إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

كنّا وكان لنا فيما مضى احتفاء بعيد الشّغل

مكانة بطحاء محمد علي ورمزيّتها تبقى في البؤبؤ

من منّا لم يجر على لسانه القول المشهور للفيلسوف وعالم الاقتصاد والناقد الاجتماعي الألماني كارل ماركس "يا عمال العالم اتّحدوا".

كنّا وكان لنا فيما مضى احتفالات وتجمهرات نعدّ لها العدّة قبل أسابيع وحتّى قبل أشهر احتفاء بعيد العمال العالمي أو عيد الشغل بالفكر والسّاعد. كانت تغمرنا الفرحة والبهجة ونحن ننتظر هذه الذكرى العالميّة التي كُرّست بعد نضالات متواصلة وقامت أساسا على مطلب العمال في مدينة شيكاغو الأمريكية بتخفيض ساعات العمل اليومي إلى ثماني ساعات تحت شعار"ثماني ساعات عمل، ثماني ساعات نوم، ثماني ساعات فراغ للراحة والاستمتاع". وقبل سنة 1956 في تونس، كانت حركة النضال النقابي تعاني من ضغوط شديدة وقمع من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية. كانت الحكومة الفرنسية تسعى إلى السيطرة الكاملة على الاقتصاد والعمل في تونس، مما جعل حركة النضال النقابي تواجه صعوبات كبيرة في التنظيم والتحرك. كان العمال يعملون في ظروف مهينة وغير آمنة، وغالبًا ما كانوا يتعرضون للاستغلال من قبل أصحاب العمل الفرنسيين.

 وكانت الاحتفالات بعيد العمال خلال هذه الفترة تمثل فرصة لتعزيز الوحدة والتضامن بين العمال والمجتمعات العمالية. كانت تُقام مسيرات واجتماعات للتأكيد على حقوق العمال والمطالبة بتحسين الظروف العملية، وكانت هذه الفعاليات تعبّر عن تماسك الطبقة العاملة واستعدادها للنضال من أجل مصالحها المشتركة. وكانت تمثل فرصة لتبادل الخبرات والتجارب بين العمال، ولبناء شبكات التضامن والتعاون في وجه القمع الاستعماري.

إنّ رمزيّة هذا اليوم التاريخي في حياة العاملات والعمال التونسيّين قد فقدت بريقها وانطفأت وكأنّها قد دُفنت في طيّ النّسيان. وأضحى يوم 1 ماي يوما عاديا لا يختلف عن بقيّة الأيام: إنّه فقط يوم راحة، يتوقف فيه العمل في كافة المؤسسات والإدارات والمصانع العمومية والخاصة.

شعرتُ في يوم 1 ماي 2024 أنّ الغربة تصفعني. يشدّني الحنين إلى سنوات خلت عشتها أمام مقرّ الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس. لقد افتقدتُ في هذه المناسبة العزيزة والغالية على الطبقة الشغيلة تلك الأجواء الحميميّة التي كنّا نعيشها أمام كلّ مقرّات الاتحادات الجهوية في كلّ أرجاء البلاد. كنّا نتبادل التّحايا والقبل والعناق. كان يوم 1 ماي من كلّ عام مهرجانا تتدفّق فيه أمواج من الشغالات والشغالين أمام بطاح مقرّات الاتحادات الجهوية للشغل. كانت فرصة للّقاء، لتجديد العهد، لأخذ العبر والدّروس ممّن سبقونا في النّضال النّقابي. وكنّا نقدّم بدورنا ما تيسّر لنا من تجارب لمن سيتسلّمون عنّا المشعل. كانت الأجواء مفعمة بحرارة العطف بين الأجيال وجمال الحبّ العميق للعمل النّقابي دون أن ننتظر من ذلك جزاء ولا شكورا.

 كنّا نتحلّق حول آبائنا وأمهاتنا النّقابيّين الذين خاضوا نضالات لا حصر لها ولا عدّ سواء زمن الاستعمار المباشر أو بعد 1956. وكانوا يسردون لنا كيف استبسلوا للحفاظ على المنظمة العتيدة الاتحاد العام التونسي للشغل. لقد جعلوا نصب أعينهم ما قدّمه مؤسّسو هذه المنظمة، وعلى رأسهم محمد علي الحامي وفرحات حشاد خالدي الذكر وغيرهم من الرجال الأشاوس، من غال ونفيس من أجل عزّة تونس وكرامتها ودفاعا عن كرامة العمال وصونا لحقوقهم المادّية والمعنويّة.

كنّا نحيي عيد العمال وفيه تقع مكافأة أفضل الكفاءات التي تميّزت بحبّها للعمل وتفانيها فيه والحرص على الإنتاجية العليا باتفاق مشترك بين الأجير والمؤجر. كان ليوم 1 ماي أيضا رمزيّة اسناد زيّ الشّغل تطبيقا لمقتضيات الفصل 366 من مجلة الشغل. وكان العمال بالفكر والساعد يجتمعون في كلّ الجهات لإحياء هذه الذكرى العزيزة عليهم.

 من كان يقول 1 ماي في تونس كان يرمز لاتحاد شغل الثوابت الذي عُرف بنكران الذّات وإعلاء قيمة العمل واحترام التّشريعات التي تنظم وعي العلاقات الشّغليّة.

إنّ يوم 1 ماي 2024 لا طعم له دون دعم انتفاضة الأقصى. وفي هذا الإطار نتساءل لماذا فقدت منظّمتنا دور القاطرة الذي كان دأبها وديدنها تجميع الكلّ؟ لقد كانت تُقيم الدّنيا ولا تُقعدها من أجل القضايا الوطنيّة والإقليميّة فتنظم المسيرات والاعتصامات وحملات التّبرع وتُرسل القوافل محملة أموالا وطعاما وملابس وأدوية.

وعلى العموم، فإنّ مكانة بطحاء محمد علي ورمزيّتها تبقى في البؤبؤ من مناضلي الاتحاد العام التونسي للشغل ومناضلاته رغم أنّنا نرى الاتحاد اليوم منزويا يقيّده فضاؤه الأخرس وتزعجنا أبواب مكاتبه الموصدة التي تجهض كلّ التّحايا لقد خلت الدّار من أبنائها وأجواء الاجتماعات واللّقاءات السّاخنة التي كانت تعبّر عن الوحدة والصّراع في الوقت نفسه وتعبّر عن أنّ الاتحاد هو بالفعل الخيمة التي تجمع كلّ النّقابيّين مهما كانت مشاربهم الفكرية والسياسيّة. إنّ الطبيعة تأبى الفراغ ويجب ألاّ تظلّ حال هذا الصّرح العتيد على ماهي عليه من موت سريريّ منذ سنوات.

مصدّق الشّريف

 

 

كنّا وكان لنا فيما مضى احتفاء بعيد الشّغل

مكانة بطحاء محمد علي ورمزيّتها تبقى في البؤبؤ

من منّا لم يجر على لسانه القول المشهور للفيلسوف وعالم الاقتصاد والناقد الاجتماعي الألماني كارل ماركس "يا عمال العالم اتّحدوا".

كنّا وكان لنا فيما مضى احتفالات وتجمهرات نعدّ لها العدّة قبل أسابيع وحتّى قبل أشهر احتفاء بعيد العمال العالمي أو عيد الشغل بالفكر والسّاعد. كانت تغمرنا الفرحة والبهجة ونحن ننتظر هذه الذكرى العالميّة التي كُرّست بعد نضالات متواصلة وقامت أساسا على مطلب العمال في مدينة شيكاغو الأمريكية بتخفيض ساعات العمل اليومي إلى ثماني ساعات تحت شعار"ثماني ساعات عمل، ثماني ساعات نوم، ثماني ساعات فراغ للراحة والاستمتاع". وقبل سنة 1956 في تونس، كانت حركة النضال النقابي تعاني من ضغوط شديدة وقمع من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية. كانت الحكومة الفرنسية تسعى إلى السيطرة الكاملة على الاقتصاد والعمل في تونس، مما جعل حركة النضال النقابي تواجه صعوبات كبيرة في التنظيم والتحرك. كان العمال يعملون في ظروف مهينة وغير آمنة، وغالبًا ما كانوا يتعرضون للاستغلال من قبل أصحاب العمل الفرنسيين.

 وكانت الاحتفالات بعيد العمال خلال هذه الفترة تمثل فرصة لتعزيز الوحدة والتضامن بين العمال والمجتمعات العمالية. كانت تُقام مسيرات واجتماعات للتأكيد على حقوق العمال والمطالبة بتحسين الظروف العملية، وكانت هذه الفعاليات تعبّر عن تماسك الطبقة العاملة واستعدادها للنضال من أجل مصالحها المشتركة. وكانت تمثل فرصة لتبادل الخبرات والتجارب بين العمال، ولبناء شبكات التضامن والتعاون في وجه القمع الاستعماري.

إنّ رمزيّة هذا اليوم التاريخي في حياة العاملات والعمال التونسيّين قد فقدت بريقها وانطفأت وكأنّها قد دُفنت في طيّ النّسيان. وأضحى يوم 1 ماي يوما عاديا لا يختلف عن بقيّة الأيام: إنّه فقط يوم راحة، يتوقف فيه العمل في كافة المؤسسات والإدارات والمصانع العمومية والخاصة.

شعرتُ في يوم 1 ماي 2024 أنّ الغربة تصفعني. يشدّني الحنين إلى سنوات خلت عشتها أمام مقرّ الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس. لقد افتقدتُ في هذه المناسبة العزيزة والغالية على الطبقة الشغيلة تلك الأجواء الحميميّة التي كنّا نعيشها أمام كلّ مقرّات الاتحادات الجهوية في كلّ أرجاء البلاد. كنّا نتبادل التّحايا والقبل والعناق. كان يوم 1 ماي من كلّ عام مهرجانا تتدفّق فيه أمواج من الشغالات والشغالين أمام بطاح مقرّات الاتحادات الجهوية للشغل. كانت فرصة للّقاء، لتجديد العهد، لأخذ العبر والدّروس ممّن سبقونا في النّضال النّقابي. وكنّا نقدّم بدورنا ما تيسّر لنا من تجارب لمن سيتسلّمون عنّا المشعل. كانت الأجواء مفعمة بحرارة العطف بين الأجيال وجمال الحبّ العميق للعمل النّقابي دون أن ننتظر من ذلك جزاء ولا شكورا.

 كنّا نتحلّق حول آبائنا وأمهاتنا النّقابيّين الذين خاضوا نضالات لا حصر لها ولا عدّ سواء زمن الاستعمار المباشر أو بعد 1956. وكانوا يسردون لنا كيف استبسلوا للحفاظ على المنظمة العتيدة الاتحاد العام التونسي للشغل. لقد جعلوا نصب أعينهم ما قدّمه مؤسّسو هذه المنظمة، وعلى رأسهم محمد علي الحامي وفرحات حشاد خالدي الذكر وغيرهم من الرجال الأشاوس، من غال ونفيس من أجل عزّة تونس وكرامتها ودفاعا عن كرامة العمال وصونا لحقوقهم المادّية والمعنويّة.

كنّا نحيي عيد العمال وفيه تقع مكافأة أفضل الكفاءات التي تميّزت بحبّها للعمل وتفانيها فيه والحرص على الإنتاجية العليا باتفاق مشترك بين الأجير والمؤجر. كان ليوم 1 ماي أيضا رمزيّة اسناد زيّ الشّغل تطبيقا لمقتضيات الفصل 366 من مجلة الشغل. وكان العمال بالفكر والساعد يجتمعون في كلّ الجهات لإحياء هذه الذكرى العزيزة عليهم.

 من كان يقول 1 ماي في تونس كان يرمز لاتحاد شغل الثوابت الذي عُرف بنكران الذّات وإعلاء قيمة العمل واحترام التّشريعات التي تنظم وعي العلاقات الشّغليّة.

إنّ يوم 1 ماي 2024 لا طعم له دون دعم انتفاضة الأقصى. وفي هذا الإطار نتساءل لماذا فقدت منظّمتنا دور القاطرة الذي كان دأبها وديدنها تجميع الكلّ؟ لقد كانت تُقيم الدّنيا ولا تُقعدها من أجل القضايا الوطنيّة والإقليميّة فتنظم المسيرات والاعتصامات وحملات التّبرع وتُرسل القوافل محملة أموالا وطعاما وملابس وأدوية.

وعلى العموم، فإنّ مكانة بطحاء محمد علي ورمزيّتها تبقى في البؤبؤ من مناضلي الاتحاد العام التونسي للشغل ومناضلاته رغم أنّنا نرى الاتحاد اليوم منزويا يقيّده فضاؤه الأخرس وتزعجنا أبواب مكاتبه الموصدة التي تجهض كلّ التّحايا لقد خلت الدّار من أبنائها وأجواء الاجتماعات واللّقاءات السّاخنة التي كانت تعبّر عن الوحدة والصّراع في الوقت نفسه وتعبّر عن أنّ الاتحاد هو بالفعل الخيمة التي تجمع كلّ النّقابيّين مهما كانت مشاربهم الفكرية والسياسيّة. إنّ الطبيعة تأبى الفراغ ويجب ألاّ تظلّ حال هذا الصّرح العتيد على ماهي عليه من موت سريريّ منذ سنوات.

مصدّق الشّريف

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews