إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

السودان.. حرب تُهَجِّر الملايين وتختبر ضمير العالم

يشهد السودان منذ أكثر من عامين ونصف تصعيدا متسارعا في وتيرة الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية تعقيدًا في العالم  المعاصر فبعد أن تمركزت المعارك في إقليم دارفور وغرب البلاد، امتد النزاع مؤخرًا نحو وسط السودان وشرقه، مما يهدد بموجة نزوح جديدة ومزيد من التفكك الوطني تاركا خلفه بلدا منهكا.

بلد ممزق بين قوتين
انفجرت الأزمة بعد أشهر من التوتر بين القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وتعود جذور الخلاف إلى مسار الانتقال الديمقراطي بعد سقوط نظام عمر البشير في 2019، حيث تحوّلت الشراكة الهشة بين الجيش والدعم السريع إلى صراع على النفوذ والشرعية.
ومع اندلاع المعارك في الخرطوم ثم في دارفور وكردفان، سرعان ما تحوّل البلد إلى ساحة حرب شاملة، فانهارت مؤسسات الدولة وتوقفت الخدمات وتعرضت البنية التحتية للتدمير الممنهج، خاصة في العاصمة الخرطوم التي تحولت إلى مدينة أشباح.
وفق تقارير حديثة، وسّعت قوات الدعم السريع نطاق عملياتها شرقا بعد سيطرتها على مدينة الفاشر، كبرى مدن شمال دارفور. وتشير المعطيات إلى تقدمها نحو شمال كردفان وجنوب كردفان، وسط اشتباكات عنيفة وغارات بطائرات مسيّرة استهدفت مناطق مأهولة، أسفرت عن عشرات القتلى وخسائر واسعة في الممتلكات.
هذا التطور الميداني يعكس تحوّل النزاع من حرب تمركز في الغرب إلى صراع مفتوح متعدد الجبهات، ما يزيد من هشاشة الأمن الداخلي ويهدد خطوط الإمداد الإنساني.
في المقابل، يحاول الجيش السوداني إعادة تنظيم صفوفه انطلاقًا من بورت سودان على البحر الأحمر، حيث تتمركز الحكومة الانتقالية، فيما يُنظر إلى المعارك الجديدة على أنها سباق للسيطرة على الممرات الاستراتيجية بين الغرب والشرق.
تشير التقارير الميدانية إلى أن مناطق دارفور، التي كانت مسرحًا لبعض من أعنف مراحل الصراع، أصبحت الآن عمليًا مقسمة بين مجموعات قبلية وميليشيات ذات ولاءات متباينة. ولم تعد الحرب في دارفور مقتصرة على الصراع بين الجيش والدعم السريع، بل توسعت لتشمل مواجهات عرقية دامية، خاصة بين قبائل الزغاوة والمساليت والعرب.
ويُحذّر المراقبون من أن استمرار هذه الحرب قد يحوّل السودان إلى ساحة مفتوحة لميليشيات عبر الحدود وشبكات التهريب.


