إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بمناسبة غرة ماي 2024: تونس وأسباب تعطيل مسار الحرية والتقدم على امتداد 160 عاما (1864 –2024 )

 

عرف واقع البلاد التونسية، افتكاكا للثوابت وارتكاسا للعلوم والمعارف واختطافا للكفاءات واستغلالا للثروات

بقلم فتح الدين البودالي

تونس الإفريقية الإستراتيجية صاحبة الريادة الإبداعية التي قامت في مجملها وطابعها العام على مبادئ جوهرية كالحرية والعدالة والشورى والعلم والعمل والأخلاق من خلال الأسرة إلى أفق الدولة، فتلكم المبادئ مستخلصة من استقراء واسع لتعاليم الدين الإسلامي - الشخصية القاعدية لعموم الشعب التونسي - وصدحت بمكافحة نوازع الظلم والعبودية والاستبداد.

فطورًا بعد طور عرف واقع البلاد التونسية، افتكاكا للثوابت وارتكاسا للعلوم والمعارف واختطافا للكفاءات واستغلالا للثروات وانتهاكا للسيادة وصولا الى هدم الهوية وملازمة التخلّف، الأمر الذي يستدعي استحضارا للتاريخ وتجارب الأمم وحالات الانتكاس والارتكاز واشراقات الأحياء والاستفاقة على غرار الصحوة التي هي في أوج المخاض ومخاضات الصراع توقا الى القطع نهائيا مع التبعية الاستغلالية الاستعماريّة.

إجهاض دستور عهد الأمان (1861 – 1864)

مع إصدار دستور تنظيمي للدولة والمجتمع التونسي صدر ذلك النص التأسيسي في 21 جانفي 1861 فاتحا أمام البلاد طورا جديدا واعدا غير أن إطار انجاز الإصلاح لم يطل أمده غير ثلاثة أعوام، فقد كان ان اتفق إمبراطور فرنسا مع قنصله بتونس على إحباط مشروع الإصلاح الدستوري سنة 1864 بعد أن وجدا في الوزير الأكبر حينها الأداة الطيعة لتنفيذ الهدم بسبب سيطرته المطلقة على الباي، فقد كان كلاهما يناهض التيار الإصلاحي نتيجة حب الذات والخيانة والعمالة والارتجالية واللامسؤولية والامتلاك العضوض للعرش والحكم.

حصل ذلك رغم المحاولات المضنية التي قام بها رجالات الإصلاح وتحذيرهم من مغبة سياسة التخريب التي ستنتج عن التصرف الفردي والحكم المطلق... وبقدر ما كان ابتهاج عموم الشعب بالدستور والقوانين الإصلاحية الجديدة كان غضبه وسخطه على إبطال العمل بها... تلك كانت الثغرة التي آلت بتونس الى فوضى وإفلاس فإلى الاستعمار الفرنسي بدءا من سنة 1881.

إجهاض مشروع التنمية الشاملة والتقدم (1960 – 1970)

على درب الستينيات التي صبغتها الديناميكية والتعبوية والحيوية من اجل ملء الفراغ الذي خلفه الاستعمار (1881 – 1956) بعد 75 عاما بناءً وتشييدا على ضوء إصلاحات قطاعية بمنهجية شمولية وبحوث ودراسات تحقيقا لتنمية جهوية متوازنة بروح متقدة متفائلة ونظرة مستقبلية طموحة بهدف تحقيق التقدم على غرار الأمم الناهضة بفضل استقرار سياسي وأمني وديناميكية اقتصادية واجتماعية وثقافية لم تشهدها البلاد ومثلها إرادة سياسية ("خطاب الرئيس" الذي توجه به الى مجلس الأمّة – البرلمان - في 30 ديسمبر 1968 استعرض فيه تحسن الوضع الاقتصادي بنسبة نمو 10% مشيدا بتجربة القطاعات الثلاثة العام والتعاضدي والخاص التي اقرها مؤتمر المصير ببنزرت 1964 كحلم منشود لخلق أمّة وسط).

لكن مع الأسف جاءت أزمة تعميم التعاضد (1969 – 1970) المفتعلة والتراجع الكلّي في اختيارات الشعب في تعايش القطاعات الثلاثة (وهو الآن مطلب المجتمع المدني مجددا في صيغ جديدة) دون تقييم وتأمّل سببها تقرير السفير الفرنسي "سوفانيارغ" حين تدنى الميزان التجاري مع فرنسا من 76% الى 36% بتقرير "صيحة فزع" مفادها أن تونس على أبواب كارثة سياسة التعاضد اغتياظا من النجاح ومكرا للتخلص من رموز البلاد والإبقاء على التبعية.

واذكر على سبيل المثال ما عاشته جهة الكاف خلال هذه الفترة من استقطاب وتكوين الإطارات وتنمية شاملة وإصلاحات وانجازات قطاعية وبعد حضاري وأمن واستقرار كمضرب الأمثال زمن الأستاذ المناضل عبد السلام القلال الوالي المثالي القدوة. لو أننا تابعنا الخطى على نسق منتظم دون هزات لفرص أهدرت (كتابه الحلم والمنعرج الخطأ) وكيف أصبحت هذه الجهة اليوم في انتظار إحياء الأمل من بعد الانزلاق. من التوجه الاجتماعي الإنساني الى المجتمع الليبرالي الأناني المجحف ومجتمع الرأسمال (1970- 1987).

الى ان جاء بيان 7 نوفمبر 1987 فالميثاق الوطني ومؤتمر الإنقاذ فمشروع التأهيل الشامل لمقومات الدولة. لكن فجأة وقع الاصطدام المفتعل مرة أخرى عبر التخلص من الوطنيين الصادقين الأحرار فالعولمة والخصخصة والكسب غير المشروع والفساد مما كان له الوقع الشديد على فئات واسعة فقرا وبطالة وعزلة ونزوحا وهجرة (1987– 2010 = 23 عاما).

مرحلة الفتن الكبرى (1955 – 2010 = 55 عاما)

تعددت غوائل الفتنة وتأثيرها على مدى عقود ظلما وطمسا للأسباب الحقيقية بنيران اختراق المستعمر الفرنسي علما أن فرنسا مرتبطة تاريخيا بالمحفل الماسوني اليهودي، وهو يعد خطرا على الإسلام اذ تنحدر منه نوادي ليونس (Lyons منذ 1917) الخيرية الهادفة الى اختراق العقلية الشبابية وجعلها في خدمة أهداف الماسونية العالمية ومنها صنع رؤساء وزعماء العالم للتحكم في العالم عن طريق المال والفساد تمهيدا لإنشاء الدولة الصهيونية اليهودية.

• طمس نشاط الحركة الطلابية الزيتونية التي قادت أول اصطدام مع الاستعمار في موقعة مقبرة الجلاز عام 1911 دفاعا عن الهوية الوطنية الأصلية.

• افتكاك مشروع الحزب الحرّ الدستوري التونسي من ثمرات نشاط حراك تمديدي وتنويري ذي روح إسلامية تحررية سنة 1919 وهو أحد الأحزاب السياسية الأعرق في العالم الثالث وما انجر عنه من خيبة وحسرة (نفي وإبعاد وتصفية وتهميش).

• احتدام الخلاف السياسي القيادي حول مفاوضات الاستقلال المغشوش التام او المرحلي (1955- 1956) فحصل صراع وانقسام لم ينته الا في حدود سنة 1961 وخلف شرخا كبيرا بين أبناء الشعب بل بين أبناء العائلة الدستورية.

• إلغاء التعليم الزيتوني وانتهاك رمضان وازدراء الحجاب وحل منظومة الأوقاف وانتهاك السيادة بالغزو الفكري والإعلامي والثقافي واللغوي وتهميش التربية الدينية لصالح الانزياح الى العلمانية وصولا الى تفكك مؤسسة الأسرة.

• تحويل كل ما هو جدير ومبوأ للخلافة كمزاحم في الحكم الى أكباش فداء بثمن باهظ وتضحية جسيمة وحسرة وأسى مسنودا من أذى المحيط العائلي لمركز السلطة مدعوما باختراق الاستعمار.

• حرب طاحنة على القيم وزرع الأنانية والمحسوبية والجهوية فازداد الكذب والنفاق والحقد والحسد والمطامح والتّواكل والغدر والغش والخداع والخيانة والانحراف كل ذلك انعكس سلبا على الإنسان بأمراض ابتلى بها المجتمع.

• ضرب الاخوة هدما للهوية بورقة تهمة الإرهاب بالمرتزقة بعدة أشكال منها التطرف الديني الإقصائي وظاهرة "داعش" وصناعة التضليل بأدوات الخداع والتهويل والتخويف وقصف العقول وشراء العمالات من اجل استدامة الاستنزاف وصولا الى الأحكام القضائية السياسية بالسجن والتعذيب والنفي والتصفية حتى ظهر الحق – معركة "طوفان الأقصى7 أكتوبر 2023" التي عرت الاستعمار بوصفه صانع الإرهاب.

• تلهية الشعب بالخطب المسرحية وتوظيف مجهود النخب والمجتمع والشعب لحساب وحيد الى جانب الوعود الضامنة نزعتها للتقدم التي لم تحقق طموحات الشعب في العدالة والاكتفاء والتوازن الجهوي والأفراد في حين أضرت صورة الإعلام والدعاية الكاذبة بتونس حفاظا على كرسي السلطة والمواقع والامتيازات.

إرهاصات ثورة الربيع العربي (2011 – 2024) = 13 عاما

ومع تفاقم السوء وتدهور الأوضاع تعاظم بالمقابل النضج السياسي للشعب الذي ابهر العالم ففاضت كأس الغضب وانفجرت ثورة الربيع العربي 17-14 جانفي 2011 افتكاكا للحقوق والحريات والديمقراطية فكان الانتقال عبر سن دستور 2014 وإرساء معظم المؤسسات والهيئات الدستورية وأتاح للنخب السياسية تداولا سلميا على السلطة.

غير أن تعطيل المسار كان - كالعادة - في الموعد بأوامر فرنسا رأس الحربة عبر قوى الثورة المضادة بالالتفاف والعصيان والاعتصامات والتّرذيل والإجهاض لكل برامج الإصلاح والتنمية الى جانب التحركات الاجتماعية (35 ألف إضراب) وإعلام غسل الأدمغة وتضليل الجماهير ومعاداة كل ما له علاقة بالإسلام مع تورّط غريب بالاغتيالات الإرهابية وبالتمويل من دوائر عربية ثرية.

مقاربة لمتطلبات المرحلة القادمة أخذا بدروس الماضي وبالرجوع الى دستور الثورة مع تنقيحه والاتّعاظ بتجارب غيرنا من الأمم فإن تونس في مرحلتها المصيرية لمناعة البلاد بدءا بجلاء أصابع الاستعمار نهائيا وتجاوز التركة الثقيلة نحو خيار ثورة الحرية والكرامة والديمقراطية والإصلاح الدؤوب والوقوف بجد خاصة على :

• تكريس علوية العدالة.

• استئناف الهياكل والمجالس المنتخبة.

• إرساء بقية المؤسسات والهيآت الدستورية وخاصة المحكمة الدستورية.

• مصارحة الشعب بكل الخلفيات وعوامل الانتكاس.

• تثبيت التداول السلمي على السلطة وحسن اختيار الإطار.

• الانعطاف القوي الى معالجة تحديات التنمية .

• تخليص البلاد من مخالب المديونية والهشاشة الاجتماعية.

• تطهير البلاد من اخطبوط الفساد.

• التصدي لاستغلال الثروات مجانا.

• المصالحة الشاملة بعد المحاسبة .

• ترسيخ السيادة الوطنية وترتيب العلاقات الدولية ومبدأ الاحترام ورد الاعتبار.

وخلاصة القول أمام العبث بالمؤسسات والسيطرة على مفاصل الدولة ومخزونها المالي والثروات زمن الدولة العميقة – فرنسا – والتركة الثقيلة (160 عاما) وجسامة المرحلة الانتقالية الحاسمة وصبغتها التاريخية المصيرية والمستقبلية يتأكد بالضرورة حسن اختيار الإطار حسب درجات المسؤوليات من القمة الى القاعدة بالاعتماد على شروط قوامها : الأمانة – الصدق – القدوة – الكفاءة – التجربة – التدرج في ظل المراقبة والمحاسبة ووضع حد للمجانية والمحسوبية. وبالمناسبة أتوجه بأربع رسائل عميقة الأنفاس:

*إلى القوى الاجتماعية والنقابية أن تعمل وتتحرّك بإخلاص للوطن كما كانت عليه منذ التأسيس أيام التحرير والاستقلال والبناء والتخطيط والإنتاج والوقوف بجد نحو التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا السياسات الحزبوية والتجاذبات الأيديولوجية.

*الى سلطة الإعلام في تثبيت الثورة وتطلّعات البلاد الى حرّيتها وكرامتها بتحصينها من مؤامرات الغزو الفكري والاحتواء والانحلال والفتن من أجل مجتمع متعافي متحضر متوازن بكل أمانة ومسؤولية.

*الى المجتمع المدني والسياسي وبالخصوص المؤسسات الدستورية والأحزاب السياسية أن تتحمل مسؤوليتها في التثقيف والتّوعية والتأطير والتعبئة خدمة للتقدم ومناعة البلاد في وعي وحكمة واعتدال ونبذ كل شطط بل إشاعة الأمل والثقة بالمستقبل.

*الى المواطن باعتباره صاحب السيادة التونسية فهو الحكم المحوري المتحلي بالوعي واليقظة والمبادرة والمتابعة والمحاسبة ضمن روح تضامنية ومدافعة على كل المكتسبات في وجه المخاطر والفتن والأنانية والفساد.

وبذلك نكون حقا أوفياء لشهدائنا وروّادنا، متمسكين بقوة الإيمان والوحدة الوطنية وإرادة الشعب عبر مسؤولية النخب حبّا لمستقبل الأجيال وتقدم البلاد في كنف العدالة والحرية والكرامة والديمقراطية والمناعة الكاملة.

كاتب سياسي

 

 

 

 

 

بمناسبة غرة ماي 2024: تونس وأسباب تعطيل مسار الحرية والتقدم    على امتداد 160 عاما (1864 –2024 )

 

عرف واقع البلاد التونسية، افتكاكا للثوابت وارتكاسا للعلوم والمعارف واختطافا للكفاءات واستغلالا للثروات

بقلم فتح الدين البودالي

تونس الإفريقية الإستراتيجية صاحبة الريادة الإبداعية التي قامت في مجملها وطابعها العام على مبادئ جوهرية كالحرية والعدالة والشورى والعلم والعمل والأخلاق من خلال الأسرة إلى أفق الدولة، فتلكم المبادئ مستخلصة من استقراء واسع لتعاليم الدين الإسلامي - الشخصية القاعدية لعموم الشعب التونسي - وصدحت بمكافحة نوازع الظلم والعبودية والاستبداد.

فطورًا بعد طور عرف واقع البلاد التونسية، افتكاكا للثوابت وارتكاسا للعلوم والمعارف واختطافا للكفاءات واستغلالا للثروات وانتهاكا للسيادة وصولا الى هدم الهوية وملازمة التخلّف، الأمر الذي يستدعي استحضارا للتاريخ وتجارب الأمم وحالات الانتكاس والارتكاز واشراقات الأحياء والاستفاقة على غرار الصحوة التي هي في أوج المخاض ومخاضات الصراع توقا الى القطع نهائيا مع التبعية الاستغلالية الاستعماريّة.

إجهاض دستور عهد الأمان (1861 – 1864)

مع إصدار دستور تنظيمي للدولة والمجتمع التونسي صدر ذلك النص التأسيسي في 21 جانفي 1861 فاتحا أمام البلاد طورا جديدا واعدا غير أن إطار انجاز الإصلاح لم يطل أمده غير ثلاثة أعوام، فقد كان ان اتفق إمبراطور فرنسا مع قنصله بتونس على إحباط مشروع الإصلاح الدستوري سنة 1864 بعد أن وجدا في الوزير الأكبر حينها الأداة الطيعة لتنفيذ الهدم بسبب سيطرته المطلقة على الباي، فقد كان كلاهما يناهض التيار الإصلاحي نتيجة حب الذات والخيانة والعمالة والارتجالية واللامسؤولية والامتلاك العضوض للعرش والحكم.

حصل ذلك رغم المحاولات المضنية التي قام بها رجالات الإصلاح وتحذيرهم من مغبة سياسة التخريب التي ستنتج عن التصرف الفردي والحكم المطلق... وبقدر ما كان ابتهاج عموم الشعب بالدستور والقوانين الإصلاحية الجديدة كان غضبه وسخطه على إبطال العمل بها... تلك كانت الثغرة التي آلت بتونس الى فوضى وإفلاس فإلى الاستعمار الفرنسي بدءا من سنة 1881.

إجهاض مشروع التنمية الشاملة والتقدم (1960 – 1970)

على درب الستينيات التي صبغتها الديناميكية والتعبوية والحيوية من اجل ملء الفراغ الذي خلفه الاستعمار (1881 – 1956) بعد 75 عاما بناءً وتشييدا على ضوء إصلاحات قطاعية بمنهجية شمولية وبحوث ودراسات تحقيقا لتنمية جهوية متوازنة بروح متقدة متفائلة ونظرة مستقبلية طموحة بهدف تحقيق التقدم على غرار الأمم الناهضة بفضل استقرار سياسي وأمني وديناميكية اقتصادية واجتماعية وثقافية لم تشهدها البلاد ومثلها إرادة سياسية ("خطاب الرئيس" الذي توجه به الى مجلس الأمّة – البرلمان - في 30 ديسمبر 1968 استعرض فيه تحسن الوضع الاقتصادي بنسبة نمو 10% مشيدا بتجربة القطاعات الثلاثة العام والتعاضدي والخاص التي اقرها مؤتمر المصير ببنزرت 1964 كحلم منشود لخلق أمّة وسط).

لكن مع الأسف جاءت أزمة تعميم التعاضد (1969 – 1970) المفتعلة والتراجع الكلّي في اختيارات الشعب في تعايش القطاعات الثلاثة (وهو الآن مطلب المجتمع المدني مجددا في صيغ جديدة) دون تقييم وتأمّل سببها تقرير السفير الفرنسي "سوفانيارغ" حين تدنى الميزان التجاري مع فرنسا من 76% الى 36% بتقرير "صيحة فزع" مفادها أن تونس على أبواب كارثة سياسة التعاضد اغتياظا من النجاح ومكرا للتخلص من رموز البلاد والإبقاء على التبعية.

واذكر على سبيل المثال ما عاشته جهة الكاف خلال هذه الفترة من استقطاب وتكوين الإطارات وتنمية شاملة وإصلاحات وانجازات قطاعية وبعد حضاري وأمن واستقرار كمضرب الأمثال زمن الأستاذ المناضل عبد السلام القلال الوالي المثالي القدوة. لو أننا تابعنا الخطى على نسق منتظم دون هزات لفرص أهدرت (كتابه الحلم والمنعرج الخطأ) وكيف أصبحت هذه الجهة اليوم في انتظار إحياء الأمل من بعد الانزلاق. من التوجه الاجتماعي الإنساني الى المجتمع الليبرالي الأناني المجحف ومجتمع الرأسمال (1970- 1987).

الى ان جاء بيان 7 نوفمبر 1987 فالميثاق الوطني ومؤتمر الإنقاذ فمشروع التأهيل الشامل لمقومات الدولة. لكن فجأة وقع الاصطدام المفتعل مرة أخرى عبر التخلص من الوطنيين الصادقين الأحرار فالعولمة والخصخصة والكسب غير المشروع والفساد مما كان له الوقع الشديد على فئات واسعة فقرا وبطالة وعزلة ونزوحا وهجرة (1987– 2010 = 23 عاما).

مرحلة الفتن الكبرى (1955 – 2010 = 55 عاما)

تعددت غوائل الفتنة وتأثيرها على مدى عقود ظلما وطمسا للأسباب الحقيقية بنيران اختراق المستعمر الفرنسي علما أن فرنسا مرتبطة تاريخيا بالمحفل الماسوني اليهودي، وهو يعد خطرا على الإسلام اذ تنحدر منه نوادي ليونس (Lyons منذ 1917) الخيرية الهادفة الى اختراق العقلية الشبابية وجعلها في خدمة أهداف الماسونية العالمية ومنها صنع رؤساء وزعماء العالم للتحكم في العالم عن طريق المال والفساد تمهيدا لإنشاء الدولة الصهيونية اليهودية.

• طمس نشاط الحركة الطلابية الزيتونية التي قادت أول اصطدام مع الاستعمار في موقعة مقبرة الجلاز عام 1911 دفاعا عن الهوية الوطنية الأصلية.

• افتكاك مشروع الحزب الحرّ الدستوري التونسي من ثمرات نشاط حراك تمديدي وتنويري ذي روح إسلامية تحررية سنة 1919 وهو أحد الأحزاب السياسية الأعرق في العالم الثالث وما انجر عنه من خيبة وحسرة (نفي وإبعاد وتصفية وتهميش).

• احتدام الخلاف السياسي القيادي حول مفاوضات الاستقلال المغشوش التام او المرحلي (1955- 1956) فحصل صراع وانقسام لم ينته الا في حدود سنة 1961 وخلف شرخا كبيرا بين أبناء الشعب بل بين أبناء العائلة الدستورية.

• إلغاء التعليم الزيتوني وانتهاك رمضان وازدراء الحجاب وحل منظومة الأوقاف وانتهاك السيادة بالغزو الفكري والإعلامي والثقافي واللغوي وتهميش التربية الدينية لصالح الانزياح الى العلمانية وصولا الى تفكك مؤسسة الأسرة.

• تحويل كل ما هو جدير ومبوأ للخلافة كمزاحم في الحكم الى أكباش فداء بثمن باهظ وتضحية جسيمة وحسرة وأسى مسنودا من أذى المحيط العائلي لمركز السلطة مدعوما باختراق الاستعمار.

• حرب طاحنة على القيم وزرع الأنانية والمحسوبية والجهوية فازداد الكذب والنفاق والحقد والحسد والمطامح والتّواكل والغدر والغش والخداع والخيانة والانحراف كل ذلك انعكس سلبا على الإنسان بأمراض ابتلى بها المجتمع.

• ضرب الاخوة هدما للهوية بورقة تهمة الإرهاب بالمرتزقة بعدة أشكال منها التطرف الديني الإقصائي وظاهرة "داعش" وصناعة التضليل بأدوات الخداع والتهويل والتخويف وقصف العقول وشراء العمالات من اجل استدامة الاستنزاف وصولا الى الأحكام القضائية السياسية بالسجن والتعذيب والنفي والتصفية حتى ظهر الحق – معركة "طوفان الأقصى7 أكتوبر 2023" التي عرت الاستعمار بوصفه صانع الإرهاب.

• تلهية الشعب بالخطب المسرحية وتوظيف مجهود النخب والمجتمع والشعب لحساب وحيد الى جانب الوعود الضامنة نزعتها للتقدم التي لم تحقق طموحات الشعب في العدالة والاكتفاء والتوازن الجهوي والأفراد في حين أضرت صورة الإعلام والدعاية الكاذبة بتونس حفاظا على كرسي السلطة والمواقع والامتيازات.

إرهاصات ثورة الربيع العربي (2011 – 2024) = 13 عاما

ومع تفاقم السوء وتدهور الأوضاع تعاظم بالمقابل النضج السياسي للشعب الذي ابهر العالم ففاضت كأس الغضب وانفجرت ثورة الربيع العربي 17-14 جانفي 2011 افتكاكا للحقوق والحريات والديمقراطية فكان الانتقال عبر سن دستور 2014 وإرساء معظم المؤسسات والهيئات الدستورية وأتاح للنخب السياسية تداولا سلميا على السلطة.

غير أن تعطيل المسار كان - كالعادة - في الموعد بأوامر فرنسا رأس الحربة عبر قوى الثورة المضادة بالالتفاف والعصيان والاعتصامات والتّرذيل والإجهاض لكل برامج الإصلاح والتنمية الى جانب التحركات الاجتماعية (35 ألف إضراب) وإعلام غسل الأدمغة وتضليل الجماهير ومعاداة كل ما له علاقة بالإسلام مع تورّط غريب بالاغتيالات الإرهابية وبالتمويل من دوائر عربية ثرية.

مقاربة لمتطلبات المرحلة القادمة أخذا بدروس الماضي وبالرجوع الى دستور الثورة مع تنقيحه والاتّعاظ بتجارب غيرنا من الأمم فإن تونس في مرحلتها المصيرية لمناعة البلاد بدءا بجلاء أصابع الاستعمار نهائيا وتجاوز التركة الثقيلة نحو خيار ثورة الحرية والكرامة والديمقراطية والإصلاح الدؤوب والوقوف بجد خاصة على :

• تكريس علوية العدالة.

• استئناف الهياكل والمجالس المنتخبة.

• إرساء بقية المؤسسات والهيآت الدستورية وخاصة المحكمة الدستورية.

• مصارحة الشعب بكل الخلفيات وعوامل الانتكاس.

• تثبيت التداول السلمي على السلطة وحسن اختيار الإطار.

• الانعطاف القوي الى معالجة تحديات التنمية .

• تخليص البلاد من مخالب المديونية والهشاشة الاجتماعية.

• تطهير البلاد من اخطبوط الفساد.

• التصدي لاستغلال الثروات مجانا.

• المصالحة الشاملة بعد المحاسبة .

• ترسيخ السيادة الوطنية وترتيب العلاقات الدولية ومبدأ الاحترام ورد الاعتبار.

وخلاصة القول أمام العبث بالمؤسسات والسيطرة على مفاصل الدولة ومخزونها المالي والثروات زمن الدولة العميقة – فرنسا – والتركة الثقيلة (160 عاما) وجسامة المرحلة الانتقالية الحاسمة وصبغتها التاريخية المصيرية والمستقبلية يتأكد بالضرورة حسن اختيار الإطار حسب درجات المسؤوليات من القمة الى القاعدة بالاعتماد على شروط قوامها : الأمانة – الصدق – القدوة – الكفاءة – التجربة – التدرج في ظل المراقبة والمحاسبة ووضع حد للمجانية والمحسوبية. وبالمناسبة أتوجه بأربع رسائل عميقة الأنفاس:

*إلى القوى الاجتماعية والنقابية أن تعمل وتتحرّك بإخلاص للوطن كما كانت عليه منذ التأسيس أيام التحرير والاستقلال والبناء والتخطيط والإنتاج والوقوف بجد نحو التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا السياسات الحزبوية والتجاذبات الأيديولوجية.

*الى سلطة الإعلام في تثبيت الثورة وتطلّعات البلاد الى حرّيتها وكرامتها بتحصينها من مؤامرات الغزو الفكري والاحتواء والانحلال والفتن من أجل مجتمع متعافي متحضر متوازن بكل أمانة ومسؤولية.

*الى المجتمع المدني والسياسي وبالخصوص المؤسسات الدستورية والأحزاب السياسية أن تتحمل مسؤوليتها في التثقيف والتّوعية والتأطير والتعبئة خدمة للتقدم ومناعة البلاد في وعي وحكمة واعتدال ونبذ كل شطط بل إشاعة الأمل والثقة بالمستقبل.

*الى المواطن باعتباره صاحب السيادة التونسية فهو الحكم المحوري المتحلي بالوعي واليقظة والمبادرة والمتابعة والمحاسبة ضمن روح تضامنية ومدافعة على كل المكتسبات في وجه المخاطر والفتن والأنانية والفساد.

وبذلك نكون حقا أوفياء لشهدائنا وروّادنا، متمسكين بقوة الإيمان والوحدة الوطنية وإرادة الشعب عبر مسؤولية النخب حبّا لمستقبل الأجيال وتقدم البلاد في كنف العدالة والحرية والكرامة والديمقراطية والمناعة الكاملة.

كاتب سياسي

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews