إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قناع بلون السماء لباسم خندقجي .. الرَّحم الولَّادة

 

 

بقلم: عبد المجيد زراقط *

 

فازت رواية " قناع بلون السماء " ( دار الاَداب ، بيروت ، ط1 ، 2023) ، كما كان متوقَّعاً ، بـ" الجائزة العالمية للرواية العربية - البوكر " ، لدورة العام 2024 ؛ وهي الرواية الرابعة للرِّوائي والشاعر الفلسطيني ، باسم خندقجي ، السجين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، والذي حُكم بثلاث مؤبَّدات من محاكم هذا الاحتلال ، في شهر جويليه العام 2005 . وقد أعلنت سلطات الاحتلال ، عند وصول هذه الرواية للقائمة القصيرة ، لهذه الجائزة ، قرارها بعدم السماح بتسليمه الجائزة ، في حال فوز روايته بها .

 

يفيد إهداء الرواية تقدير الرِّوائي لقيمتين هما : " المبدئية دوماً " التي يتَّصف بها عمَّه خالد ، و" القوَّة أبداً " التي تتَّصف بها عمَّته نادية ، ابنة حارة الياسمين ، ويشكِّل التصدير فضاء القصِّ الدلالي :" هاويتي في صعود " ، وهاتان العلامتان تمثِّلان دالاًّ على أنَّ تلك القيمتين هما ما يتيح " الصعود من الهاوية " ، في الواقع الفلسطيني .

 

في هذا الفضاء الدلالي، نقرأ هذه الرواية .

 

العنوان :" قناع بلون السماء " دالٌّ، في قسمه الأوَّل : قناع ، على إخفاء الهوية الحقيقية ، والظهور بمظهر مغاير لها ، بغية السعي إلى تحقيق هدفٍ ما ، وفي قسمه الثاني على أنَّ هذا القناع بلون السماء ، فهل هو سماويُّ اللون ، أو يعلو بعلوِّ السماء ؟ وهذا يثير أسئلة منها : ماهو هذا القناع ؟ من يرتديه ؟ ماهدفه من ارتدائه ؟ هل حقَّق هدفه ؟

 

ليس ، في غلاف الرواية ، ما يشير إلى إجابات عن هذه الأسئلة ، ولا ما يدلُّ على هويَّة القناع وصاحبه ، وإنَّما نجد ما يشير إلى الفضاء الجغرافي للرواية : فلسطين، إضافة إلى فتى وفتاة عاديَّين ، يضع كلٌّ منهما نظارة سوداء على عينيه، ويعقد يديه على صدره ،ويبتسم ابتسامة خفيفة .

 

تفيد قراءة الرواية أنَّها تتألَّف من ثلاثة أقسام وسبعة فصول ، لكلِّ قسمٍ عنوان 1. نور. 2 أور 3. سماء ، فمن هم هؤلاء ؟ ومن منهم صاحب القناع ؟ وما علاقة كلٍّ منهم بالاَخر ؟ وما دوره في تحقيق الصعود من الهاوية ، ملتزماً بقيمتي المبدئية والقوّة ؟ وهل من علاقة " بلون السماء " بـ " سماء " ، الشخصية الرئيسية ، في القسم الثالث ؟

 

نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة ، في مايأتي :

 

هذا البناء الروائي المتخيَّل يصدر عن مرجعٍ واقعي ، من معالمه : الكورونا ، اشتباك المقدسيِّين وشرطة الاحتلال ، محاولات هدم حيِّ الشيخ جرَّاح ... . يسمِّي الروائي هذا البناء ، في فقرة " شكر وعرفان " ، واقع الرواية الخيالي ، ويضيف أنَّه ما كان ليكون لولا بيانات زُوِّد بها ، وعالجها روائياً .

 

تبدأ المعالجة الروائية ، في القسم الأول ، وعنوانه نور ، بالبطاقة الصوتية ، رقم 12 ، 19 أفريل ، 2021 ، فجر السابع من رمضان . في سبيل الرواية .

 

يفيد رقم البطاقة 12 ، أنَّ 11 بطاقة سبق أن سُجِّلت ، من قبل . وإذ نقرأ ما يلي العنوان نعرف أنَّ ما سبق كان محاولات يائسة أخفقت . لهذا يقرِّر أن يكتب الرواية بناء على معطيات تاريخية وأثرية ، وفي الوقت نفسه يردُّ على الخيال بمثله ، " فما التاريخ في النهاية سوى تخيُّل معقلن " ، كما يقول . وإذ يقرر ذلك يثير أسئلة عن كتابة الرواية ونشرها ، ويفكِّر في اعتماد مسارين زمنيَّين : زمن الماضي التاريخي وزمن الحاضر ، تيمُّناً برواية " أليف شافاق : قواعد العشق الأربعون " . ويضع تصوُّراً لأحداث الرواية : البطل روائي فلسطيني ، صمد في أرضه ، يسعى إلى كتابة رواية عن مريم المجدلية ، اسمه نسيم شاكر... . ويختم هذه البطاقة بملاحظة مفادها انزعاجه من مراد بسبب استخفافه بجهده البحثي . ونعرف، في ما بعد ، أنَّ مراد هو صديقه الوحيد ، وهو سجين منذ عشر سنوات ، ومحكوم بالمؤبَّد ، ما يثير سؤالاً هو : أليس في الواقع الفلسطيني من قضايا ليهتمَّ ذلك الروائي ، وتالياً السجين خندقجي ، بها ، ويكتب رواية عن مريم المجدلية ، يردُّ بها على ما جاء في رواية " شيفرة دافنشي " لـ"دين براون " التي جاء فيها أنَّ السيد المسيح تزوَّج مريم المجدلية ، وأنجب منها أطفالاً .

 

يلحظ قارئ هذه الرواية ، في ثناياها ، إجابة عن هذا السؤال ، فمن نحوٍ أوَّل ، يبدو لنور أنَّ السجن ، في فلسطين ، سجنان : صغير وكبير ، والروائي إنَّما يكتب عنهما ، ويتخذ البحث الروائي عن مريم المجدلية وسيلة إلى ذلك ؛ إذ تنتهي روايته :" قناع... " ، من دون أن يكتب رواية عن المجدلية بطلها نسيم شاكر ، وإنما يكتب رواية أخرى ، يمضي سياقها في مسارين : أوَّلهما، يرويه نور بضمير المتكلم ، ويتمثَّل في بطاقات صوتيَّة يسجِّلها في هاتفه المحمول ، يقدِّم فيها تصوُّره لرواية المجدلية ومعرفة بهذه القديسة وعطورها وعلو صيتها ... ، وهي محاولة لوضع مخطَّط لبحث روائي عن حقيقة مريم المجدلية التي سمُّيت بهذا الاسم نسبة إلى قريتها " المجدل " التي تقع على الساحل الغربي لـ"بحيرة طبريا"، تلي ذلك ملاحظات ورسائل إلى صديقه مراد يجري فيها حواراً معه يمليه الواقع المعيش ، وثانيهما قصٌّ يؤدِّيه الراوي العليم ، يروي وقائع الحياة الفلسطينية المعيشة من منظور الراوي نور ، وهو باحث مختصٌّ في التاريخ والاَثار ، وخرِّيج المعهد العالي للآثار الإسلامية ، التابع لجامعة القدس .

 

يقدِّم المسار الثاني معرفة روائية بالواقع الفلسطيني / السجن الكبير ، فنور مهدي الشهدي ، الشاب الثلاثيني ، ولد جاهزاً مجهَّزاً ، بكلِّ عتاد البؤس، المتاح في أزقَّة مخيَّم فلسطيني ، ليس من معنى له إلا عندما تُرتكب فيه المجزرة ، ليصبح اسماً من أسماء الماَسي ، في تاريخ الإنسانية ... ، وإغفال الاسم يفيد دلالة عامة . توفِّيت أمُّه ، بعد إنجابه بلحظات . أبوه ، بطل الانتفاضة ، كان في السجن . خذله الرفاق ، وعندما خرج بعد خمس سنوات ، وحلول "مايشبه السلام بسلطة وطنية " ، ألزمه الخذلان الصمت ، وامتهان بيع القهوة والشاي .

 

لقِّب نور، بسبب ملامحه ، بـ " السكناجي " =" الأشكنازي " . كدح أكثر من عامين لكي يوفِّر تكاليف الحياة الجامعية وأقساطها . تعلَّم اللغة العبرية ، وعمل مرشداً سياحيَّاً ، وفقد عمله ، بعد أن أرشد وفداً سياحياً إلى حقيقة الكيان الاستيطاني الصهيوني .

 

وإذ وجد بطاقة صهيونية زرقاء اللون ، من غير سوء ، باسم أور شابيرا ، في جيب معطف اشتراه من سوق الخردوات ، قرَّر أن يكون أور هذا قناعه ، إضافة إلى قناعين آخرين كان يمتلكهما ، هما ملامحه الأشكنازية واللغة العبرية .

 

ويكون القناع أور وسيلته إلى الذهاب إلى مهد رواية المجدلية ، في منطقة مجدُّو ، المحاذية لمرج بن عامر ، فيلتحق ببعثةٍ تبحث في الاَثار، في مستوطنة " مشمار هعيمق " . تدور بين نور وأور ، في هذا المكان ، حوارات ، نذكر منها : يقول نور لأور : أنا أرتديك كما أشاء، لا كما تشاء أنت ... ، أريد أن أستخدمك لأتحرَّر منك ...انتحال هويتك يمنحني كل البيانات التي أريدها لأتحرك في البلاد التي سلبتمونا إيَّاها ... ، أريد أن أستخدمك ، لأتحرَّر منك . وتحرُّره يعني العودة إلى الأصل / الأسماء الحقيقية ، فيجري هذا الحوار بينهما : نور : " كيف سنبلغ الَّلجون ؟ " ، أور : " بل ، قل كيف سنبلغ كيبوتس مجدُّو " ، نور : " بل الَّلجون ، إنها قرية بأكملها مدفونة تحت أقدامكم ... ، ياإلهي كم أنتم بارعون بإزالة اَثار الجريمة ، يارجل !؟ ... " . وهكذا يكون البحث ، في مهد رواية المجدلية ، كشف ، من طريق الاَثار ، لحقيقة الكيان الصهيوني الاستيطانية القائمة على التطهير العرقي، ، وكشف لزيف ادعاءاته الديمقراطية والاشتراكية وحقوق الإنسان .

 

يلتقي في موقع البحث عن الاَثار ، بالفلسطينية سماء ، التي تعلن أنَّها فلسطينية ، وتُعرِّف عن نفسها : سماء إسماعيل من حيفا ، من هذه البلاد. وأنَّ بطاقتها الزرقاء ، إنما هي قناع ، ويكتشف أنَّها مريم المجدلية النورانيَّة ، فتُظلم اَفاق روايته المجدلية ، وتحلُّ محلَّها تجلِّيات سماء .

 

وإذ يتوقَّف البحث في الآثار ، بسبب عمليَّات المقاومة ، يعود مع سماء، بعد أن يرمي قناعه: القلادة والبطاقة الزرقاء، ، وبهذا تكون هذه العمليَّات هي الرَّحم الذي يولد منها إنسان جديد ، وهو ما كان يريده ، عندما قال :" أنا المسخ الذي ولد من رحم النكبة والأزقَّة والحيرة والغربة والصمت ... ، أنا المسخ ، فهل من رحمٍ تلدني ، مرة أخرى ، إنساناً ؟ " ، فهل يمكن القول : إن كتاباته الشعرية والروائية ، ومنها هذه الرواية الكاشفة الواقع والتاريخ والمستقبل ، هي ذلك الرحم الذي يولد منه الإنسان البديل من المسخ ؟ مايعزِّز الإجابة بنعم هو أنَّ صديقه مراد ، السجين ، المقاوم في السجنين : الكبير والصغير ، يمثِّل " أناه الأعلى " .

قناع بلون السماء  لباسم خندقجي ..    الرَّحم الولَّادة

 

 

بقلم: عبد المجيد زراقط *

 

فازت رواية " قناع بلون السماء " ( دار الاَداب ، بيروت ، ط1 ، 2023) ، كما كان متوقَّعاً ، بـ" الجائزة العالمية للرواية العربية - البوكر " ، لدورة العام 2024 ؛ وهي الرواية الرابعة للرِّوائي والشاعر الفلسطيني ، باسم خندقجي ، السجين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، والذي حُكم بثلاث مؤبَّدات من محاكم هذا الاحتلال ، في شهر جويليه العام 2005 . وقد أعلنت سلطات الاحتلال ، عند وصول هذه الرواية للقائمة القصيرة ، لهذه الجائزة ، قرارها بعدم السماح بتسليمه الجائزة ، في حال فوز روايته بها .

 

يفيد إهداء الرواية تقدير الرِّوائي لقيمتين هما : " المبدئية دوماً " التي يتَّصف بها عمَّه خالد ، و" القوَّة أبداً " التي تتَّصف بها عمَّته نادية ، ابنة حارة الياسمين ، ويشكِّل التصدير فضاء القصِّ الدلالي :" هاويتي في صعود " ، وهاتان العلامتان تمثِّلان دالاًّ على أنَّ تلك القيمتين هما ما يتيح " الصعود من الهاوية " ، في الواقع الفلسطيني .

 

في هذا الفضاء الدلالي، نقرأ هذه الرواية .

 

العنوان :" قناع بلون السماء " دالٌّ، في قسمه الأوَّل : قناع ، على إخفاء الهوية الحقيقية ، والظهور بمظهر مغاير لها ، بغية السعي إلى تحقيق هدفٍ ما ، وفي قسمه الثاني على أنَّ هذا القناع بلون السماء ، فهل هو سماويُّ اللون ، أو يعلو بعلوِّ السماء ؟ وهذا يثير أسئلة منها : ماهو هذا القناع ؟ من يرتديه ؟ ماهدفه من ارتدائه ؟ هل حقَّق هدفه ؟

 

ليس ، في غلاف الرواية ، ما يشير إلى إجابات عن هذه الأسئلة ، ولا ما يدلُّ على هويَّة القناع وصاحبه ، وإنَّما نجد ما يشير إلى الفضاء الجغرافي للرواية : فلسطين، إضافة إلى فتى وفتاة عاديَّين ، يضع كلٌّ منهما نظارة سوداء على عينيه، ويعقد يديه على صدره ،ويبتسم ابتسامة خفيفة .

 

تفيد قراءة الرواية أنَّها تتألَّف من ثلاثة أقسام وسبعة فصول ، لكلِّ قسمٍ عنوان 1. نور. 2 أور 3. سماء ، فمن هم هؤلاء ؟ ومن منهم صاحب القناع ؟ وما علاقة كلٍّ منهم بالاَخر ؟ وما دوره في تحقيق الصعود من الهاوية ، ملتزماً بقيمتي المبدئية والقوّة ؟ وهل من علاقة " بلون السماء " بـ " سماء " ، الشخصية الرئيسية ، في القسم الثالث ؟

 

نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة ، في مايأتي :

 

هذا البناء الروائي المتخيَّل يصدر عن مرجعٍ واقعي ، من معالمه : الكورونا ، اشتباك المقدسيِّين وشرطة الاحتلال ، محاولات هدم حيِّ الشيخ جرَّاح ... . يسمِّي الروائي هذا البناء ، في فقرة " شكر وعرفان " ، واقع الرواية الخيالي ، ويضيف أنَّه ما كان ليكون لولا بيانات زُوِّد بها ، وعالجها روائياً .

 

تبدأ المعالجة الروائية ، في القسم الأول ، وعنوانه نور ، بالبطاقة الصوتية ، رقم 12 ، 19 أفريل ، 2021 ، فجر السابع من رمضان . في سبيل الرواية .

 

يفيد رقم البطاقة 12 ، أنَّ 11 بطاقة سبق أن سُجِّلت ، من قبل . وإذ نقرأ ما يلي العنوان نعرف أنَّ ما سبق كان محاولات يائسة أخفقت . لهذا يقرِّر أن يكتب الرواية بناء على معطيات تاريخية وأثرية ، وفي الوقت نفسه يردُّ على الخيال بمثله ، " فما التاريخ في النهاية سوى تخيُّل معقلن " ، كما يقول . وإذ يقرر ذلك يثير أسئلة عن كتابة الرواية ونشرها ، ويفكِّر في اعتماد مسارين زمنيَّين : زمن الماضي التاريخي وزمن الحاضر ، تيمُّناً برواية " أليف شافاق : قواعد العشق الأربعون " . ويضع تصوُّراً لأحداث الرواية : البطل روائي فلسطيني ، صمد في أرضه ، يسعى إلى كتابة رواية عن مريم المجدلية ، اسمه نسيم شاكر... . ويختم هذه البطاقة بملاحظة مفادها انزعاجه من مراد بسبب استخفافه بجهده البحثي . ونعرف، في ما بعد ، أنَّ مراد هو صديقه الوحيد ، وهو سجين منذ عشر سنوات ، ومحكوم بالمؤبَّد ، ما يثير سؤالاً هو : أليس في الواقع الفلسطيني من قضايا ليهتمَّ ذلك الروائي ، وتالياً السجين خندقجي ، بها ، ويكتب رواية عن مريم المجدلية ، يردُّ بها على ما جاء في رواية " شيفرة دافنشي " لـ"دين براون " التي جاء فيها أنَّ السيد المسيح تزوَّج مريم المجدلية ، وأنجب منها أطفالاً .

 

يلحظ قارئ هذه الرواية ، في ثناياها ، إجابة عن هذا السؤال ، فمن نحوٍ أوَّل ، يبدو لنور أنَّ السجن ، في فلسطين ، سجنان : صغير وكبير ، والروائي إنَّما يكتب عنهما ، ويتخذ البحث الروائي عن مريم المجدلية وسيلة إلى ذلك ؛ إذ تنتهي روايته :" قناع... " ، من دون أن يكتب رواية عن المجدلية بطلها نسيم شاكر ، وإنما يكتب رواية أخرى ، يمضي سياقها في مسارين : أوَّلهما، يرويه نور بضمير المتكلم ، ويتمثَّل في بطاقات صوتيَّة يسجِّلها في هاتفه المحمول ، يقدِّم فيها تصوُّره لرواية المجدلية ومعرفة بهذه القديسة وعطورها وعلو صيتها ... ، وهي محاولة لوضع مخطَّط لبحث روائي عن حقيقة مريم المجدلية التي سمُّيت بهذا الاسم نسبة إلى قريتها " المجدل " التي تقع على الساحل الغربي لـ"بحيرة طبريا"، تلي ذلك ملاحظات ورسائل إلى صديقه مراد يجري فيها حواراً معه يمليه الواقع المعيش ، وثانيهما قصٌّ يؤدِّيه الراوي العليم ، يروي وقائع الحياة الفلسطينية المعيشة من منظور الراوي نور ، وهو باحث مختصٌّ في التاريخ والاَثار ، وخرِّيج المعهد العالي للآثار الإسلامية ، التابع لجامعة القدس .

 

يقدِّم المسار الثاني معرفة روائية بالواقع الفلسطيني / السجن الكبير ، فنور مهدي الشهدي ، الشاب الثلاثيني ، ولد جاهزاً مجهَّزاً ، بكلِّ عتاد البؤس، المتاح في أزقَّة مخيَّم فلسطيني ، ليس من معنى له إلا عندما تُرتكب فيه المجزرة ، ليصبح اسماً من أسماء الماَسي ، في تاريخ الإنسانية ... ، وإغفال الاسم يفيد دلالة عامة . توفِّيت أمُّه ، بعد إنجابه بلحظات . أبوه ، بطل الانتفاضة ، كان في السجن . خذله الرفاق ، وعندما خرج بعد خمس سنوات ، وحلول "مايشبه السلام بسلطة وطنية " ، ألزمه الخذلان الصمت ، وامتهان بيع القهوة والشاي .

 

لقِّب نور، بسبب ملامحه ، بـ " السكناجي " =" الأشكنازي " . كدح أكثر من عامين لكي يوفِّر تكاليف الحياة الجامعية وأقساطها . تعلَّم اللغة العبرية ، وعمل مرشداً سياحيَّاً ، وفقد عمله ، بعد أن أرشد وفداً سياحياً إلى حقيقة الكيان الاستيطاني الصهيوني .

 

وإذ وجد بطاقة صهيونية زرقاء اللون ، من غير سوء ، باسم أور شابيرا ، في جيب معطف اشتراه من سوق الخردوات ، قرَّر أن يكون أور هذا قناعه ، إضافة إلى قناعين آخرين كان يمتلكهما ، هما ملامحه الأشكنازية واللغة العبرية .

 

ويكون القناع أور وسيلته إلى الذهاب إلى مهد رواية المجدلية ، في منطقة مجدُّو ، المحاذية لمرج بن عامر ، فيلتحق ببعثةٍ تبحث في الاَثار، في مستوطنة " مشمار هعيمق " . تدور بين نور وأور ، في هذا المكان ، حوارات ، نذكر منها : يقول نور لأور : أنا أرتديك كما أشاء، لا كما تشاء أنت ... ، أريد أن أستخدمك لأتحرَّر منك ...انتحال هويتك يمنحني كل البيانات التي أريدها لأتحرك في البلاد التي سلبتمونا إيَّاها ... ، أريد أن أستخدمك ، لأتحرَّر منك . وتحرُّره يعني العودة إلى الأصل / الأسماء الحقيقية ، فيجري هذا الحوار بينهما : نور : " كيف سنبلغ الَّلجون ؟ " ، أور : " بل ، قل كيف سنبلغ كيبوتس مجدُّو " ، نور : " بل الَّلجون ، إنها قرية بأكملها مدفونة تحت أقدامكم ... ، ياإلهي كم أنتم بارعون بإزالة اَثار الجريمة ، يارجل !؟ ... " . وهكذا يكون البحث ، في مهد رواية المجدلية ، كشف ، من طريق الاَثار ، لحقيقة الكيان الصهيوني الاستيطانية القائمة على التطهير العرقي، ، وكشف لزيف ادعاءاته الديمقراطية والاشتراكية وحقوق الإنسان .

 

يلتقي في موقع البحث عن الاَثار ، بالفلسطينية سماء ، التي تعلن أنَّها فلسطينية ، وتُعرِّف عن نفسها : سماء إسماعيل من حيفا ، من هذه البلاد. وأنَّ بطاقتها الزرقاء ، إنما هي قناع ، ويكتشف أنَّها مريم المجدلية النورانيَّة ، فتُظلم اَفاق روايته المجدلية ، وتحلُّ محلَّها تجلِّيات سماء .

 

وإذ يتوقَّف البحث في الآثار ، بسبب عمليَّات المقاومة ، يعود مع سماء، بعد أن يرمي قناعه: القلادة والبطاقة الزرقاء، ، وبهذا تكون هذه العمليَّات هي الرَّحم الذي يولد منها إنسان جديد ، وهو ما كان يريده ، عندما قال :" أنا المسخ الذي ولد من رحم النكبة والأزقَّة والحيرة والغربة والصمت ... ، أنا المسخ ، فهل من رحمٍ تلدني ، مرة أخرى ، إنساناً ؟ " ، فهل يمكن القول : إن كتاباته الشعرية والروائية ، ومنها هذه الرواية الكاشفة الواقع والتاريخ والمستقبل ، هي ذلك الرحم الذي يولد منه الإنسان البديل من المسخ ؟ مايعزِّز الإجابة بنعم هو أنَّ صديقه مراد ، السجين ، المقاوم في السجنين : الكبير والصغير ، يمثِّل " أناه الأعلى " .

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews