الصلاحيات من خطر العودة لمربع الديكتاتورية، هل تشاطر هذا الرأي؟

هذه في الحقيقة نظرية أو فزاعة النهضة وأتباعها أو عملاءها خاصة أن ذلك الطيف يتحمل مسؤولية عدم إرساء المحكمة الدستورية في المقابل سعى للسيطرة على مفاصل الدولة وتكريس الفساد. وشخصيا لا أتصور شخصية قيس سعيد حاملة لأفكار ديكتاتورية وليست له نزعة نحو ذلك بل هو يقود ثورة ضد حاملي الفكر الجامد الديكتاتوري الذين قادوا البلاد إلى حافة الهاوية.

*      ولكن ماذا يعني ذلك والجميع يعلم أن المجلس التأسيسي قضى أكثر من ثلاث سنوات في كتابة الدستور؟

اذكر أني قمت بمبادرة شخصية وذلك بكتاب مشروع دستور خلال شهر وقدمته للمجلس التأسيسي للاستئناس به في كتابة الدستور وكذلك فعل 41 من زملائي ممن قدموا مشاريع في الغرض ولكن للأسف لم يتم اعتماد ذلك وكانت النتيجة إعادة "الدستور الصغير" لكن مع إعادة النظام السياسي والدستوري بما يخدم ويناسب مشروعها. والحقيقة وفي إطار تكريس سياستها للركوب على الثورة هي وأذنابها من حزبي التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية عمدت إلى تمطيط مدة كتابة الدستور التي كانت محددة بعام لتصل إلى أكثر من ثلاث سنوات. واستغلت حركة النهضة الظرفية للتغلغل داخل مفاصل الدولة والإدارة والمؤسسات والعمل على نشر وتجذير مشروعها ويكفي الاستشهاد بما قاله رئيسها الغنوشي في حديثه عن جانب من هذا المسعى "الجيش مش مضمون" أو ما قاله عبد الفتاح مورو أثناء حديثه مع أحد عناوين مرحلتهم وفكرهم وجدي غنيم "حاجتنا بأولادهم". لأن الأهم بالنسبة لهم هو وضع أسس تطبيق الخلافة السادسة وما قاله حمادي الجبالي في يوم ما ليس زلة لسان وإنما تلك حقيقة أهدافهم لأنهم لا يفكرون في الوطن وتونس وإنما يعملون في إطار مشروع عالمي ينسف مفهوم الدولة والوطن والمواطن وهم مستعدون لذلك. ويكفي العودة إلى مظاهر العنف والإرهاب والقتل والذبح وتهجير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر والحرب عوض أن يقدموا له مشاريع عمل ويسهلوا عيشه الكريم على نحو جعلوا أكثر من 8 آلاف تونسي ينتمون إلى داعش والمنظمات الإرهابية. وذلك باعتماد أسلوب الترهيب والترغيب عبر سياسة ممنهجة استهدافت أبناء الأوساط الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة.

*       بالعودة إلى التاريخ القريب نذكر أن النهضة قدمت تنازلات بعد الضغط الكبير الذي واجهته من قوى سياسية ومجتمع مدني، لم ين ذلك حقيقة؟

صحيح قدمت حركة النهضة بعض التنازلات لكن بعد أن أيقنت أن السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية في يديها إضافة إلى ضمان محافظتها على الأغلبية البرلمانية للتحكم في رئاسة الحكومة واعتمادها مبدأ المراهنة على "عصفور صغير" على المقاس في كل مناسبة، مقابل تحصر وضع رئيس الجمهورية في "قفص" بصلاحيات محدودة. وكان منطلق دخولها في تنفيذ مشروعها مع شريكيها في الحكم وفي المشروع التدميري للدولة بعد أول انتخابات تشريعية بمنح مصطفى بن جعفر منصب رئاسة البرلمان ومنصف المرزوقي رئاسة الجمهورية. لذلك أستغرب كيف يسمح الثنائي بن جعفر والمرزوقي لنفسيهما اليوم بالظهور ومخاطبة التونسيين بعد أن أجرما في حق الجميع وفي حق حزبيهما اللذين اندثرا.

*       ولكن ألم يكن الأمر نفسه مع حزب نداء تونس بعد دخوله على خط النهضة رغم الوعود التي قطعها قياديوه وفي مقدمتهم الراحل الباجي قائد السبسي بوقف تمرد النهضة؟

للأسف المرحلة كانت مليئة بالخيانات والمؤامرات التي فسرها بعضهم بالتوافق. فكلنا يذكر ما صرح به الباجي "خطان متوازيان لا يلتقيان"  أو في اعتصام الرحيل بباردو 2013، وكذلك الشأن بالنسبة للغنوشي في وصفه للفرقاء السياسيين كالباجي أو بعد نبيل القروي وغيرهم ولكن المصالح هي التي تحسم وهذه حقيقة هذه الطبقة السياسية المليئة بالجشع. ولعل منطلق ذلك مؤامرة الشيخين في نزل بريستول" بباريس بوساطة "أناس طيبين" في مقدمتهم سليم الرياحي في سهرة تلاقت فيها الضمائر واتحدت المصالح.

*ماذا تقصد؟

ليس في الأمر سرا اتفق الشيخان على فسح الطريق للنهضة على انجاز ما يطيب لها من أهداف وهي طبعا غير أهداف الشعب التونسي فيما كان هدف الباجي ابنه فقط.

صراحة أعتبر ما يحصل اليوم هو نتيجة حتمية لطاغوت النهضة وخيانة الباجي. وسوء تقدير الحركات الإسلاموية هو الذي قادها للإفلاس في كل العالم تقريبا.

* كيف؟

للأسف التغطرس والنهم الإسلاموي وكل التجارب المعادية للوطن والخادمة للأجندات الخارجية أفلست في كل البلدان التي انتصبت فيها كالسودان والجزائر والمغرب والعراق وسوريا وليبيا.

*       ولكن في تونس حافظت النهضة على بقائها في الحكم لمدة عشر سنوات رغم الدعوات الرافضة لسياستها وفشلها في تحقيق مطالب المواطنين، ما هو السبب؟

أكرر التأكيد أنه لولا الباجي قائد السبسي لما بقيت النهضة إلى اليوم. فهمه الوحيد هو توريث أبنه وتحقيق رغبته السياسية. فكان أن جاء بيوسف الشاهد كنكرة في عالم السياسة والتجارب لتولي رئاسة الحكومة ليجد نفسه بين "أحضان النهضة" مرة أخرى. الأمر الذي دفع الباجي مرة أخرى ليسقط في تهمة الخيانة العظمى" بعد تآمره على رئيس الحكومة الذي افلت من بين يديه وانتصب للعمل معد خصومه.

*       قلت في سياق حديثك أن عددا كبيرا أخطأ في حق الدولة والمنظومة ممن هم اليوم فاعلون في المشهد العام من تقصد؟

للأسف أن عددا كبيرا من المختصين في القانون الدستوري في الاقتصاد والسياسية وغيرها من المجالات الإدارية والقانونية والصحية والتربية والتعليم تم استخدامهم من قبل حركة النهضة أو أتباعها فاستعملتهم للوصول إلى  مبتغاها وأهدافها بما في ذلك الشعب.

*       وما رأيك في تحرك بعض النواب من البرلمان المجمد ودعوة بعضهم للعودة لاستئناف العمل قانوني؟

هذا لا يعدو أن يكون سوى "سيرك" وحالة هيستيريا بلا فائدة لأنه يتنافى مع ما جاء في 25 جويلية وهم يريدون من خلالها "المنازلة" للظهور كضحايا.

*       بِمَ تفسر تركيز الجدل وطغيان السجال الدستوري في هذه المرحلة في حين أن أصل الداء هي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي بلغت حد تهديد عيش وحياة المواطنين والسيادة الوطنية؟

في الحقيقة الإجابة عن هذا السؤال تقودني للخوض في مسائل عديدة ذات علاقة بهذه النتيجة التي وصلت إليها البلاد اليوم. فمأساة البلاد اليوم ليست شرعية أو مشروعية دستورية أو إيديولوجية. ويجب العودة إلى منطلق المأساة التي غيرت المشهد والنظام والتاريخ في تونس والمتمثل في حرق محمد البوعزيزي لنفسه بسبب الإحساس القهر والظلم والفقر والحاجة وهو البائع المتجول الباحث عن قوت يومه، وفي تونس في تلك الفترة كان تقريبا 90 % من التونسيين يعيشون ظروفا ووضعا مشابها له استبشروا خيرا بمنظومة وعناوين سياسية وحزبية جديدة تقدمها راشد الغنوشي وأتباعه على  أساس أنهم "يخافوا ربي". فكان المنعرج الحاسم في المأساة لأنه غاب على التونسيين حقيقة أجندا الغنوشي وأتباعه "الإخوانيين" الذين لا يؤمنون بالوطن وحدوده الترابية. لأنهم بفكرهم المتحجر غير قادرين على التفكير في مطالب واستحقاقات الناس لعيش كريم وعدالة اجتماعية بل كانوا يغطون على ممارساتهم وعجزهم وفشلهم "بلحاف الدين". لذلك جاء دستور 2014 خالي من الكلمات المفصلية للمرحلة فلم يكون للاقتصاد والمطالب والمشاغل الاجتماعية وجود في ذلك الدستور. لذلك كان العجز والفشل الذريع خلال سنوات حكمهم وكان الجدل موجها لما هو قانوني ودستوري للتغطية في جوانب ما عن الجرائم المرتكبة في حق الدولة والشعب. ويكفي العودة ما قاموا به في حق الدولة. والأمر لا يقتصر على النهضة وحدها بل أيضا من تواطأ معها ونهب المال العام

*ماذا تقصد؟

ما أعنيه صراحة أن منظومة الحكم في السنوات العشر الأخيرة بقيادة حركة النهضة جانبت مطالب وانتظارات التونسيين وشبابها الحالم بموطن شغل ومصدر رزق وعيش كريم  بل عمدت إلى استعمال هذا الشعب و"تهريسه" بما تعني الكلمة من معنى. في2012 تم توظيف أكثر من 300 ألف من أبنائها جلهم من المتعين بالعفو التشريعي العام إضافة إلى تقديم تعويضات لـ618 منتفع وفق وثيقة تضم قائمة تم استخراجها من الخزينة العامة للبلاد التونسية كلفت الدولة 114 مليار من بين الأسماء التي تتضمنها راشد الغنوشي وعلي العريض ومورو والبحيري وحسين الجزيري ويمينة الزغلامي وعتيق وشورو واللوز والهاشمي الحامدي وسهام بادي وسهام بن سدرين ومصطفى بن جعفر وخليل زاوية وحمة الهامي وراضية النصراوي ونزيهة رجيبة والطاهر بن حسين وغيرهم من مختلف الأطياف الحزبية.

فيما كانت تكلفة المتمتعين بالعفو التشريعي العام في حدود 176 مليار. وأذكر أن محكمة المحاسبات كانت أعلنت أنه ورغم دقة الآليات المعتمدة لم تجد أثرا لـ900 مليار من ميزانية 2013.

ثم أنه منذ أشهر قليلة كان الاتحاد الأوروبي قد ضخ حوالي 500 مليار لميزانية الدولة ولكنها سريعا ما تبخرت.

*       هل تعتقد أن سياسة رئاسة الجمهورية المرتقبة قادرة على فك "شيفرة الفساد" وتنقية مناخ الاقتصاد والإدارة والمؤسسات من الشوائب ذات صلة بالفساد؟

صحيح أن 50 % من الاقتصاد الموازي اليوم بين أيدي اللوبيات والفساد والمهربين والإرهابيين، ولكن أعتقد أن الأمر يتطلب على أقل تقدير عشر سنوات لإعادة الاعتبار للبلاد وهيبة الدولة ودورها تجاه مواطنيها بعد أن أضعفتها وأنهكتها المنظومة الحاكمة. رغم يقين الجميع أن المهم سوف لن تكون سهلة ولكنها ليست مستحيلة خاصة إذا ما حضر وعي التونسيين ووقف الجميع سدا ضد الفساد الذي ينخر قطاعات التعليم والصحة والتجارة والنقل والفلاحة والإدارة وغيرها من المجالات والمؤسسات بما في ذلك الإعلام.

*       بم تفسر تأخر رئاسة الجمهورية في مقاومة الفساد مثلما سبق أن أعلن عن ذلك واكتفى سعيد برفع الشعرات فقط؟

مقاومة الفساد كان من بين أبرز العناوين الكبيرة لمهمة رئاسة الحكومة الجديدة مثلما أعلن عن ذلك سعيد عند تعيينها ليكون الى جانب مقاومة الفوضى والتسيب في الإدارة وخدمة المصالح الاجتماعية من الصحة والنقل والتعليم. إذ يجب اقتلاع الفساد و"اليعقوبيات" من كل الأسلاك القطاعات من أجل إنقاذ الدولة. وهذا لا يتم عبر التسرع وإنما وفق أسس ومنومة متكاملة.

*       في تقديرك من هم قادرون على تحقيق ذلك؟

البلاد في مرحل ووضعية جد صعبة وهي في حاجة إلى فريق إنقاذ مختص في مختلف المجالات بعيدا عن الألوان الحزبية أو الحقل السياسي. ثم أن بلادنا تزخر بالكفاءات النسائية والرجالية في مختلف المجالات ولا داعي لاعتماد المسنودين من "المافيات" والمأجورين من قبل اللوبيات و"ماكينات" الفساد. لأن 25 جويلية أوقف النزيف والبلاد التي كانت على حافة الانهيار.

*       كيف تلوح لك المرحلة القادمة؟

ككل تونسي عبرت عن ارتياحي لما جاء في 25 جويلية وما بعده وأنظر إلى القادم بأمل أفضل لأنه مهما كانت الوضعية دائما هي أفضل مما كان. ولكن الأمر مرتبط بوعي المواطن ويتطلب أيضا إرادة سياسية وسياسية اتصالية كبيرة وأعتقد أن الحكومة القادمة التي ستعمل بتناغم وانسجام مع رئاسة الجمهورية ستعمل على مراعاته لإيصال المعلومة والصورة إلى المواطن أينما ما كان.

حاورته نزيهة الغضباني