إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

في ظل منظومة أحزاب عرجاء.. هل كانت لنا حياة حزبية وسياسية سليمة؟

 

تونس-الصباح

تداولت مؤخرا عديد المصادر خبر إغلاق مقر حزب قلب تونس بعد العجز عن تسديد معلوم الإيجار وسط حديث عن تراكم الديون، وفي ظل وجود رئيسه في السجن خارج البلاد بعد اجتياز الحدود خلسة وأيضا وجود بعض قياداته خارج البلاد. 

كما بدأ الحزب يشهد استقالات وتنصلا من قيادات أخرى  على غرار  النائب  بالبرلمان المجمدة أعماله  فؤاد ثامر الذي أعلن في تدوينة مفصلة نشرها على حسابه بالفيسبوك استقالته من حزب قلب تونس. منددا بما وصفها بدعوة رئيس كتلة الحزب أسامة الخليفي إلى التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي التونسي بعد مداخلة له في الجلسة العامة للمؤتمر العالمي الخامس لرؤساء البرلمان بفيينا.

ولعل ما يشهده حزب قلب تونس يبدو للوهلة الأولى نتيجة لما بعد 25 جويلية بعد اعلان الرئيس العمل بالإجراءات الاستثنائية وتجميد البرلمان والصورة  في ظاهرها كذلك إلا أنه إلى جانب الواقع المفروض في ظل الظروف الاستثنائية لا يجب أن يكون الشجرة التي تحجب الغابة فمثال وواقع ومآل حزب قلب تونس هو في حقيقة الأمر أنموذج ونتيجة حتمية تعبر عن هشاشة الأحزاب وعللها وواقعها المرير الذي لا يقتصر على ما بعد 25 جويلية بل يمتد إلى كامل فترة الانتقال. وربما ما فعلته قرارات 25 جويلية هو طرح الأشكال الرئيسي الذي عانت منه تجربة الانتقال الديمقراطي طيلة العشر سنوات التي لم تعش يوما في ظل منظومة حزبية سليمة قادرة على التأسيس لحياة ومشهد سياسي سليم لأنها بكل بساطة كانت عرجاء وعليلة وعوض أن تكون القاطرة لقيادة البلاد إلى بر الأمان تحولت إلى عبء ثقيل ساهم في التعطيل والإرباك. 

قطعا ومنذ البداية من المهم الإشارة إلى أن هذا الطرح والهدف من إثارة واقع المنظومة الحزبية في بلادنا، ليس الغرض منه التماهي مع الأطروحات الراهنة التي تصب في خانة الكفر بالمنظومة الحزبية والدفع للقفز في المجهول وفي نظام جديد مغاير وبديل  للديمقراطية وللحياة السياسية المبنية أساسا على الأحزاب، لكن هو فقط محاولة لتفكيك وفهم واقع الأحزاب في تونس حكما ومعارضة على امتداد ما بعد 14 جانفي.

رجة 25 جويلية

مثلت إجراءات 25 جويلية رجة ومرحلة مفصلية يمكن من خلالها الوقوف على بعض من هنات المنظومة الحزبية في بلادنا وهشاشة هذا البناء الحزبي وتشوهاته الخلقية التي قد لا يستثنى منها أي حزب وربما هذا جزء هام مما ارتكز عليه مشروع الرئيس قيس سعيد وكان تمهيدا له في خطواته على امتداد فترة رئاسته وصولا إلى حدث إقراره العمل بالإجراءات الاستثنائية وتجميد أعمال البرلمان وبالتالي تجميد الأحزاب حكما ومعارضة .

وتكفى قراءة ردود فعل هذه الأحزاب ومواقفها من حدث 25 جويلية والتداعيات داخلها لمعرفة وهن وضعف هذه التنظيمات التي بدت بلا وجود فعلى فاعل ومؤثر في المشهد، إلى حد اللحظة على الأقل.

لم تكن الأحزاب في تونس قادرة على التعبير عن مواقف واضحة وقوية بشأن خطوة رئيس الجمهورية حتى في صفوف تلك التي تعتبر الإجراءات المعلنة  استهدافا مباشرا لكوننتها ومصيرها. حيث سادت أنصاف المواقف والبيانات المرتبكة وأحيانا المتناقضة كما خيم الصمت على البعض الأخر .لم نشهد أيضا تنسيقا على مستوى عال بين الأحزاب والعائلات السياسية على الأقل المتقاربة في الموقف والوجهة للتفكير في خطوات عملية للتعاطي مع الواقع الجديد الذي فرضة رئيس الجمهورية لا فقط من أجل التصدي " للخطر الداهم" الذي يمكن أن يواجه هذه الأحزاب من وراء مشروع الرئيس قيس سعيد المعادي لفكرة المنظومة الحزبية التقليدية، لكن أيضا بهدف الضغط الإيجابي والدفع لتشريكهم في صياغة الخطوات القادمة ومصير البلاد مستقبلا.

 كل هذا لم نره إلى حد الآن ولا يمكن أن يكون مرد ذلك فقط المفاجأة أو التريث بل يبدو الإشكال أعمق ويحيل مباشرة إلى ضعف هذه الأحزاب فكرا وبناء وتنظما.

أحزاب الصدفة

إن المثال المذكور أنفا وهو حزب قلب تونس قد يكون اختزالا لعديد الدكاكين الحزبية الناشئة على امتداد السنوات الأخيرة التي تتشكل دون بوصلة ودون برامج ودون التزام بأسس البناء الحزبي وأهدافه فتنشأ عادة حول فكرة الفوز في الانتخابات وحول التجميع على عاقدة الانتهازية والمصلحة الآنية والشخصية  لكن سرعان ما تتصدع جبهتها الداخلية لسبب أو لآخر وينفرط عقدها وتتلاشى وتفوت على البلاد فرصة ولادة أحزاب حقيقة وقوية مهيكلة لها رؤية وبرنامج للحكم.

وحصر قائمة هذه الأحزاب قد يطول منذ ما بعد 14 جانفي إلى اليوم لكن تكفي فقط الإشارة إلى "تيار المحبة" و"حزب توا" و تجربة النداء واليوم قلب تونس..

إلى جانب الانتهازية واجهت هذه الأحزاب التداخل المريب بين العمل الحزبي والجمعياتي وأزمة الهوس بالزعامة وغياب الديمقراطية داخلها والانتدابات في الصفوف الأولى أو الترشيحات للمناصب العليا، لا على أساس الكفاءة والقدرة بل على قاعدة الولاء والقرابة العائلية والشخصية وكثيرا ما تصدعت هذه الأحزاب وعرفت انشقاقات وعلميات تفريخ من رحمها لدكاكين حزبية أخرى( تجربة النداء) كما  فشلت محاولات الانصهار (باستثناء تجربة يتيمة صلب التيار الديمقراطي ) وأجهضت مبادرات وتجارب تشكيل جبهات ( الجبهة الشعبية أبرز مثالا)... كل ذلك عطل مسار التأسيس لحياة سياسية سليمة ومتوازنة تقطع مع الاستقطاب الثنائي الذي دمر التجربة وفوت فرص الإصلاح والمحاسبة والتأسيس الديمقراطي على قواعد متينة.

يضيف في هذا السياق وفي تقيمه للتجربة الحزبية، الأستاذ في علم الاجتماع  محمد الجويلي بأن " الأزمة بدأت  تنخر أحزابنا السياسية في تونس ولو بدرجات متفاوتة ومما عمّق أزمتها الانتقال الديموقراطي الذي وضعها أمام معضلات فكرية وسياسية وأخلاقية كبيرة. كما وضعتها كذلك معضلة الحوكمة التي فشلت فيها الأحزاب السياسية في تونس لأنها تريد أن تفعل سياسيا في مرحلة انتقال ديموقراطي بعقلية تقليدية تكاد تكون مرسومة بعقلية الشيخ والمريد. وهو ما جعلها غير قادرة على مواجهة تحديات المرحلة، بل وفشل الكثير منها -رغم صعوده المدوي- في البقاء والتواصل".

معضلة الشفافية

 للأسف كان أيضا لمسألة غياب الشفافية المالية لدى الأحزاب السياسية تأثير واضح وكبير  على الحياة السياسية كما لم يتسن على امتداد فترة الانتقال الديمقراطي،رغم التمرس على إجراء أكثر من الانتخابات، مراقبة العملية الانتخابية وتحصينها من تأثيرات المال السياسي وتداعيات تلك الشبهات على مكانة وصورة الأحزاب لدى الرأي العام .

ورغم ما تقره أحكام الفصل 26 من المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية ويقضي بأن "يُرفع تقرير مراقبة الحسابات إلى الوزير الأول في أجل شهر ابتداء من تاريخ تسليم مراقبي الحسابات لقوائم الحزب المالية".

لم ترفع الأحزاب المخالفة تقرير مراقبة حساباتها إلى رئاسة الحكومة لسبع سنوات متتالية منذ سنة 2012.

كما أعلنت سابقا وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، في بلاغ بها، إنه "تم توجيه تنبيه إلى 190 حزبا لدعوتها إلى رفع المخالفات المتعلقة بالشفافية المالية، وقالت إنه تم بالتنسيق مع المكلف العام بنزاعات الدولة استصدار أذونات قضائية لتعليق نشاط 29 حزبًا تمادت في المخالفة منها 12 حزبًا تم رفع قضايا ضدها في الحلّ".

كما ساهم دون شك تقرير محكمة المحاسبات في تونس حول الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، في تعميق الصورة القاتمة حول ذمة ووطنية هذه الأحزاب لدى الرأي العام وغذي الجدل والمخاوف حول تأثير تدخل أطراف خارجية في المشهد السياسي الداخلي. وتهديد المال السياسي والتمويل الأجنبي للأحزاب وللمسار الديمقراطي ولنزاهة الانتخابات.

وللتذكير فقد كشفت  فضيلة القرقوري، رئيسة دائرة بمحكمة المحاسبات، أفادت بأن المحكمة رصدت خلال عملها الرقابي على الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية لسنة 2019، العديد من الإخلالات التي شابت الحسابية المالية للمترشحين وشرعية الموارد ومجالات إنفاقها وعدم الإفصاح عن مصادر التمويل واستعمال مال مشبوه غير مصرح به في الحملات الانتخابية وعدم احترام أحكام مرسوم الأحزاب.

كما تضمن تقرير محكمة المحاسبات التأكيد على وجود 400 مرشح للبرلمان ينتمون في الوقت نفسه إلى مجالس تسيير جمعيات مما قد ينتج عنه مخاطر تداخل بين تمويل عمل الجمعيات والعمل السياسي.

وكشف التقرير أيضا عن صفحات للإشهار السياسي مولت  من الخارج عبر حسابات أجنبية ولم يتم التصريح بذلك، والمخالفات تخص أحزاب "النهضة" و"قلب تونس" و"تحيا تونس" و"آفاق تونس" وقائمات مستقلة.

كما كشفت  المحكمة  عن وجود قرائن قوية حول "تعاقد أشخاص وأحزاب سواء بصفة مباشرة أو لفائدتهم مع شركات أجنبية بقصد كسب التأييد، تتقاطع مدد تنفيذها مع الفترة الانتخابية، إلى جانب شبهة بخصوص أحد الفائزين في الانتخابات التشريعية الذي انتفع بتحويلات وأصدر تحويلات بمبالغ هامة وقام بعمليات سحب تزامناً مع الانتخابات".

 وجاء في التقرير، "أن المرشح للانتخابات الرئاسية، زعيم حزب "قلب تونس" نبيل القروي، شارك في عدد من أنشطة جمعية "خليل تونس" التي روج لها عبر برنامج تلفزيوني في قناة "نسمة" الخاصة. وذكر التقرير أن القروي تعامل مع شركة ضغط أجنبية بمبلغ قيمته مليون دولار تم تحويل دفعة منه تساوي 150 ألف دولار من حساب زوجته في الخارج وهو حساب غير مصرح به لدى البنك المركزي".

كشفت أيضا محاضر هيئة الانتخابات التي درستها هيئة الانتخابات  أن رئيس الحكومة الأسبق والمرشح للانتخابات الرئاسية حينها يوسف الشاهد استعمل موارد الإدارة العمومية أثناء قيامه بأنشطة حملته الانتخابية.

هذا فيض من غيض حول واقع حزبي أعرج يتحمل جزءا من فشل التأسيس لحياة ديمقراطية وسياسية ناجعة عطلت وكبلت مسار الانتقال واليوم هو في مفترق طرق.

ولعل الأحزاب في تونس اليوم التي ينطبق عليها قول "نعيب زماننا والعيب فينا"، مدعوة لمراجعات جذرية وتحويل رجة 25 جويلية إلى فرصة للتأسيس الجديد على قاعدة الاستفادة من الأخطاء وأخذ العبرة من المآلات.

م.ي

في ظل منظومة أحزاب عرجاء.. هل كانت لنا حياة حزبية وسياسية سليمة؟

 

تونس-الصباح

تداولت مؤخرا عديد المصادر خبر إغلاق مقر حزب قلب تونس بعد العجز عن تسديد معلوم الإيجار وسط حديث عن تراكم الديون، وفي ظل وجود رئيسه في السجن خارج البلاد بعد اجتياز الحدود خلسة وأيضا وجود بعض قياداته خارج البلاد. 

كما بدأ الحزب يشهد استقالات وتنصلا من قيادات أخرى  على غرار  النائب  بالبرلمان المجمدة أعماله  فؤاد ثامر الذي أعلن في تدوينة مفصلة نشرها على حسابه بالفيسبوك استقالته من حزب قلب تونس. منددا بما وصفها بدعوة رئيس كتلة الحزب أسامة الخليفي إلى التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي التونسي بعد مداخلة له في الجلسة العامة للمؤتمر العالمي الخامس لرؤساء البرلمان بفيينا.

ولعل ما يشهده حزب قلب تونس يبدو للوهلة الأولى نتيجة لما بعد 25 جويلية بعد اعلان الرئيس العمل بالإجراءات الاستثنائية وتجميد البرلمان والصورة  في ظاهرها كذلك إلا أنه إلى جانب الواقع المفروض في ظل الظروف الاستثنائية لا يجب أن يكون الشجرة التي تحجب الغابة فمثال وواقع ومآل حزب قلب تونس هو في حقيقة الأمر أنموذج ونتيجة حتمية تعبر عن هشاشة الأحزاب وعللها وواقعها المرير الذي لا يقتصر على ما بعد 25 جويلية بل يمتد إلى كامل فترة الانتقال. وربما ما فعلته قرارات 25 جويلية هو طرح الأشكال الرئيسي الذي عانت منه تجربة الانتقال الديمقراطي طيلة العشر سنوات التي لم تعش يوما في ظل منظومة حزبية سليمة قادرة على التأسيس لحياة ومشهد سياسي سليم لأنها بكل بساطة كانت عرجاء وعليلة وعوض أن تكون القاطرة لقيادة البلاد إلى بر الأمان تحولت إلى عبء ثقيل ساهم في التعطيل والإرباك. 

قطعا ومنذ البداية من المهم الإشارة إلى أن هذا الطرح والهدف من إثارة واقع المنظومة الحزبية في بلادنا، ليس الغرض منه التماهي مع الأطروحات الراهنة التي تصب في خانة الكفر بالمنظومة الحزبية والدفع للقفز في المجهول وفي نظام جديد مغاير وبديل  للديمقراطية وللحياة السياسية المبنية أساسا على الأحزاب، لكن هو فقط محاولة لتفكيك وفهم واقع الأحزاب في تونس حكما ومعارضة على امتداد ما بعد 14 جانفي.

رجة 25 جويلية

مثلت إجراءات 25 جويلية رجة ومرحلة مفصلية يمكن من خلالها الوقوف على بعض من هنات المنظومة الحزبية في بلادنا وهشاشة هذا البناء الحزبي وتشوهاته الخلقية التي قد لا يستثنى منها أي حزب وربما هذا جزء هام مما ارتكز عليه مشروع الرئيس قيس سعيد وكان تمهيدا له في خطواته على امتداد فترة رئاسته وصولا إلى حدث إقراره العمل بالإجراءات الاستثنائية وتجميد أعمال البرلمان وبالتالي تجميد الأحزاب حكما ومعارضة .

وتكفى قراءة ردود فعل هذه الأحزاب ومواقفها من حدث 25 جويلية والتداعيات داخلها لمعرفة وهن وضعف هذه التنظيمات التي بدت بلا وجود فعلى فاعل ومؤثر في المشهد، إلى حد اللحظة على الأقل.

لم تكن الأحزاب في تونس قادرة على التعبير عن مواقف واضحة وقوية بشأن خطوة رئيس الجمهورية حتى في صفوف تلك التي تعتبر الإجراءات المعلنة  استهدافا مباشرا لكوننتها ومصيرها. حيث سادت أنصاف المواقف والبيانات المرتبكة وأحيانا المتناقضة كما خيم الصمت على البعض الأخر .لم نشهد أيضا تنسيقا على مستوى عال بين الأحزاب والعائلات السياسية على الأقل المتقاربة في الموقف والوجهة للتفكير في خطوات عملية للتعاطي مع الواقع الجديد الذي فرضة رئيس الجمهورية لا فقط من أجل التصدي " للخطر الداهم" الذي يمكن أن يواجه هذه الأحزاب من وراء مشروع الرئيس قيس سعيد المعادي لفكرة المنظومة الحزبية التقليدية، لكن أيضا بهدف الضغط الإيجابي والدفع لتشريكهم في صياغة الخطوات القادمة ومصير البلاد مستقبلا.

 كل هذا لم نره إلى حد الآن ولا يمكن أن يكون مرد ذلك فقط المفاجأة أو التريث بل يبدو الإشكال أعمق ويحيل مباشرة إلى ضعف هذه الأحزاب فكرا وبناء وتنظما.

أحزاب الصدفة

إن المثال المذكور أنفا وهو حزب قلب تونس قد يكون اختزالا لعديد الدكاكين الحزبية الناشئة على امتداد السنوات الأخيرة التي تتشكل دون بوصلة ودون برامج ودون التزام بأسس البناء الحزبي وأهدافه فتنشأ عادة حول فكرة الفوز في الانتخابات وحول التجميع على عاقدة الانتهازية والمصلحة الآنية والشخصية  لكن سرعان ما تتصدع جبهتها الداخلية لسبب أو لآخر وينفرط عقدها وتتلاشى وتفوت على البلاد فرصة ولادة أحزاب حقيقة وقوية مهيكلة لها رؤية وبرنامج للحكم.

وحصر قائمة هذه الأحزاب قد يطول منذ ما بعد 14 جانفي إلى اليوم لكن تكفي فقط الإشارة إلى "تيار المحبة" و"حزب توا" و تجربة النداء واليوم قلب تونس..

إلى جانب الانتهازية واجهت هذه الأحزاب التداخل المريب بين العمل الحزبي والجمعياتي وأزمة الهوس بالزعامة وغياب الديمقراطية داخلها والانتدابات في الصفوف الأولى أو الترشيحات للمناصب العليا، لا على أساس الكفاءة والقدرة بل على قاعدة الولاء والقرابة العائلية والشخصية وكثيرا ما تصدعت هذه الأحزاب وعرفت انشقاقات وعلميات تفريخ من رحمها لدكاكين حزبية أخرى( تجربة النداء) كما  فشلت محاولات الانصهار (باستثناء تجربة يتيمة صلب التيار الديمقراطي ) وأجهضت مبادرات وتجارب تشكيل جبهات ( الجبهة الشعبية أبرز مثالا)... كل ذلك عطل مسار التأسيس لحياة سياسية سليمة ومتوازنة تقطع مع الاستقطاب الثنائي الذي دمر التجربة وفوت فرص الإصلاح والمحاسبة والتأسيس الديمقراطي على قواعد متينة.

يضيف في هذا السياق وفي تقيمه للتجربة الحزبية، الأستاذ في علم الاجتماع  محمد الجويلي بأن " الأزمة بدأت  تنخر أحزابنا السياسية في تونس ولو بدرجات متفاوتة ومما عمّق أزمتها الانتقال الديموقراطي الذي وضعها أمام معضلات فكرية وسياسية وأخلاقية كبيرة. كما وضعتها كذلك معضلة الحوكمة التي فشلت فيها الأحزاب السياسية في تونس لأنها تريد أن تفعل سياسيا في مرحلة انتقال ديموقراطي بعقلية تقليدية تكاد تكون مرسومة بعقلية الشيخ والمريد. وهو ما جعلها غير قادرة على مواجهة تحديات المرحلة، بل وفشل الكثير منها -رغم صعوده المدوي- في البقاء والتواصل".

معضلة الشفافية

 للأسف كان أيضا لمسألة غياب الشفافية المالية لدى الأحزاب السياسية تأثير واضح وكبير  على الحياة السياسية كما لم يتسن على امتداد فترة الانتقال الديمقراطي،رغم التمرس على إجراء أكثر من الانتخابات، مراقبة العملية الانتخابية وتحصينها من تأثيرات المال السياسي وتداعيات تلك الشبهات على مكانة وصورة الأحزاب لدى الرأي العام .

ورغم ما تقره أحكام الفصل 26 من المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية ويقضي بأن "يُرفع تقرير مراقبة الحسابات إلى الوزير الأول في أجل شهر ابتداء من تاريخ تسليم مراقبي الحسابات لقوائم الحزب المالية".

لم ترفع الأحزاب المخالفة تقرير مراقبة حساباتها إلى رئاسة الحكومة لسبع سنوات متتالية منذ سنة 2012.

كما أعلنت سابقا وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، في بلاغ بها، إنه "تم توجيه تنبيه إلى 190 حزبا لدعوتها إلى رفع المخالفات المتعلقة بالشفافية المالية، وقالت إنه تم بالتنسيق مع المكلف العام بنزاعات الدولة استصدار أذونات قضائية لتعليق نشاط 29 حزبًا تمادت في المخالفة منها 12 حزبًا تم رفع قضايا ضدها في الحلّ".

كما ساهم دون شك تقرير محكمة المحاسبات في تونس حول الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، في تعميق الصورة القاتمة حول ذمة ووطنية هذه الأحزاب لدى الرأي العام وغذي الجدل والمخاوف حول تأثير تدخل أطراف خارجية في المشهد السياسي الداخلي. وتهديد المال السياسي والتمويل الأجنبي للأحزاب وللمسار الديمقراطي ولنزاهة الانتخابات.

وللتذكير فقد كشفت  فضيلة القرقوري، رئيسة دائرة بمحكمة المحاسبات، أفادت بأن المحكمة رصدت خلال عملها الرقابي على الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية لسنة 2019، العديد من الإخلالات التي شابت الحسابية المالية للمترشحين وشرعية الموارد ومجالات إنفاقها وعدم الإفصاح عن مصادر التمويل واستعمال مال مشبوه غير مصرح به في الحملات الانتخابية وعدم احترام أحكام مرسوم الأحزاب.

كما تضمن تقرير محكمة المحاسبات التأكيد على وجود 400 مرشح للبرلمان ينتمون في الوقت نفسه إلى مجالس تسيير جمعيات مما قد ينتج عنه مخاطر تداخل بين تمويل عمل الجمعيات والعمل السياسي.

وكشف التقرير أيضا عن صفحات للإشهار السياسي مولت  من الخارج عبر حسابات أجنبية ولم يتم التصريح بذلك، والمخالفات تخص أحزاب "النهضة" و"قلب تونس" و"تحيا تونس" و"آفاق تونس" وقائمات مستقلة.

كما كشفت  المحكمة  عن وجود قرائن قوية حول "تعاقد أشخاص وأحزاب سواء بصفة مباشرة أو لفائدتهم مع شركات أجنبية بقصد كسب التأييد، تتقاطع مدد تنفيذها مع الفترة الانتخابية، إلى جانب شبهة بخصوص أحد الفائزين في الانتخابات التشريعية الذي انتفع بتحويلات وأصدر تحويلات بمبالغ هامة وقام بعمليات سحب تزامناً مع الانتخابات".

 وجاء في التقرير، "أن المرشح للانتخابات الرئاسية، زعيم حزب "قلب تونس" نبيل القروي، شارك في عدد من أنشطة جمعية "خليل تونس" التي روج لها عبر برنامج تلفزيوني في قناة "نسمة" الخاصة. وذكر التقرير أن القروي تعامل مع شركة ضغط أجنبية بمبلغ قيمته مليون دولار تم تحويل دفعة منه تساوي 150 ألف دولار من حساب زوجته في الخارج وهو حساب غير مصرح به لدى البنك المركزي".

كشفت أيضا محاضر هيئة الانتخابات التي درستها هيئة الانتخابات  أن رئيس الحكومة الأسبق والمرشح للانتخابات الرئاسية حينها يوسف الشاهد استعمل موارد الإدارة العمومية أثناء قيامه بأنشطة حملته الانتخابية.

هذا فيض من غيض حول واقع حزبي أعرج يتحمل جزءا من فشل التأسيس لحياة ديمقراطية وسياسية ناجعة عطلت وكبلت مسار الانتقال واليوم هو في مفترق طرق.

ولعل الأحزاب في تونس اليوم التي ينطبق عليها قول "نعيب زماننا والعيب فينا"، مدعوة لمراجعات جذرية وتحويل رجة 25 جويلية إلى فرصة للتأسيس الجديد على قاعدة الاستفادة من الأخطاء وأخذ العبرة من المآلات.

م.ي

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews