في موعد فني فريد على ركح مسرح قرطاج، اجتمع الآلاف على إيقاع صوت دار الأوبرا المصرية مي فاروق، وهي تستحضر بأداء طربي متقن وتمكن كبير من العُرب الموسيقية، جزءا من الذاكرة الذهبية للأغنية العربية، حيث ارتسمت على وجوه الحاضرين علامات الدهشة والانفعال منذ بداية الحفل..
لقد أشعلت الفنانة المصرية مي السهرة بـ"الحب كلو" وبقيت الأضواء مسلطة على تألقها حتى نهاية الحفل..، التصفيق ارتفع مطولا في مشهد بدا وكأنه تجديد لـ"مبايعة" جديدة لأسطورة الغناء العربي، وفي الوقت ذاته احتفاء بصوت معاصر يملك أدواته.
عمق الكلمة وعبقرية الملحنين.. سر البقاء
لا يمكن لأي قارئ للمشهد أن ينكر أن نجاح العرض ارتبط عضويا بعمق الإرث الكلثومي.. فأم كلثوم لم تكن مجرد مطربة، بل كانت نتاج معادلة فنية نادرة جمعت بين الكلمة الشعرية الرصينة واللحن الرائع البديع، من أحمد رامي وبيرم التونسي إلى رياض السنباطي ومحمد القصبجي.. وغيرهم من جهابذة الفن والزمن الجميل..
هذا التناغم الفريد بين الشعر والموسيقى هو الذي صنع روائع عصيّة على الاندثار، وهو الذي منح كل من يعيد أداءها فرصة الاقتراب من النجاح، مهما تغيّرت الأزمنة والأجيال.
ولا ريب أن الاعتراف بقوة النصوص والألحان لا يقلل من قيمة مي فاروق، ذلك أنها أثبتت في عرضها الأخير أن صوتها المتمكن وحضورها المسرحي قادران على استحضار الروح الطربية لا تلك النسخ الباهتة التي مثلت العديد من الفعاليات الثقافية، بل كحضور مميز سواء من خلال التفاعل مع الجمهور أو امتلاكها ذاكرة طربية متقدة مكنتها من احتضان روائع "الست" واستعادتها بصدق وإتقان..
لقد صفق الناس لأم كلثوم الغائبة، نعم، لكنهم أيضا صفقوا لمي فاروق الحاضرة التي أفلحت في أن تكون وسيطا فنيا حيا بين التراث والجمهور، مستندة إلى تقنيات صوتية عالية وأداء جسد نضج التجربة الفنية وثبات الحضور..
استعادة الماضي أم صناعة المستقبل؟
ومع ذلك، يظل السؤال الثقافي الجوهري مطروحا: إلى متى سيبقى الرهان على إحياء تراث الكبار؟ هل يكفي استدعاء أم كلثوم ورفاقها لملء المسارح، أم أن الساحة الغنائية العربية تحتاج أيضا إلى جرأة التجديد وإنتاج نصوص وألحان جديدة قادرة على أن تصنع "أم كلثوم" بروح معاصرة؟
إن الاقتصار على استعادة الماضي، وإن كان وقعه كبيرا على الواقع الفني من خلال "الحنين الدائم"، فإن التحدي الحقيقي يكمن في كتابة فصل جديد للأغنية العربية يتجاوز الاستنساخ نحو الابتكار.
إن عرض مي فاروق يثبت مرة أخرى أن "التراث الكلثومي" ما زال قادرا على جمع الناس في عصر التشتت، لكن الامتحان الأعسر يظل في مدى قدرة الأجيال الجديدة على صياغة روائعها الخاصة بدل الاكتفاء بالعيش تحت وطأة العمالقة.
وليد عبداللاوي