إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مؤشرات صادمة وبوصلة تائهة .. هل أصبحت تونس خارج العصر؟  

من المفترض أن تسلك الدول السائرة في طريق النمو طريقا واحدة تؤدي بها في النهاية إلى أن تصبح دولة متقدمة، بالرغم مما في تقسيم العالم إلى عوالم أولى وثانية وثالثة من عنصرية و»مؤامرات». ولكن الطبيعة البشرية لا تتحمل السكون، التطور نحو الأمام أو الوراء هو ما يحدث دائما. نعلم أننا إن لم نتقدم فإننا نتأخر، ونعلم أيضا أن هذا هو حال تونس في مجالات عديدة ولا تستطيع أن تفوته العين المجردة.

كيف يمكن أن تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ أول شيء ستقوم به هو التجول في طرقاتها، بين طرقاتنا ينتابك شعور عام بأن كل من هو معني أو مسؤول عن نظافة الطرقات وسلامتها قد تقاعد، أعشاب طفيلية، حفر متناثرة هنا وهناك وغياب تام للأزهار أو التشذيب والتجميل، دون أن نذكر الأوساخ والفضلات والأكياس البلاستيكية التي تتطاير في السماء.  الطرقات هي مرآة الاقتصاد والتقدم وهي أيضا مرآة لوعي المواطنين وحفاظهم على سلامة الممتلكات العمومية، ولكنها أيضا تصنع حلقة مفرغة ندور فيها جميعا. عندما تتوجه إلى العمل أو الدراسة في الصباح لن تترسخ في ذهنك سوى تلك المشاهد المتكررة للبناءات العشوائية والفضلات والطرقات الحزينة، تلك الصور ستتجسد في عملك ودراستك ستصبح أمرا واقعا نتقبله ونقبله ونتعايش معه ونعيد إنتاجه. ولكن بمجرد أن نغير هذا الأمر لن تتغير الطرقات فقط بل أمور كثيرة أيضا.

كيف تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ انظر إلى معيشة ساكنها. هل يمكنهم تأمين حاجياتهم الضرورية، الادخار وتخصيص ميزانية للترفيه. إن كنت تعمل في القطاع الخاص أو العام أجير أو صاحب مؤسسة وكنت ممن يدفعون الضرائب، فلك أن تحصل في المقابل على خدمات ذات جودة عالية. تلك هي العملية الحسابية البسيطة. عندما يدخل خلل على هذه العملية عادة ما سينتهي إلى خلل على مستوى أداء الفرد والمجموعة. وندخل أيضا في دائرة مفرغة إذا كان المدخول من العمل غير كاف، تبحث عن عمل إضافي، تفقد شغفك، تتراجع إنتاجيتك، يمكن أن تقبل مداخيل إضافية غير مشروعة، من الصعب أن تبدع في عملك، ستفكر في هموم العمل ولكن أيضا في كيفية تأمين كل حاجياتك، لن ينصب تركيزك على عملك وأنت تدرك جيدا أن المنظومة كلها ستتكفل بالباقي، لأنك تعلم أن المنظومة ما عادت تعمل. 

كيف تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ انظر إلى حضور التكنولوجيا في يومياتها. أين نحن من عصر الذكاء الاصطناعي؟ وهل سهلت التكنولوجيا حياتنا أم زادتها تعقيدا؟ بأن تكون خارج العالم الرقمي فأنت خارج التاريخ. التقارير عديدة تلك التي تتحدث عن أهمية الانتقال الرقمي للاقتصاد والمجتمع، لمقاومة الفساد والحد منه،لتسهيل حياة المواطنين، لتأمين التعليم عن بعد إذا ضربنا فجأة وباء جديد، للانفتاح على سياحة من نوع آخر على استضافة العاملين عن بعد والرحالة الرقميين على الاستثمار في الزيارات الافتراضية على إطلاق منصات وتطبيقات وطنية ودعمها في تونس والعالم. هنالك الكثير من المبدعين والمطورين والمبادرين، ولكن الانتقال الرقمي بقي إلى سنوات شعارا لم يتحقق في أبسط تجلياته بعد.

كيف تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ انظر إلى مكانة العلم والعمل فيها. نجحت تونس في إطلاق أول قمر صناعي، حدث لم تتوقف عديد المواقع الأجنبية عن الحديث عنه لأسابيع، هنالك الكثير من الباحثين التونسيين في العلوم الصحيحة والإنسانية ممن تنشر أبحاثهم في مجلات علمية محكمة ومعروفة، هنالك الكثير من المفكرين التونسيين الذين تجاوز إشعاعهم حدود الوطن. هنالك الكثير من مشاريع التخرج في مجالات كثيرة قادرة على أن تغير وجه البلد. ولكن التمثل العام للعلم في ذهن المواطن التونسي ليس إيجابيا بالمرة. العلم لا يترجم إلى عائد مادي ومعنوي، لا تُتطبق في تونس معادلة أن من يتعلم أكثر يحصد مكانة مادية واجتماعية أكبر وهذا أول دافع لهجرة الأدمغة. تقول عديد الدراسات حول الموظفين في أوساط غربية أن أول شيء يدفع الشخص إلى الاستقالة هو غياب التقدير. نحن لا نبارك من أحسن عملا لا نقدره لا معنويا ولا ماديا. وهذه الثقافة يجب أن تتغير جذريا، بدل مزيد تغذية ثقافة مقابلة قوامها أن من يعمل ويتعلم نستنزفه ومن يتهاون و»يكرر» نغض الطرف عنه.

كيف تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ انظر إلى معدلات الجريمة فيها. عندما تتجول في دولة متقدمة، تشعر بالأمان، هنالك بعض الدول التي وصلت نسبة الجريمة فيها إلى الصفر. ولكننا وتدريجيا أصبحنا بلدا تكثر فيها معدلات الجريمة لأسباب متداخلة، ولكن الأمن ليس شرطيا يحرس الطريق، الأمن أعمق من ذلك، الأمن هو القضاء على الأسباب المؤدية إلى الجريمة والقضاء على الأسباب التي تصنع مجرمين في السجون، والقضاء على الظروف المواتية لمخالفة القانون والتي لا يمكن لها أن تبدأ إلا بتطبيقه.

القيادة الحقيقية ليست تصريفا للأعمال، ما يفعله المسيرون managers هو أن يتأكدوا أن هنالك أهدافا قد تحققت وأن كلا يقوم بعمله، هنالك صورة معبرة أكثر عن هذا الأمر قدّمها الكاتب الشهير ستيفين كوفي عن الفرق بين المسير والقائد، عندما قال أن المسيرين هم من يضمنون أن كل أفراد المجموعة قد تجاوزوا الغابة بسلام، أما القادة فأولئك الذين يتسلقون أعلى شجرة ويحللون الوضع ويصرخون بأن هذه الغابة ليست الغابة التي عليهم قطعها، في حين يدعوهم المسيرون والمنتجون إلى الصمت لأنهم يحققون تقدما. وإلى أن يتقدم القادة الحقيقيون كل هذه المجالات التي تحدثنا عنها، لا يبدو أننا سنسير إلا في طريق الخروج عن التاريخ.

 

أروى الكعلي

جريدة الصباح

مؤشرات صادمة وبوصلة تائهة .. هل أصبحت تونس خارج العصر؟   

من المفترض أن تسلك الدول السائرة في طريق النمو طريقا واحدة تؤدي بها في النهاية إلى أن تصبح دولة متقدمة، بالرغم مما في تقسيم العالم إلى عوالم أولى وثانية وثالثة من عنصرية و»مؤامرات». ولكن الطبيعة البشرية لا تتحمل السكون، التطور نحو الأمام أو الوراء هو ما يحدث دائما. نعلم أننا إن لم نتقدم فإننا نتأخر، ونعلم أيضا أن هذا هو حال تونس في مجالات عديدة ولا تستطيع أن تفوته العين المجردة.

كيف يمكن أن تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ أول شيء ستقوم به هو التجول في طرقاتها، بين طرقاتنا ينتابك شعور عام بأن كل من هو معني أو مسؤول عن نظافة الطرقات وسلامتها قد تقاعد، أعشاب طفيلية، حفر متناثرة هنا وهناك وغياب تام للأزهار أو التشذيب والتجميل، دون أن نذكر الأوساخ والفضلات والأكياس البلاستيكية التي تتطاير في السماء.  الطرقات هي مرآة الاقتصاد والتقدم وهي أيضا مرآة لوعي المواطنين وحفاظهم على سلامة الممتلكات العمومية، ولكنها أيضا تصنع حلقة مفرغة ندور فيها جميعا. عندما تتوجه إلى العمل أو الدراسة في الصباح لن تترسخ في ذهنك سوى تلك المشاهد المتكررة للبناءات العشوائية والفضلات والطرقات الحزينة، تلك الصور ستتجسد في عملك ودراستك ستصبح أمرا واقعا نتقبله ونقبله ونتعايش معه ونعيد إنتاجه. ولكن بمجرد أن نغير هذا الأمر لن تتغير الطرقات فقط بل أمور كثيرة أيضا.

كيف تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ انظر إلى معيشة ساكنها. هل يمكنهم تأمين حاجياتهم الضرورية، الادخار وتخصيص ميزانية للترفيه. إن كنت تعمل في القطاع الخاص أو العام أجير أو صاحب مؤسسة وكنت ممن يدفعون الضرائب، فلك أن تحصل في المقابل على خدمات ذات جودة عالية. تلك هي العملية الحسابية البسيطة. عندما يدخل خلل على هذه العملية عادة ما سينتهي إلى خلل على مستوى أداء الفرد والمجموعة. وندخل أيضا في دائرة مفرغة إذا كان المدخول من العمل غير كاف، تبحث عن عمل إضافي، تفقد شغفك، تتراجع إنتاجيتك، يمكن أن تقبل مداخيل إضافية غير مشروعة، من الصعب أن تبدع في عملك، ستفكر في هموم العمل ولكن أيضا في كيفية تأمين كل حاجياتك، لن ينصب تركيزك على عملك وأنت تدرك جيدا أن المنظومة كلها ستتكفل بالباقي، لأنك تعلم أن المنظومة ما عادت تعمل. 

كيف تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ انظر إلى حضور التكنولوجيا في يومياتها. أين نحن من عصر الذكاء الاصطناعي؟ وهل سهلت التكنولوجيا حياتنا أم زادتها تعقيدا؟ بأن تكون خارج العالم الرقمي فأنت خارج التاريخ. التقارير عديدة تلك التي تتحدث عن أهمية الانتقال الرقمي للاقتصاد والمجتمع، لمقاومة الفساد والحد منه،لتسهيل حياة المواطنين، لتأمين التعليم عن بعد إذا ضربنا فجأة وباء جديد، للانفتاح على سياحة من نوع آخر على استضافة العاملين عن بعد والرحالة الرقميين على الاستثمار في الزيارات الافتراضية على إطلاق منصات وتطبيقات وطنية ودعمها في تونس والعالم. هنالك الكثير من المبدعين والمطورين والمبادرين، ولكن الانتقال الرقمي بقي إلى سنوات شعارا لم يتحقق في أبسط تجلياته بعد.

كيف تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ انظر إلى مكانة العلم والعمل فيها. نجحت تونس في إطلاق أول قمر صناعي، حدث لم تتوقف عديد المواقع الأجنبية عن الحديث عنه لأسابيع، هنالك الكثير من الباحثين التونسيين في العلوم الصحيحة والإنسانية ممن تنشر أبحاثهم في مجلات علمية محكمة ومعروفة، هنالك الكثير من المفكرين التونسيين الذين تجاوز إشعاعهم حدود الوطن. هنالك الكثير من مشاريع التخرج في مجالات كثيرة قادرة على أن تغير وجه البلد. ولكن التمثل العام للعلم في ذهن المواطن التونسي ليس إيجابيا بالمرة. العلم لا يترجم إلى عائد مادي ومعنوي، لا تُتطبق في تونس معادلة أن من يتعلم أكثر يحصد مكانة مادية واجتماعية أكبر وهذا أول دافع لهجرة الأدمغة. تقول عديد الدراسات حول الموظفين في أوساط غربية أن أول شيء يدفع الشخص إلى الاستقالة هو غياب التقدير. نحن لا نبارك من أحسن عملا لا نقدره لا معنويا ولا ماديا. وهذه الثقافة يجب أن تتغير جذريا، بدل مزيد تغذية ثقافة مقابلة قوامها أن من يعمل ويتعلم نستنزفه ومن يتهاون و»يكرر» نغض الطرف عنه.

كيف تعرف إن كانت الدولة متقدمة؟ انظر إلى معدلات الجريمة فيها. عندما تتجول في دولة متقدمة، تشعر بالأمان، هنالك بعض الدول التي وصلت نسبة الجريمة فيها إلى الصفر. ولكننا وتدريجيا أصبحنا بلدا تكثر فيها معدلات الجريمة لأسباب متداخلة، ولكن الأمن ليس شرطيا يحرس الطريق، الأمن أعمق من ذلك، الأمن هو القضاء على الأسباب المؤدية إلى الجريمة والقضاء على الأسباب التي تصنع مجرمين في السجون، والقضاء على الظروف المواتية لمخالفة القانون والتي لا يمكن لها أن تبدأ إلا بتطبيقه.

القيادة الحقيقية ليست تصريفا للأعمال، ما يفعله المسيرون managers هو أن يتأكدوا أن هنالك أهدافا قد تحققت وأن كلا يقوم بعمله، هنالك صورة معبرة أكثر عن هذا الأمر قدّمها الكاتب الشهير ستيفين كوفي عن الفرق بين المسير والقائد، عندما قال أن المسيرين هم من يضمنون أن كل أفراد المجموعة قد تجاوزوا الغابة بسلام، أما القادة فأولئك الذين يتسلقون أعلى شجرة ويحللون الوضع ويصرخون بأن هذه الغابة ليست الغابة التي عليهم قطعها، في حين يدعوهم المسيرون والمنتجون إلى الصمت لأنهم يحققون تقدما. وإلى أن يتقدم القادة الحقيقيون كل هذه المجالات التي تحدثنا عنها، لا يبدو أننا سنسير إلا في طريق الخروج عن التاريخ.

 

أروى الكعلي

جريدة الصباح

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews