إن حتمية التوافق على أسس تشاركية لتسيير الشأن العام بشكل يضمن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لا تحتاج للنقاش ولا للكثير من التأصيل الفكري والمبادرات التي تقدمت بها عديد الجهات الجادة من اجل إصلاح المنظومة السياسية تعتبر ظاهرة صحية ونجاحها مرهون بقدرة كل المتدخلين على الانخراط في حوار بناء ومبدئي يترفّع عن الخطّيّة الضيقة والانحيازات التجزيئيّة المتعارضة وجوبا مع المصلحة العامة والخلاص الجمعي الهادف. وطالما بقي الجدل داخليا فالأمر شأن داخلي وأهل مكة أدرى بشعابها، إلا أنه منذ جويلية في علاقة بالمشهد السياسي في تونس تعالت أصوات المحذرين من سخط الغرب الأوروبي الأمريكي إذا تأخر العمل بتعليماته والتردد في تنفيذ رؤيته حول "الرجوع لشرعية البناء الديمقراطي البرلماني السابق". ولا حاجة لقدرات خارقة في التنجيم الدبلوماسي للجزم بان الأطراف المذكورة لا تتردد في تنزيل السخط إن سمحت لها هوامش التحرك بذلك. وإذا اتفقنا حول ما سبق فان الاختلاف يبقى حول منطلقات وأُسُسِ التعليل التي انبنت عليها القراءات المختلفة للدوافع التي قد يُستَندُ عليها لتنزيل السخط " الأورو- أمريكي على بلادنا سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. فمن يتصور أن الأطراف المتصدرة لمحاولات التدخل في الشؤون الداخلية للدول معنية فعلا بحقوق الإنسان أو بالديمقراطية فعليه أن يراجع التاريخ ولا حاجة للبعيدِ منه فأحدثُهُ كاف لتعرية لا أخلاقية الأساليب والسياسات الغربية وأفغانستان التي سُلِّمت لطالبان هو أجلى برهان.
ومن يتصور أن مستقبله السياسي وخلاصه يمكن أن تحمله الأمواج القادمة من الشمال فقد غاب في قراءته أن الغرب الأوروبي الأمريكي ليس كتلة متجانسة ولا يتعامل وفق استراتيجيات منسجمة تجاه كل الملفات وعبر كل الفترات. فأمريكا القوة العظمى، وبشهادة قادة التفكير في مؤسساتها الرسمية، قد اغترت في بداية التسعينات بتفردها بالقوة وغالت في عسكرة توجهاتها لحد الإنهاك ولم تنتبه إلى أن الصين التي خُطِّط لاحتوائها وأسرها في اقتصاد السوق قد تمكنت من احتواء الجميع وسدت الفجوة التكنولوجية بينها وبين الغرب وصارت الهاجس الاستراتيجي الأول والأخير للبيت الأبيض الذي يحزم أمتعته تِباعا من الشرق الأوسط ومن أوروبا ويسعى للتركيز على حفظ ماء الوجه في المواجهة مع الصين في المحيطين الهندي والهادئ. أمريكا التي كان اقتصادها في خمسينات القرن الماضي يمثل 70% من الدخل العالمي تصارع الآن للمحافظة على 15 % من كعكة الاقتصاد العالمي (14,99 توقعات 2026) وربع الشعب الأمريكي يعيش تحت عتبة خط الفقر. العملاق الأطلنطي المنحدر تجاه حجمه الحقيقي أصبح غير قادر على توفير الموارد لسياسة خارجية تدَخُّليَةٍ صارت فصلا مضحكا في كتاب التاريخ معنونا بالتحسر والبكاء على ماضي لن يعود.