أزمة إنسانية بلا حدود
وفقًا لتقارير الأمم المتحدة (أكتوبر 2025)، نزح نحو 12.5 مليون سوداني داخل البلاد وخارجها حتى منتصف أكتوبر، بالإضافة إلى 140 ألفا آخرين فروا منذ أن شنت قوات الدعم السريع هجماتها على الفاشر وبلدات في منطقة كردفان. وتظهر بيانات المنظمة الدولية للهجرة أن معظمهم فروا إلى مناطق في محيط الفاشر لا يمكن لوكالات الإغاثة الوصول إليها، ويرجع ذلك جزئيا إلى مخاوف تتعلق بالسلامة.
هذه الأرقام تجعل من الأزمة السودانية أكبر أزمة نزوح في العالم اليوم، وتحذّر المنظمات الدولية من أن المجاعة تطرق الأبواب، خصوصًا في دارفور وولاية الجزيرة، بعدما دُمرت الأراضي الزراعية وتوقفت سلاسل الإمداد.
كما باتت الهجرة،  مع استمرار القتال،  الخيار الوحيد أمام ملايين السودانيين. لكن الرحلة نحو النجاة غالبًا ما تتحول إلى رحلة موت. ورغم المخاطر، تستمر موجات النزوح، لأن البقاء داخل السودان أصبح خطرًا وجوديًا ومع تزايد عدد اللاجئين، تواجه دول الجوار ضغوطًا اقتصادية وإنسانية غير مسبوقة، ما يثير مخاوف من عدم استقرار إقليمي يمتد إلى شمال إفريقيا والقرن الإفريقي.
محاولات سلام متعثّرة
على الصعيد السياسي، تبذل القوى الإقليمية والدولية جهودًا متجددة لوقف القتال، فقد طرحت  "الرباعية الدولية" (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر) مبادرة جديدة لوقف إطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، حيث أعلنت قوات الدعم السريع موافقتها المبدئية عليها، بينما رفضها الجيش السوداني معتبرًا أنها "غير متوازنة".
في موازاة ذلك، دعا مجلس الأمن الدولي إلى جلسة طارئة منتصف نوفمبر لمناقشة الأزمة، وسط تحذيرات أممية من أن "الوضع في السودان يخرج عن السيطرة بشكل متسارع".
لكنّ المراقبين يرون أن غياب الثقة بين الأطراف، والانقسامات داخل المعسكرين العسكري والسياسي، تُعرقل أي أفق لتسوية شاملة.
تعقّد هذه الانقسامات إمكانية الوصول إلى حل سياسي شامل، إذ يصبح ذلك شبه مستحيل دون تحقيق مصالحة مجتمعية واسعة، وهي عملية تتطلب سنوات طويلة لإعادة بناء الثقة بين المكونات المختلفة.
ويرى مراقبون أن الأزمة السودانية تدفع ثمن التوازنات الجيوسياسية، حيث تنشغل القوى الكبرى بملفات أوكرانيا وغزة، تاركة السودان في الهامش.
ووفقا لبيانات الأمم المتحدة، لم يتم توفير سوى أقل من 10 بالمئة من تمويل قدره 229 مليون دولار وجهت المنظمة الدولية للهجرة نداءات من أجل توفيره للسودان هذا العام. ويمثل هذا انخفاضا من 44 بالمئة من 212 مليون دولار للعام الماضي، قبل تخفيضات المساعدات الخارجية من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومانحين آخرين.
 في المقابل، تحاول المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي والإيغاد إعادة إطلاق مسار تفاوضي بين طرفي الصراع، لكن الانقسامات الداخلية وضعف الإرادة السياسية يعطلان أي اختراق حقيقي.


لا أفق قريب
مع تواصل الحرب وانهيار الاقتصاد، يقف السودان أمام خيارين الانزلاق نحو تفكك كامل للدولة، أو الشروع في مسار مصالحة وطنية حقيقي.
لكن هذا المسار يتطلب ما هو أكثر من وقف إطلاق النار، فهو يحتاج إلى إرادة سياسية موحّدة، وإلى دعم إقليمي ودولي جاد لإعادة بناء مؤسسات الدولة وإعادة اللاجئين إلى ديارهم بكرامة.
تُجمع مراكز الأبحاث الدولية على أن الحرب في السودان دخلت مرحلة جديدة من الاستنزاف المتبادل، حيث لا يبدو أن أيًّا من الطرفين قادر على تحقيق نصر عسكري حاسم.
ويرى خبراء أن استمرار غياب الحل السياسي وازدياد اعتماد الطرفين على الدعم الخارجي، قد يؤدي إلى تشظي البلاد فعليًا بين مناطق نفوذ عسكرية متنافسة.
البلاد غارقة في حرب تتسع رقعتها، واقتصاد ينهار بسرعة، وشعب يُهجّر من مناطقه في صمت.
ومع غياب أي مؤشرات على قرب التوصل إلى تسوية، يبدو أن المهاجر السوداني سيظل العنوان الأبرز لأزمة تهدد بترك أثر طويل الأمد على مستقبل السودان والمنطقة بأكملها، كما سيظل شاهدًا حيا على مأساة وطن ضيّعته الحرب.
 

 

منال العابدي

السودان.. حرب تُهَجِّر الملايين وتختبر ضمير العالم

يشهد السودان منذ أكثر من عامين ونصف تصعيدا متسارعا في وتيرة الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية تعقيدًا في العالم  المعاصر فبعد أن تمركزت المعارك في إقليم دارفور وغرب البلاد، امتد النزاع مؤخرًا نحو وسط السودان وشرقه، مما يهدد بموجة نزوح جديدة ومزيد من التفكك الوطني تاركا خلفه بلدا منهكا.

بلد ممزق بين قوتين
انفجرت الأزمة بعد أشهر من التوتر بين القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وتعود جذور الخلاف إلى مسار الانتقال الديمقراطي بعد سقوط نظام عمر البشير في 2019، حيث تحوّلت الشراكة الهشة بين الجيش والدعم السريع إلى صراع على النفوذ والشرعية.
ومع اندلاع المعارك في الخرطوم ثم في دارفور وكردفان، سرعان ما تحوّل البلد إلى ساحة حرب شاملة، فانهارت مؤسسات الدولة وتوقفت الخدمات وتعرضت البنية التحتية للتدمير الممنهج، خاصة في العاصمة الخرطوم التي تحولت إلى مدينة أشباح.
وفق تقارير حديثة، وسّعت قوات الدعم السريع نطاق عملياتها شرقا بعد سيطرتها على مدينة الفاشر، كبرى مدن شمال دارفور. وتشير المعطيات إلى تقدمها نحو شمال كردفان وجنوب كردفان، وسط اشتباكات عنيفة وغارات بطائرات مسيّرة استهدفت مناطق مأهولة، أسفرت عن عشرات القتلى وخسائر واسعة في الممتلكات.
هذا التطور الميداني يعكس تحوّل النزاع من حرب تمركز في الغرب إلى صراع مفتوح متعدد الجبهات، ما يزيد من هشاشة الأمن الداخلي ويهدد خطوط الإمداد الإنساني.
في المقابل، يحاول الجيش السوداني إعادة تنظيم صفوفه انطلاقًا من بورت سودان على البحر الأحمر، حيث تتمركز الحكومة الانتقالية، فيما يُنظر إلى المعارك الجديدة على أنها سباق للسيطرة على الممرات الاستراتيجية بين الغرب والشرق.
تشير التقارير الميدانية إلى أن مناطق دارفور، التي كانت مسرحًا لبعض من أعنف مراحل الصراع، أصبحت الآن عمليًا مقسمة بين مجموعات قبلية وميليشيات ذات ولاءات متباينة. ولم تعد الحرب في دارفور مقتصرة على الصراع بين الجيش والدعم السريع، بل توسعت لتشمل مواجهات عرقية دامية، خاصة بين قبائل الزغاوة والمساليت والعرب.
ويُحذّر المراقبون من أن استمرار هذه الحرب قد يحوّل السودان إلى ساحة مفتوحة لميليشيات عبر الحدود وشبكات التهريب.


أزمة إنسانية بلا حدود
وفقًا لتقارير الأمم المتحدة (أكتوبر 2025)، نزح نحو 12.5 مليون سوداني داخل البلاد وخارجها حتى منتصف أكتوبر، بالإضافة إلى 140 ألفا آخرين فروا منذ أن شنت قوات الدعم السريع هجماتها على الفاشر وبلدات في منطقة كردفان. وتظهر بيانات المنظمة الدولية للهجرة أن معظمهم فروا إلى مناطق في محيط الفاشر لا يمكن لوكالات الإغاثة الوصول إليها، ويرجع ذلك جزئيا إلى مخاوف تتعلق بالسلامة.
هذه الأرقام تجعل من الأزمة السودانية أكبر أزمة نزوح في العالم اليوم، وتحذّر المنظمات الدولية من أن المجاعة تطرق الأبواب، خصوصًا في دارفور وولاية الجزيرة، بعدما دُمرت الأراضي الزراعية وتوقفت سلاسل الإمداد.
كما باتت الهجرة،  مع استمرار القتال،  الخيار الوحيد أمام ملايين السودانيين. لكن الرحلة نحو النجاة غالبًا ما تتحول إلى رحلة موت. ورغم المخاطر، تستمر موجات النزوح، لأن البقاء داخل السودان أصبح خطرًا وجوديًا ومع تزايد عدد اللاجئين، تواجه دول الجوار ضغوطًا اقتصادية وإنسانية غير مسبوقة، ما يثير مخاوف من عدم استقرار إقليمي يمتد إلى شمال إفريقيا والقرن الإفريقي.
محاولات سلام متعثّرة
على الصعيد السياسي، تبذل القوى الإقليمية والدولية جهودًا متجددة لوقف القتال، فقد طرحت  "الرباعية الدولية" (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر) مبادرة جديدة لوقف إطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، حيث أعلنت قوات الدعم السريع موافقتها المبدئية عليها، بينما رفضها الجيش السوداني معتبرًا أنها "غير متوازنة".
في موازاة ذلك، دعا مجلس الأمن الدولي إلى جلسة طارئة منتصف نوفمبر لمناقشة الأزمة، وسط تحذيرات أممية من أن "الوضع في السودان يخرج عن السيطرة بشكل متسارع".
لكنّ المراقبين يرون أن غياب الثقة بين الأطراف، والانقسامات داخل المعسكرين العسكري والسياسي، تُعرقل أي أفق لتسوية شاملة.
تعقّد هذه الانقسامات إمكانية الوصول إلى حل سياسي شامل، إذ يصبح ذلك شبه مستحيل دون تحقيق مصالحة مجتمعية واسعة، وهي عملية تتطلب سنوات طويلة لإعادة بناء الثقة بين المكونات المختلفة.
ويرى مراقبون أن الأزمة السودانية تدفع ثمن التوازنات الجيوسياسية، حيث تنشغل القوى الكبرى بملفات أوكرانيا وغزة، تاركة السودان في الهامش.
ووفقا لبيانات الأمم المتحدة، لم يتم توفير سوى أقل من 10 بالمئة من تمويل قدره 229 مليون دولار وجهت المنظمة الدولية للهجرة نداءات من أجل توفيره للسودان هذا العام. ويمثل هذا انخفاضا من 44 بالمئة من 212 مليون دولار للعام الماضي، قبل تخفيضات المساعدات الخارجية من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومانحين آخرين.
 في المقابل، تحاول المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي والإيغاد إعادة إطلاق مسار تفاوضي بين طرفي الصراع، لكن الانقسامات الداخلية وضعف الإرادة السياسية يعطلان أي اختراق حقيقي.


لا أفق قريب
مع تواصل الحرب وانهيار الاقتصاد، يقف السودان أمام خيارين الانزلاق نحو تفكك كامل للدولة، أو الشروع في مسار مصالحة وطنية حقيقي.
لكن هذا المسار يتطلب ما هو أكثر من وقف إطلاق النار، فهو يحتاج إلى إرادة سياسية موحّدة، وإلى دعم إقليمي ودولي جاد لإعادة بناء مؤسسات الدولة وإعادة اللاجئين إلى ديارهم بكرامة.
تُجمع مراكز الأبحاث الدولية على أن الحرب في السودان دخلت مرحلة جديدة من الاستنزاف المتبادل، حيث لا يبدو أن أيًّا من الطرفين قادر على تحقيق نصر عسكري حاسم.
ويرى خبراء أن استمرار غياب الحل السياسي وازدياد اعتماد الطرفين على الدعم الخارجي، قد يؤدي إلى تشظي البلاد فعليًا بين مناطق نفوذ عسكرية متنافسة.
البلاد غارقة في حرب تتسع رقعتها، واقتصاد ينهار بسرعة، وشعب يُهجّر من مناطقه في صمت.
ومع غياب أي مؤشرات على قرب التوصل إلى تسوية، يبدو أن المهاجر السوداني سيظل العنوان الأبرز لأزمة تهدد بترك أثر طويل الأمد على مستقبل السودان والمنطقة بأكملها، كما سيظل شاهدًا حيا على مأساة وطن ضيّعته الحرب.
 

 

منال العابدي