واما جارتنا أوروبا التي وصفها رامسفيلد بالقارة العجوز فهي بنيان خماسي الأضلع أوله "المتآكل" الساعي لإعادة أمجاد الماضي الاستعماري دون قدرات فعلية على التحرك الجيو استراتيجي والحديث على فرنسا ولا حاجة للكثير من التحليل. اما الثاني فتمثله ألمانيا الحالمة بدور جيواستراتيجي يكبِّله ثقل جرمٍ تاريخي إلى حد اعتبار أمن ووجود إسرائيل ركيزة لكُنهِ الدولة (رِزوندِطا) كما تحرص على تكراره المستشارة المُودِّعة ماركل وكما يتردد في سرديّة الطبقة السياسية الحاكمة عموما. فألمانيا العملاق الاقتصادي لا يتعامل مع بلادنا الا من خلال النظَّارات الفرنسية وبقراءة لمبدوزيّة والخوف من مياهنا الإقليمية وقوارب الهجرة " غير النظامية" فضلا عن أهمية البنية التحتية التونسية كمنصة انطلاق للكعكة التنموية الليبية. وأما الضلع الثالث فيضم دول أوروبا الشرقية التي لا يعنيها ما يجري في منطقتنا وهاجسها التوفيق بين استمرارية سيولة الموارد الاتحادية الأوروبية وبين مواجهة ماكينة الاتحاد الأوروبي الابتلاعيّةِ للسيادات الوطنية والمعركة الدستورية مع بولونيا والمجر خير مثال لهذا. وأما الضلع الرابع والمهم بالنسبة لتونس فهو البيت الاسكندينافي الذي يعني فعلا ما يقول إن تحدث على حقوق الإنسان وليست له أجندة استعمارية ويمكن التعامل معه في إطار شراكة ذات ربحيّةٍ تقاسُميّة. وأما الضلع الخامس والاهم لبلادنا فتمثله دول وأجزاء دولٍ تختزن العمق التاريخي والحضاري لأوروبا إلا أن خزائنها خاوية أو إرادتها مقيّدة. هذه المجموعة تضم مالطا واليونان واسبانيا والبرتغال وايطاليا وكورسيكا الفرنسية بالفَرضِ. السُّباعية تضم الشركاء الحقيقيّين لتونس داخل "الاتحاد الأوروبي ". وبالإضافة الى التفصيلات السابقة فان الفضاء الأوروبي ممزق بين شِق لا يثق في أوروبا في ملف المواجهة مع روسيا ويفضل المظلة الأمريكية - أوروبا الشرقية واليونان- ودول تضمر عداء تاريخيا لجوارها التركي وفي نفس الوقت تحتاج إلى العثمانية الاردوغانية الجديدة كجدار صد ضد تغول الثنائي الألماني الفرنسي أو الثنائي الشرلماني (الجرماني الفرنكي) الذي يرفضه الكثيرون من داخل فرنسا كالكورسيك أحفاد نابوليون والباسك والبروطونوالنورمند. هذه أوروبا العجوز التي يقتضي التعامل معها حكمة بقدر تعقيداتها وتناقضاتها دون ان ننسى ان المرحلة تقتضي حنكة تواصلية عالية داخلية وخارجية تاخذ العبرة من تجارب أشقاءنا السابقين اللذين تم الانتقام منهم شر انتقام رغم ان بلدانهم لها قدرات وإمكانيات مكنتهم من الصمود والمواجهة إلى حدّ ما والعراق وليبيا أمثلة ساطعة لا تحتاج لتفصيل .
وفي هذه المرحلة يجب التركيز على الأولويات الحارقة كترتيب البيت الداخلي سياسيا وإعادة إحكام التصرف في الموارد العمومية والخاصة وتحرير الاقتصاد من المضاربة والريع التي لا تخدم إلا دوائر الاستعمار المتجدد في نهب ثروات المستعمرات السابقة كي تبقى مجرد مستقِلّاتٍ تابعة.
والحكمة في المستقبل المعنون بالتصحيح والاستقلالية تقتضي التعجيل بالاستفادة من الاستقرار في ليبيا ومن مساندة الجزائر للتمكن من الرد على كل محاولات الابتزاز القادمة حتما من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على أمل فك ارتهان اقتصادنا لهذه الجهات وتوسيع هامش التحرك تجاه منظومات الاستعمار المُرسكل في كيانات جهوية ودولية ولنا خير مثال في تجربة دول شقيقة ممانعة كإيران وسوريا راهنت على قدراتها الذاتية وقربها من الصين وروسيا لتجاوز الابتزاز والإذلال الدولي بنجاح. وإن السياسات الناجحة ليست سوى ترجمة تطلعات مجموعة يربطها وعي جمعي وسردية مشتركة بالنسبة لأمهات المسائل، رغم اختلاف التقدير في التفاصيل، و ستبقى مقولة الشابي " فمن لم يرم صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر"أروع تلخيص لوعي جمعي تقدمي ومسؤول وأدقُّ إسطرلاب في رفع التحديات الداخلية وفي تعيير اتجاهات التعامل مع "البراني"!.
حامد بن إبراهيم خبير في العلاقات الدولية
إن حتمية التوافق على أسس تشاركية لتسيير الشأن العام بشكل يضمن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لا تحتاج للنقاش ولا للكثير من التأصيل الفكري والمبادرات التي تقدمت بها عديد الجهات الجادة من اجل إصلاح المنظومة السياسية تعتبر ظاهرة صحية ونجاحها مرهون بقدرة كل المتدخلين على الانخراط في حوار بناء ومبدئي يترفّع عن الخطّيّة الضيقة والانحيازات التجزيئيّة المتعارضة وجوبا مع المصلحة العامة والخلاص الجمعي الهادف. وطالما بقي الجدل داخليا فالأمر شأن داخلي وأهل مكة أدرى بشعابها، إلا أنه منذ جويلية في علاقة بالمشهد السياسي في تونس تعالت أصوات المحذرين من سخط الغرب الأوروبي الأمريكي إذا تأخر العمل بتعليماته والتردد في تنفيذ رؤيته حول "الرجوع لشرعية البناء الديمقراطي البرلماني السابق". ولا حاجة لقدرات خارقة في التنجيم الدبلوماسي للجزم بان الأطراف المذكورة لا تتردد في تنزيل السخط إن سمحت لها هوامش التحرك بذلك. وإذا اتفقنا حول ما سبق فان الاختلاف يبقى حول منطلقات وأُسُسِ التعليل التي انبنت عليها القراءات المختلفة للدوافع التي قد يُستَندُ عليها لتنزيل السخط " الأورو- أمريكي على بلادنا سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. فمن يتصور أن الأطراف المتصدرة لمحاولات التدخل في الشؤون الداخلية للدول معنية فعلا بحقوق الإنسان أو بالديمقراطية فعليه أن يراجع التاريخ ولا حاجة للبعيدِ منه فأحدثُهُ كاف لتعرية لا أخلاقية الأساليب والسياسات الغربية وأفغانستان التي سُلِّمت لطالبان هو أجلى برهان.
ومن يتصور أن مستقبله السياسي وخلاصه يمكن أن تحمله الأمواج القادمة من الشمال فقد غاب في قراءته أن الغرب الأوروبي الأمريكي ليس كتلة متجانسة ولا يتعامل وفق استراتيجيات منسجمة تجاه كل الملفات وعبر كل الفترات. فأمريكا القوة العظمى، وبشهادة قادة التفكير في مؤسساتها الرسمية، قد اغترت في بداية التسعينات بتفردها بالقوة وغالت في عسكرة توجهاتها لحد الإنهاك ولم تنتبه إلى أن الصين التي خُطِّط لاحتوائها وأسرها في اقتصاد السوق قد تمكنت من احتواء الجميع وسدت الفجوة التكنولوجية بينها وبين الغرب وصارت الهاجس الاستراتيجي الأول والأخير للبيت الأبيض الذي يحزم أمتعته تِباعا من الشرق الأوسط ومن أوروبا ويسعى للتركيز على حفظ ماء الوجه في المواجهة مع الصين في المحيطين الهندي والهادئ. أمريكا التي كان اقتصادها في خمسينات القرن الماضي يمثل 70% من الدخل العالمي تصارع الآن للمحافظة على 15 % من كعكة الاقتصاد العالمي (14,99 توقعات 2026) وربع الشعب الأمريكي يعيش تحت عتبة خط الفقر. العملاق الأطلنطي المنحدر تجاه حجمه الحقيقي أصبح غير قادر على توفير الموارد لسياسة خارجية تدَخُّليَةٍ صارت فصلا مضحكا في كتاب التاريخ معنونا بالتحسر والبكاء على ماضي لن يعود.
واما جارتنا أوروبا التي وصفها رامسفيلد بالقارة العجوز فهي بنيان خماسي الأضلع أوله "المتآكل" الساعي لإعادة أمجاد الماضي الاستعماري دون قدرات فعلية على التحرك الجيو استراتيجي والحديث على فرنسا ولا حاجة للكثير من التحليل. اما الثاني فتمثله ألمانيا الحالمة بدور جيواستراتيجي يكبِّله ثقل جرمٍ تاريخي إلى حد اعتبار أمن ووجود إسرائيل ركيزة لكُنهِ الدولة (رِزوندِطا) كما تحرص على تكراره المستشارة المُودِّعة ماركل وكما يتردد في سرديّة الطبقة السياسية الحاكمة عموما. فألمانيا العملاق الاقتصادي لا يتعامل مع بلادنا الا من خلال النظَّارات الفرنسية وبقراءة لمبدوزيّة والخوف من مياهنا الإقليمية وقوارب الهجرة " غير النظامية" فضلا عن أهمية البنية التحتية التونسية كمنصة انطلاق للكعكة التنموية الليبية. وأما الضلع الثالث فيضم دول أوروبا الشرقية التي لا يعنيها ما يجري في منطقتنا وهاجسها التوفيق بين استمرارية سيولة الموارد الاتحادية الأوروبية وبين مواجهة ماكينة الاتحاد الأوروبي الابتلاعيّةِ للسيادات الوطنية والمعركة الدستورية مع بولونيا والمجر خير مثال لهذا. وأما الضلع الرابع والمهم بالنسبة لتونس فهو البيت الاسكندينافي الذي يعني فعلا ما يقول إن تحدث على حقوق الإنسان وليست له أجندة استعمارية ويمكن التعامل معه في إطار شراكة ذات ربحيّةٍ تقاسُميّة. وأما الضلع الخامس والاهم لبلادنا فتمثله دول وأجزاء دولٍ تختزن العمق التاريخي والحضاري لأوروبا إلا أن خزائنها خاوية أو إرادتها مقيّدة. هذه المجموعة تضم مالطا واليونان واسبانيا والبرتغال وايطاليا وكورسيكا الفرنسية بالفَرضِ. السُّباعية تضم الشركاء الحقيقيّين لتونس داخل "الاتحاد الأوروبي ". وبالإضافة الى التفصيلات السابقة فان الفضاء الأوروبي ممزق بين شِق لا يثق في أوروبا في ملف المواجهة مع روسيا ويفضل المظلة الأمريكية - أوروبا الشرقية واليونان- ودول تضمر عداء تاريخيا لجوارها التركي وفي نفس الوقت تحتاج إلى العثمانية الاردوغانية الجديدة كجدار صد ضد تغول الثنائي الألماني الفرنسي أو الثنائي الشرلماني (الجرماني الفرنكي) الذي يرفضه الكثيرون من داخل فرنسا كالكورسيك أحفاد نابوليون والباسك والبروطونوالنورمند. هذه أوروبا العجوز التي يقتضي التعامل معها حكمة بقدر تعقيداتها وتناقضاتها دون ان ننسى ان المرحلة تقتضي حنكة تواصلية عالية داخلية وخارجية تاخذ العبرة من تجارب أشقاءنا السابقين اللذين تم الانتقام منهم شر انتقام رغم ان بلدانهم لها قدرات وإمكانيات مكنتهم من الصمود والمواجهة إلى حدّ ما والعراق وليبيا أمثلة ساطعة لا تحتاج لتفصيل .
وفي هذه المرحلة يجب التركيز على الأولويات الحارقة كترتيب البيت الداخلي سياسيا وإعادة إحكام التصرف في الموارد العمومية والخاصة وتحرير الاقتصاد من المضاربة والريع التي لا تخدم إلا دوائر الاستعمار المتجدد في نهب ثروات المستعمرات السابقة كي تبقى مجرد مستقِلّاتٍ تابعة.
والحكمة في المستقبل المعنون بالتصحيح والاستقلالية تقتضي التعجيل بالاستفادة من الاستقرار في ليبيا ومن مساندة الجزائر للتمكن من الرد على كل محاولات الابتزاز القادمة حتما من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على أمل فك ارتهان اقتصادنا لهذه الجهات وتوسيع هامش التحرك تجاه منظومات الاستعمار المُرسكل في كيانات جهوية ودولية ولنا خير مثال في تجربة دول شقيقة ممانعة كإيران وسوريا راهنت على قدراتها الذاتية وقربها من الصين وروسيا لتجاوز الابتزاز والإذلال الدولي بنجاح. وإن السياسات الناجحة ليست سوى ترجمة تطلعات مجموعة يربطها وعي جمعي وسردية مشتركة بالنسبة لأمهات المسائل، رغم اختلاف التقدير في التفاصيل، و ستبقى مقولة الشابي " فمن لم يرم صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر"أروع تلخيص لوعي جمعي تقدمي ومسؤول وأدقُّ إسطرلاب في رفع التحديات الداخلية وفي تعيير اتجاهات التعامل مع "البراني"!.